عبد الرحمن مجيد الربيعي: حارس ذاكرة خطفه النسيان

مدة القراءة 5 د

حين قرّر عبد الرحمن مجيد الربيعي الإقامة في تونس بعيداً عن بغداد في ثمانينيات القرن الماضي، فعل ذلك من أجل أن يكتب كما يحبّ. كانت الحرّية هدفه.

حفلت حياته بالمتناقضات. فهو على سبيل المثال درس الرسم في معهد وأكاديمية الفنون الجميلة ببغداد، غير أنّه حين تخرّج قرّر أن يتفرّغ كلّياً لكتابة الشعر والقصة القصيرة والرواية، وعمل في الصحافة.

ربّما يكون الربيعي هو الروائي العراقي الوحيد الذي يُعاد طبع أعماله مرّات عديدة، بحيث بلغ ما طُبع من روايته “الوشم”، وهي روايته الأولى، ثماني طبعات. وكانت “الوشم” كباقي أعماله الروائية ذات طابع سياسي.

عبد الرحمن الربيعي هو من أكثر الأدباء العراقيين شهرة خارج العراق. ارتبط بصداقات عميقة مع عدد كبير من الأدباء العرب. كتب عنهم وكتبوا عنه، غير أنّ الأهمّ في علاقاته هو ذلك الطابع الإنساني الذي ميّز صلته بالآخرين

العراقيّ المسافر

على الرغم من أنّه كتب عن تجارب إنسانية محلّية، اكتسب صيتاً على المستوى العربي. ذلك لأنّه نشر كتبه وعاش في غير مدينة عربية إلى أن حصل على الجنسية التونسية منتصف تسعينيات القرن الماضي.

عبد الرحمن الربيعي هو من أكثر الأدباء العراقيين شهرة خارج العراق. ارتبط بصداقات عميقة مع عدد كبير من الأدباء العرب. كتب عنهم وكتبوا عنه، غير أنّ الأهمّ في علاقاته هو ذلك الطابع الإنساني الذي ميّز صلته بالآخرين.

عمل الربيعي في السلك الدبلوماسي فكان ملحقاً صحافياً في سفارتَي العراق ببيروت وتونس. لم تخِفه الحرب الأهلية في لبنان بقدر ما سحره أن يكون قريباً من روّاد مجلّة شعر.

حين تلتقيه يفتح أمامك أوراق ذاكرته. هو رجل ذو ذاكرة من طراز خاص. لذلك كان مستغرباً أن يُصدر كتابين فقط في السيرة الذاتية.

كان عبد الرحمن الربيعي رائداً ومجدّداً في مجال القصة القصيرة.

الرسّام في سيرته القصصيّة

ولد عبد الرحمن مجيد الربيعي في الناصرية جنوب العراق عام 1939. درس الرسم في بغداد. وحين تخرّج أصدر مجموعته القصصية الأولى “السيف والسفينة” عام 1966. كان ما يزال يومها مسكوناً بروح الرسّام. قال تعليقاً على علاقة قصصه بالرسم: “يمكن إرجاع كلّ قصة إلى انبهاري بهذا الفنّان أو تلك التقنيّة”.

عمل الربيعي في الصحافة مشرفاً على الصفحات الثقافية، ومارس التدريس لفترة وجيزة، ثمّ انتقل إلى العمل في المؤسسات الثقافية. ومنها انتقل إلى السلك الدبلوماسي حيث عمل مديراً للمركز الثقافي العراقي في بيروت وتونس. وفي منتصف التسعينيات استقرّ في تونس ولم يعد إلى بغداد إلا في السنوات الأخيرة حين اشتدّ عليه المرض.

عاش عبد الرحمن مجيد الربيعي حياته كلّها وهو ينقّب في الذاكرة بحثاً عن الحكايات، وحين أسدل النسيان ستائره لم يبقَ له سوى أن يلوّح لنا مودّعاً

أصدر الربيعي سبع روايات:

– الوشم” التي صدرت عام 1972.

– آخِرتها “نحيب الرافدين” التي صدرت عام 2011.

– ما بينهما صدرت “الأنهار”، “القمر والأسوار”، “الوكر”، “خطوط الطول خطوط العرض” و”هناك في فجّ الريح”.

وأصدر عشر مجموعات قصصية كانت آخِرتها “سرّ الماء” التي صدرت عام 1993، وأربعة كتب شعرية هي “الحبّ والمستحيل”، “شهريار يبحر”، “امرأة لكلّ الأعوام”، و”علامات على خارطة القلب”.

وأخيراً أصدر سيرته الذاتية: “أيّة حياة هي؟ سيرة البدايات”، “من ذاكرة تلك الأيام. جوانب من سيرة ذاتية” .

 

قال وداعاً لأشياء كثيرة

“الأدب هو الحرّية. لا كتابة أدبية والسهم مسدّد إلى قلبك. لن يكون نصّك ثائراً ومتجاوزاً إذا كانت حرّيتك مصادَرة وكلماتك تخضع لألف تأويل وتأويل”، يقول عبد الرحمن الربيعي كما لو أنّه يصف مسار حياته وسيرته الأدبية، وهو الذي عاش متمرّداً وواقفاً في لحظة قطيعة دفعت به إلى لحظة عزلة فضّلها على أن ينتمي إلى القطيع.

في رواية “الوشم”، وهي أشهر رواياته، يقول البطل “عش لنفسك فقط لا لشيء آخر. سافر واضحك وامش. فهذا خير حلّ للأمور”. أليس هذا ما فعله الربيعي وقد تفرّغ لأدبه بعيداً عن إملاءات الوظيفة؟ مبكراً قال الربيعي: “وداعاً” لأشياء كثيرة. كان صانع صداقات ولم يكن رجل علاقات عامّة. لقد اكتسب الكثير من مواهب الحياة من مهنته كاتباً. ولو لم يكن كاتباً لكان شخصاً آخر. هو صنيعة الكاتب وليس العكس.

إقرأ أيضاً: سيرة المختفين… والتفّاحات الأربع

من الذاكرة إلى النسيان

“صانع حكايات”، ذلك هو عبد الرحمن الربيعي. ليست تلك الحكايات التي كتبها، بل أيضاً الحكايات التي كان يرويها عن حياته وحيوات الآخرين. يشبّهه البعض بالمؤسّسة من جهة تفانيه في خدمة مشروعه الأدبي. ربّما كان ذلك سبباً في سوء الفهم الذي كان يقع فيه الآخرون. كان حضوره الدائم يزعج البعض على الرغم من أنّ الربيعي شخصياً لم يكن ذلك الشخص المزعج. ومن عرفه عن قرب يدرك كم كان منفتحاً على نتاجات الآخرين الأدبية، فلا تزعجه نجاحاتهم، بل العكس هو الصحيح، إذ كان يروّج لتلك النجاحات.

يقول الربيعي: “لقد عشت حياتي بكثير من الصدق والصفاء بعيداً عن الإذعان والرضوخ والامتثال. إذا لم يستوعبني أحد بشكل كامل، فهناك دائماً ما هو صعب وعصيّ في شخصي”.

عاش عبد الرحمن مجيد الربيعي حياته كلّها وهو ينقّب في الذاكرة بحثاً عن الحكايات، وحين أسدل النسيان ستائره لم يبقَ له سوى أن يلوّح لنا مودّعاً.

*كاتب عراقي

مواضيع ذات صلة

مع وليد جنبلاط في يوم الحرّيّة

عند كلّ مفترق من ذاكرتنا الوطنية العميقة يقف وليد جنبلاط. نذكره كما العاصفة التي هبّت في قريطم، وهو الشجاع المقدام الذي حمل بين يديه دم…

طفل سورية الخارج من الكهف

“هذي البلاد شقّة مفروشة يملكها شخص يسمّى عنترة  يسكر طوال الليل عند بابها ويجمع الإيجار من سكّانها ويطلب الزواج من نسوانها ويطلق النار على الأشجار…

سوريا: أحمد الشّرع.. أو الفوضى؟

قبل 36 عاماً قال الموفد الأميركي ريتشارد مورفي للقادة المسيحيين: “مخايل الضاهر أو الفوضى”؟ أي إمّا القبول بمخايل الضاهر رئيساً للجمهورية وإمّا الغرق في الفوضى،…

السّوداني يراسل إيران عبر السعودية

 لم يتأخّر رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني ومعه قادة القوى السياسية في قراءة الرسائل المترتّبة على المتغيّرات التي حصلت على الساحة السورية وهروب رئيس…