تونس: استبداد بنكهة شعبويّة

مدة القراءة 9 د

تشهد تونس أزمة سياسية دستورية حادّة منذ تعليق عمل البرلمان في 25 تموز عام 2021، ورفع حصانة النواب، وإزاحة حكومة هشام المشيشي، وتولّي رئيس الجمهورية إدارة الدولة بمراسيم، إضافة إلى رئاسة النيابة العامّة، وما تبع ذلك من إجراءات، وكلّها استناداً إلى الفصل (المادة) 80 الذي ينصّ على الحالات الاستثنائية في السلطة، وهو ما جعل الرئيس قيس سعيّد يمسك بيده كلّ السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، من حلّ مجلس القضاء الأعلى في 6 شباط عام 2022، وحلّ البرلمان في 30 آذار منه، والاستفتاء على دستور جديد في 25 تموز من العام نفسه الذي شارك فيه أقلّ من ثلث الناخبين، وهو ما يكنس كلّ منجزات ثورة الياسمين في تونس، التي تتمثّل بدستور عام 2014. ثمّ الانتخابات النيابية على مرحلتين بين 17 كانون الأول 2022 و29 كانون الثاني من العام الحالي، بنسبة اقتراع هي الدنيا محلّياً وعالمياً، إذ بلغت 11.2% في الجولة الأولى، و11.4% في الجولة الثانية، نتيجة المقاطعة الشاملة لأحزاب المعارضة. وكلّ خطوة من هذه الخطوات تفتقر إلى التسويغ القانوني الدستوري، إن من حيث تأويل المادّة 80 من الدستور بشكل متناقض مع نصّ المادّة وروحها، وكذلك ما يتعلّق بحلّ البرلمان. أمّا ما يخصّ التمهيد لسنّ مشروع دستور جديد، فقد شابته شوائب عدّة، من استبعاد المعارضة في الاستشارات، بسبب مخالفتها له، فضلاً عن تقديم مسوّدة مشروع دستور مختلفة كثيراً عن النسخة التي أعدّها أستاذ القانون الدستوري الصادق بلعيد، وانخفاض المشاركة الشعبية في الاستفتاء وفي الانتخابات النيابية بمرحلتَيها. الأكثر سوءاً من ذلك أنّ آراء أستاذ القانون الدستوري السابق قيس سعيّد ترفض النظام الديمقراطي النيابي السائد في العالم، أي التمثيل غير المباشر عبر نواب البرلمان، ويستعيد معالم النظام الديمقراطي المباشر الذي كان منشؤه في اليونان في العصور القديمة، ومن بعض تجلّياته الحديثة إلى حدّ ما الاتحاد الفدرالي في سويسرا، المتعدّدة القوميات واللغات، والمكوّنة من كانتونات مستقلّة ذاتياً، وتجربة مؤتمر الشعب العام في ليبيا أيّام معمّر القذافي (قُتل عام 2011 عقب ثورة شعبية). وهذا المؤتمر هو الملتقى العام للمؤتمرات الشعبية واللجان الشعبية والاتحادات والنقابات والروابط المهنية، وهو يوازي البرلمان في النظام النيابي.  

تشهد تونس أزمة سياسية دستورية حادّة منذ تعليق عمل البرلمان في 25 تموز عام 2021، ورفع حصانة النواب، وإزاحة حكومة هشام المشيشي، وتولّي رئيس الجمهورية إدارة الدولة

الانقلاب على الدستور بالدستور
استند الرئيس سعيّد إلى الفصل 80 من دستور عام 2014، وعاد نصّه في الدستور الجديد مع تعديلات طفيفة. وإذا كان هو الأساس القانوني لانقلابه على البرلمان، فإنّ مجرّد استعراضه يؤكّد هشاشة الاعتماد عليه لتشريع ما سنّه من نظام جديد. تقول المادّة المذكورة: “لرئيس الجمهورية في حالة خطر داهم مهدِّد لكيان الوطن وأمن البلاد واستقلالها، يتعذّر معه السير العادي لدواليب الدولة، أن يتّخذ التدابير التي تحتّمها تلك الحالة الاستثنائية، وذلك بعد استشارة رئيس الحكومة، ورئيس مجلس نواب الشعب، وإعلام رئيس المحكمة الدستورية، ويعلن عن التدابير في بيان إلى الشعب. ويجب أن تهدف هذه التدابير إلى تأمين عودة السير العادي لدواليب الدولة في أقرب الآجال. ويُعتبر مجلس نواب الشعب في حالة انعقاد دائم طيلة هذه الفترة. وفي هذه الحالة، لا يجوز لرئيس الجمهورية حلّ مجلس نواب الشعب كما لا يجوز تقديم لائحة لوم ضدّ الحكومة. وبعد مضيّ ثلاثين يوماً على سريان هذه التدابير، وفي كلّ وقت بعد ذلك، يُعهد إلى المحكمة الدستورية بطلب من رئيس مجلس نواب الشعب أو ثلاثين من أعضائه البتُّ في استمرار الحالة الاستثنائية من عدمه. وتصرّح المحكمة بقرارها علانية في أجل أقصاه خمسة عشر يوماً ويُنهى العمل بتلك التدابير بزوال أسبابها. ويوجّه رئيس الجمهورية بياناً في ذلك إلى الشعب”.

إذاً تفرض المادة 80 من الدستور السابق شروطاً موضوعية وشكلية، حتى تكون قابلة للتطبيق:

أولاً، الشروط الموضوعية: وجود خطر داهم يهدّد كيان الوطن ويتعذّر معه السير العادي لدواليب الدولة. وهذا الخطر الذي شخّصه سعيّد، تمهيداً لقرار الإمساك بالسلطة، هو الظروف الاجتماعية والاقتصادية الصعبة التي كانت تونس تمرّ بها منذ تكليف هشام المشيشي بتكوين الحكومة، جرّاء السياسات المعتمدة منها، والتأثيرات السياسية للحزام السياسي الداعم لها، من قبيل تأثيرات جائحة كورونا، طبّياً وماليّاً، ومظانّ القصور والفساد، فضلاً عن التدهور المالي مع وصول نسبة الدين العام عام 2021 إلى 90% من الناتج المحلي الإجمالي، أي حوالى 100 مليار دينار (30.3 مليار دولار)، وتعطّل سير المرفق القضائي لجهة عدم تجاوب النواب مع مطالب رفع الحصانة عن بعض الأعضاء، وارتكاب أخطاء دستورية من الحكومة، والمصادقة على قوانين لا تخدم مصلحة البلاد والعباد، علاوة على التعيينات الحزبية في الوظائف المدنية العليا، وذلك حسب ما ورد في وثيقة مسرّبة موجّهة إلى ديوان الرئاسة في 13 أيار 2021. ويمكن النقاش كثيراً في صلاحية هذه الظروف التي عاشها معظم بلدان العالم، أثناء انتشار الوباء، أو الصعوبات الاقتصادية التي تضرب كثيراً من البلدان، في بعض الأزمان، أو أزمة الصلاحيات بين الرئاسة والبرلمان، في نظام مختلط رئاسي-برلماني. لكنّ هذا لا يسوّغ إعلان حالة الاستثناء، والانقضاض على المؤسّسات الدستورية وتغيير النظام برمّته.

ثانياً، الشروط الشكليّة: أي استشارة رئيس الحكومة، ورئيس مجلس نواب الشعب، وإعلام رئيس المحكمة الدستورية، والإعلان عن التدابير في بيان إلى الشعب. وبما أنّه أعفى رئيس الحكومة المشيشي عقب تعليق عمل البرلمان، وكان على خصومة مع رئيس البرلمان زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي، ولم يكن ثمّة محكمة دستورية، فلم ينفّذ الرئيس التونسي سوى الشرط الأخير، وهو الإعلان عن التدابير في بيان إلى الشعب. على أنّ للمادّة المذكورة تتمّات لا تقلّ أهمية، وهي أنّ مجلس نواب الشعب يكون في حالة انعقاد دائم طوال هذه الفترة، أي زمن تطبيق حالة الاستثناء. ولا يجوز لرئيس الجمهورية حلّ مجلس نواب الشعب، ولا يجوز تقديم لائحة لوم ضدّ الحكومة. لكنّ الرئيس أسقط الحكومة، ثمّ حلّ البرلمان. وكان من المفروض أن يُعهد إلى رئيس مجلس نواب الشعب أو ثلاثين من أعضائه البتُّ في استمرار الحالة الاستثنائية من عدمه بطلب إلى المحكمة الدستورية بعد مضيّ ثلاثين يوماً على سريان هذه التدابير. لكنّ الرئيس قيس سعيّد فرّغ المادة من مضمونها، فلا محكمة دستورية تبتّ بقاء حالة الاستثناء، ولا مجلس نواب يطلب من المحكمة الدستورية الاستمرار في هذه الحالة أو رفعها.

يستند الرئيس سعيّد إلى أفكار البناء السياسي من القاعدة نحو الهرم، بالتوافق مع آراء يساريين هامشيين منضوين في “قوى تونس الحرّة”، ومن أشهر منظّريهم رضا شهاب المكّي، الملقّب بـ”رضا لينين”

نظام رئاسيّ مطلق
أمّا الدستور الجديد فقد حوّل النظام التونسي إلى نظام رئاسي كامل، بعدما كان شبه رئاسي يتنازع فيه رئيس الجمهورية مع رئيس البرلمان. تضخّمت صلاحيات الرئيس، فلم تقتصر على صلاحيات الدفاع والخارجية فحسب كما نصّ عليها دستور 2014، بل توسّعت لتشمل حقّ تعيين رئيس الحكومة، وبقيّة أعضائها باقتراح من رئيس الحكومة، كما يُخوِّله الدستور إقالتها من دون أن يكون للبرلمان أيّ دور، وحقّ تعيين القضاة بعد تقديم ترشيحاتهم من جانب المجلس الأعلى للقضاء. وللرئيس، القائد الأعلى للقوات المسلّحة، صلاحية ضبط السياسة العامة للدولة وتحديد خياراتها الأساسية، وكأنّ الدستور التونسي الجديد استنساخ للدستور اللبناني قبل اتفاق الطائف عام 1989.

في مواجهة البرلمان، فإنّ لمشاريع القوانين التي يقترحها الأولوية للنظر فيها من النواب. ونصّ الدستور الجديد على إمكانية سحب الوكالة الشعبية من النواب المنتخبين، وفق مبادئ الديمقراطية المباشرة. ونشأت غرفة ثانية، بالإضافة إلى “مجلس نواب الشعب”، هي “المجلس الوطني للجهات والأقاليم”. وتتألّف الغرفة الثانية من منتخبين من قبل أعضاء المجالس الجهوية ومجالس الأقاليم. ولم يتضمّن الدستور بنوداً لإقالة الرئيس، خلافاً لما ورد في دستور عام 2014، في حين أنّه يمنحه حقّ حلّ البرلمان والمجلس الوطني للجهات.

أيديولوجية البناء القاعديّ
يستند الرئيس سعيّد إلى أفكار البناء السياسي من القاعدة نحو الهرم، بالتوافق مع آراء يساريين هامشيين منضوين في “قوى تونس الحرّة”، ومن أشهر منظّريهم رضا شهاب المكّي، الملقّب بـ”رضا لينين”. وممّا جاء في برنامجه الرئاسي عام 2019، متوجّهاً إلى التونسيين: “إنّ السبيل للتعبير عن إرادتكم الحقيقيّة هو إعادة البناء من القاعدة، من المحلّيّ نحو المركز، حتّى تكون القوانين والتشريعات كلّها على اختلاف أصنافها ودرجاتها معبّرة عن إرادتكم”.

إقرأ أيضاً: الديانة الإبراهيميّة.. “فانتازيا” التطبيع

وأضاف: “إنّ التأسيس الجديد، تحت شعار “الشعب يريد”، ينطلق من قراءة لهذه المرحلة التّاريخيّة لا في تونس فحسب، بل في العالم بأسره. فقد دخلت الإنسانيّة مرحلة جديدة من تاريخها لم يعد بالإمكان تنظيمها بمفاهيم بالية تحوّلت بفعل هذا التطوّر إلى عقبة أمام فكر سياسي جديد صنعته الشعوب وتجاهله الكثيرون ممّن ما زالوا يعتقدون أنّهم صفوة الصّفوة ونخبة النخبة التي تحدّد بمفردها أقوم المسالك لإدارة شؤون الممالك. فالمسلك فتحه الشعب التونسي، والتونسيّات والتونسيّون ليسوا رعيّة تنتظر من دون جدوى حاكماً يقضي بالسويّة أو يسوق بعصاه ما يتصوّر أنّهم رعيّة وقطيع. ومعالم الطريق الجديدة التي شقّها الشعب التونسي ليست بالمستعصية على الفهم إلّا لمن أراد ألّا يفهم أصلاً أو أراد أن يفهم طبق مصالحه ولم يتخلّص من طموحه الشخصي وأطماعه وهواه”.[1]

هو محافظ اجتماعياً، ومتديّن إسلامياً، لكنّه ضدّ الحركة الحزبية الإسلامية، بل ضدّ كلّ الأحزاب. جاء من عمق الثورة، لكنّه يرى أنّ كلّ الترتيبات التي تلت إسقاط النظام السابق، لا تعبّر عن الثورة ولا عن أبنائها. فلا غرابة بعد ذلك أن ينفضّ عنه مؤيّدوه في الداخل والخارج تدريجياً، وأن يصبح بنظر المرحّبين بهذه الظاهرة عقبة بعدما تخيّلوه حلّاً تنتظره تونس من زمن بعيد.

 

لمتابعة الكاتب على تويتر: HishamAlaywan64@

مواضيع ذات صلة

قمّة الرّياض: القضيّة الفلسطينيّة تخلع ثوبها الإيرانيّ

 تستخدم السعودية قدراً غير مسبوق من أوراق الثقل الدولي لفرض “إقامة الدولة الفلسطينية” عنواناً لا يمكن تجاوزه من قبل الإدارة الأميركية المقبلة، حتى قبل أن…

نهج سليم عياش المُفترض التّخلّص منه!

من جريمة اغتيال رفيق الحريري في 2005 إلى جريمة ربط مصير لبنان بحرب غزّة في 2023، لم يكن سليم عياش سوى رمز من رموز كثيرة…

لبنان بين ولاية الفقيه وولاية النّبيه

فضّل “الحزب” وحدة ساحات “ولاية الفقيه”، على وحدانية الشراكة اللبنانية الوطنية. ذهب إلى غزة عبر إسناد متهوّر، فأعلن الكيان الإسرائيلي ضدّه حرباً كاملة الأوصاف. إنّه…

الأكراد في الشّرق الأوسط: “المايسترو” بهشلي برعاية إردوغان (1/2)

قال “أبو القومية التركية” المفكّر ضياء غوك ألب في عام 1920 إنّ التركي الذي لا يحبّ الأكراد ليس تركيّاً، وإنّ الكردي الذي لا يحبّ الأتراك…