يصعب الجزم أيّهما أسوأ في لبنان اليوم. السلطة الغاشمة التي أسفرت عن أبشع وجوه التعاطي مع الشأن العامّ عبر فيديو الدردشة بين “الأستاذ” و”النجيب”، أم قطاعات واسعة مريضة من الشعب اللبناني، لم تتأخّر لحظة عن رسم خطوط التماس المذهبي بين “توقيت المسلمين” و”توقيت المسيحيّين”.
فيديو “الأستاذ والنجيب”، يكشف عن كلّ ما هو خطأ في لبنان ويمكن له أن يكون أقصر تأريخ مصوَّر لماذا وصلنا إلى ما وصلنا إليه.
النجيب كرئيس حكومة
النجيب، كرئيس حكومة، هو رأس السلطة التنفيذية، التي لا يُخفي الأستاذ، شهواته المزمنة بشأنها، على الرغم من أنّه رئيس المجلس “السيّد نفسه” والذي لا يقبل الأستاذ المسّ بصلاحيّاته ودوره وموقعه انطلاقاً من التزامه اللاهوتي باتفاق الطائف وبند الفصل بين السلطات.. مع ذلك تجاوز الأستاذ بعض إيمانه بالفصل بين السلطات وأعطى تعليماته للنجيب الذي بدوره التزم بها على الرغم من مخالفتها للدراسة التي أعدّها بنفسه حول إشكاليات عدم الالتزام بالتوقيت الصيفي العالمي..
ما حصل فضيحة لأنّه يعبّر عن عقلية متخلّفة في إدارة الشأن العامّ، وممارسة المسؤولية، وعمل السلطات، وهي العقليّة التي أوصلت لبنان إلى ما وصل إليه
“أيَّ طيران”، قال الأستاذ للنجيب، وكأنّ لبنان قد أتمّ طلاقه مع العالم برمّته وما عاد يقلع أو يحطّ عندنا مَن يجب أخذ ترتيباتهم بعين الاعتبار بإزاء قرار مثل هذا القرار. وكاد، لو ألحّ النجيب، أن يقول الأستاذ “بلا طيران بلا بطّيخ”، ولا أستبعد أن يضيف “آبل وكلّ منتجاتها متل هونيك شغلة يا نجيب.. الدني رمضان.. ولو!!”.. وطبعاً سيتناسى النجيب أنّه من آل الميقاتي، أي الأسرة التي يُقال أنها أخذت اسمها من مهنة تحديد مواقيت الصلاة عند المسلمين فجراً وظهراً وعصراً ومغرباً وعشاء.. لا بأس أن يكون الأستاذ، هو الأستاذ وهو “الميقاتي” في الآن عينه، بمعنى الميقاتي كمهنة والميقاتي كموقع دستوري…
التوقيت الصيفيّ يلائم لبنان
من المفارقات أنّ أسباب نشأة التوقيت الصيفي تلائم متطلّبات لبنان الحالي أكثر من غيره.
“فخدعة” تقديم الساعة إلى الأمام بمقدار ساعة واحدة خلال أشهر الصيف كانت تهدف إلى إطالة ساعات النهار وتأخير عتمة المساء لساعة إضافية. بدأت الفكرة بشبه مزحة في مقال لبنجامين فرانكلين في عام 1784، كآليّة لتوفير الإنفاق على الشموع في المساء والليل، واكتساب ساعة مسائية إضافية بفضل ضوء الشمس أو بقاياها. وعُرفت لهذا الأمر تطبيقات متفرّقة ولأسباب متعدّدة، قبل أن تؤسّس ألمانيا في عام 1916 قواعد التطبيق الحديث لـهذه “الخدعة”. وتمّ اعتماد إجراء تقديم الساعة لأوّل مرّة كإجراء في زمن الحرب بهدف توفير الطاقة، وما لبث أن انتشر بسرعة في جميع أنحاء أوروبا وأميركا الشمالية. تبنّته الولايات المتحدة في عام 1918، لتعود وتلغيه بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، ثمّ استأنفت العمل به خلال الحرب العالمية الثانية، وعزّزت اعتماده خلال أزمة النفط في السبعينيّات.
إذاً ارتبط التوقيت الصيفي بالأزمات الكبرى وبالحاجة إلى الاستفادة من ضوء النهار وتأخير حلول المساء ولو بمقدار ساعة. أليس هذا ما يحتاج إليه اللبنانيون في ظلّ واقع التردّي في قطاع الكهرباء وارتفاع كلفة المحروقات على المواطنين بسبب الانهيار المريع للقدرة الشرائية وتبخّر قيمة العملة المحلّية؟!!
[VIDEO]
أمّا ذريعة تسهيل ساعات الصوم على الصائمين المسلمين، بحجّة تأخير ذهابهم إلى العمل ساعة في الصباح، ومنحهم بالتالي ساعة إضافية للراحة والنوم، ففيها افتراض مبالَغ فيه أنّ للناس في لبنان وظائف ودوامات ودورة عمل متكاملة تستوجب ترتيبات من نوع ترتيب “الأستاذ والنجيب”. هل تنبّه المسؤولان الكبيران إلى أنّ موظّفي القطاع العام لا يداومون في دوائرهم منذ فترة طويلة جدّاً؟ هل هم على دراية بحجم المعاملات المتراكمة في الدوائر العقارية والنافعة والوزارات والمصالح والمؤسّسات بسبب عدم قدرة الموظّفين على الوصول إلى أشغالهم لأنّ الرواتب ما عادت تغطّي نفقات التنقّل ليوم واحد؟؟وحدِّث ولا حرج عن القطاع الخاص بانهياره اللاحق بالانهيار العام في البلاد.
كان يمكن، لو أنّ هناك ضرورة فعليّة لعدم تقديم الساعة، أن يستدعي رئيس الحكومة ممثّلي الهيئات الاقتصادية والتجارية وأن يتّفق معها على تقديم بداية دوام العمل ساعة واحدة وأن يوعز بما هو مماثل إلى القطاع العام، وأن يبقي بالتالي على التزام لبنان بالتوقيت الصيفي العالمي، الذي يرتبط بحركة المطار والحركة المالية وغيرها من الأنشطة التي ما تزال تربط بين لبنان والعالم.
الفضيحة
ما حصل فضيحة لأنّه يعبّر عن عقلية متخلّفة في إدارة الشأن العامّ، وممارسة المسؤولية، وعمل السلطات، وهي العقليّة التي أوصلت لبنان إلى ما وصل إليه. أمّا بعض ردّة الفعل الشعبية فهي تعبير أكثر إثارة للغثيان، مع تحويل السجال حول التوقيت الصيفي إلى متراس طائفي بين اللبنانيين، وسيف يُضاف إلى سيوف التخلّف التي بها يقطعون المزيد من حبال الوصل والعيش المشترك بينهم.
إقرأ أيضاً: إقتراح للإنقاذ: المداورة في الرئاسات
العنجهيّة المغلّفة “بالهضامة” المنتهية الصلاحيّة، التي مارسها برّي، هي تعبير عن المشكل الحقيقي في لبنان، وهو هيمنة أكثر التجارب السياسية تخلّفاً في تاريخ البلد على مقاليد الحكم والإدارة. نبيه برّي هو بهذا المعنى الدولة العميقة الأصلية للمنظومة التي أخذت البلاد إلى جهنّم.
الخضوع المرَضيّ الذي مارسه نجيب ميقاتي حيال تعليمات الأستاذ تعبير آخر عن الاختلال المرعب في توازن النظام السياسي، والذي يقول علناً لكلّ من يريد أن يكون رئيس حكومة الآن ومستقبلاً، إنّ خضوعك هو بوّابة التكليف وبوّابة التشكيل وبوّابة الحكم.
ردّ الفعل المذهبي، المسلم المستقوي بفرض عدم تقديم الساعة، والمسيحي الذي لم يرَ في ما حصل إلا لحظة تنافس طائفي مع المسلمين، تعبير ثالث عن أنّنا ما عدنا نعيش في دولة فاشلة وحسب، بل في مجتمع فاشل، بات هو العنوان الأوّل للجحيم.
لمتابعة الكاتب على تويتر: NadimKoteich@