سويسرا.. أسرار العرب الماليّة هناك 

مدة القراءة 7 د

يصل خط الترام رقم 15 المدينة القديمة في جنيف بمقرّ الأمم المتحدة. قال لنا الحاج عمر الذي غادر بلاده غامبيا للعمل في فندق وورويك قبالة محطة قطار جنيف: “سوف ترون الكثير من معالم المدينة عبر هذا الخط، ويمكنكم المغادرة والعودة في أيّ محطة تروق لكم”.

أمام مقرّ الأمم المتحدة كان عدد كبير من السياح الآسيويين ينظّمون أنفسهم لالتقاط الصور التذكارية، كما كان ذلك الكرسي ذو الأرجل الثلاث، الذي يشير إلى ضحايا الألغام، موضعاً للتصوير والتظاهرات معاً.

يرى معظم العالم أنّ الدور الذي تقوم به الأمم المتحدة ليس كافياً، لكنّهم مع ذلك يرون ضرورة الحفاظ عليها، والعمل على إصلاحها.

لقد كان هذا جزءاً ممّا تحدّثت بشأنه في الندوة التي عقدها مركز جسور إنترناشيونال للإعلام والتنمية في نادي الصحافة السويسري في جنيف.

يرى معظم العالم أنّ الدور الذي تقوم به الأمم المتحدة ليس كافياً، لكنّهم مع ذلك يرون ضرورة الحفاظ عليها، والعمل على إصلاحها

تحدّث الأستاذ محمد الحمادي الكاتب الإماراتي المعروف ورئيس المركز عن ضعف دور الأمم المتحدة في العالم العربي، وعن تلك الدراما التي تعيشها المنطقة، حتى إنّ يوميّاتها تبدو وكأنّها جدول منتظم للتناوب.. بين موجة من الحرب وأخرى من الإرهاب!

تحدّث آخرون من فرنسا وتركيا وميانمار عن الحاجة إلى تطوير أداء الأمم المتحدة في أزمات سوريا واليمن وليبيا. وقد عرضتُ بدوري ضرورة العودة إلى المشروع الطموح الذي قدّمه الدكتور بطرس غالي الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة لإصلاح الهيئة، وقلتُ إنّ معضلة العالم المعاصر تكمن في وجود الكثير من السياسة والقليل من القانون، وإذا كانت “عُصبة الأمم” قد تشكّلت بعد الحرب العالمية الأولى، والأمم المتحدة تشكّلت بعد الحرب العالمية الثانية، فيجب أن لا ننتظر حرباً عالمية ثالثة من أجل الوصول إلى هيئة عالمية ناجحة.

 

بلاد الألب والبنوك والشوكولاته

سويسرا هي بلاد الأمم المتحدة ومنظمة التجارة العالمية والشوكولاته، وهي بلاد البنوك ومنظمة العمل الدولية وجبال الألب، وهي أيضاً بلاد الساعات والأبقار واللجنة الدولية للصليب الأحمر.

بالنسبة للعالم الثالث، فإنّ سويسرا هي بلاد الحسابات السرّيّة في البنوك، وهي الملاذ الآمن لكثير من الفاسدين، والديكتاتوريين، والهاربين بعد السرقة، والمتهرّبين من الضرائب.

هكذا تتشكّل صورتان للبلد الأكثر رخاءً في أوروبا، واحدة تشير إلى رغد العيش وفخامة الحياة، وأخرى تشير إلى عبادة الأرباح والاستثمار في المال الحرام.

ينزعج رجال البنوك في سويسرا من الصورة القاسية التي أظهرهم فيها الفيلم الأميركي الشهير “ذئب وول ستريت”. كما يزعجهم ذلك الانطباع لدى ملايين الناس عن خزائن المال المخبّأة في صناديق سرّية، أسفل الأرض، وفي أعماق الجبال. وهي صورة تتّصل باستحواذ البنوك السويسرية في أربعينيات القرن العشرين على كميّة هائلة من الذهب الذي يعود للسلطات النازية الألمانية في عهد هتلر.

أزمة البنك الكبير

في عام 1856 أُسّس بنك “كريدي سويس”، وفي عام 2023 تم إنقاذ البنك من الإفلاس. حين أُسّس “كريدي سويس” من قبل رجل الصناعة السويسري ألفريد إيشر كان هدفه الرئيسي تمويل شبكة سكك الحديد السويسرية.

أصبح “كريدي سويس” ثاني أكبر بنك في سويسرا، لكن في الأعوام الأخيرة تعرّض البنك لخسائر كبيرة على مستوى المال والسمعة معاً.

حسب موقع “سويس إنفو” السويسري الشهير، فإنّ بنك “كريدي سويس” تأثّرت سمعته بسبب عدد من الأزمات المتعاقبة. واحدة منها كانت التجسّس على موظفين سابقين، وأخرى كانت تسريب بيانات العملاء إلى وسائل الإعلام، وثالثة دفع قرابة نصف مليار دولار في عام 2022 للسلطات الأميركية، وذلك لتسوية تحقيق في رشى وعمولات في موزمبيق، ورابعة حول تحقيق سويسري بشأن السماح لمهرّبي مخدّرات من بلغاريا بغسل أموالهم في البنك، وخامسة بشأن الاستثمار في 10 مليارات دولار هي أموال تمّ اختلاسها في فنزويلا، وسادسة حول الاستثمار في مؤسّستين ماليّتين في بريطانيا والولايات المتحدة على الرغم من وجود تحذيرات عديدة من مخاطر الاستثمار فيهما، والتأكيد على أنّ المخاطرة بالاستثمار سوف تكون استدراجاً نحو أرباح وهمية، وهو ما أدّى إلى خسائر كبرى في استثماراته لأموال العملاء تجاوزت 5 مليارات دولار في المؤسسة البريطانية، ووصلت إلى 10 مليارات دولار في المؤسّسة الأميركية.

 

أكبر من أن يفشل

أدّى إفلاس بنك سيليكون فالي في الولايات المتحدة إلى انكشاف بنك كريدي سويس في سويسرا. وسرعان ما بدأ الذعر في العالم من أزمة بنوك تشبه أزمة عام 2008.

قالت وزيرة المالية السويسرية إنّ “بنك كريدي سويس أكبر جداً من أن يفشل (Too big to fall)”، فانهيار البنك سيتسبّب في اضطراب اقتصادي عالمي لا يمكن إصلاحه.

قامت السلطات السويسرية بمفاوضات ماراثونية، استبعدت منها “البنك الأهلي السعودي” و”صندوق قطر للاستثمار” المساهمين الرئيسيَّين في البنك، واللذين قاما بضخّ مليارات الدولارات عام 2022. ثمّ توصّلت السلطات إلى قرار بدعم بنك “UBS” أكبر بنك في سويسرا، حتى يتمكّن من الاستحواذ على بنك “كريدي سويس” ثاني أكبر بنك في البلاد.

أنقذ الاستحواذ بنك “كريدي سويس” من الإفلاس، وبموجب الاستحواذ أصبح “كريدي سويس” شركة تابعة لبنك “UBS”.

بالنسبة للعالم الثالث، فإنّ سويسرا هي بلاد الحسابات السرّيّة في البنوك، وهي الملاذ الآمن لكثير من الفاسدين، والديكتاتوريين، والهاربين بعد السرقة، والمتهرّبين من الضرائب

عرب كريدي سويس

في ربيع عام 2022 نشرت 40 صحيفة حول العالم تحقيقاً استقصائياً صادماً بعدما وصلت إلى الصحافة معلومات بشأن 18 ألف حساب مصرفي، بقيمة 100 مليار دولار. حسب صحيفة “الغارديان” فقد كان هناك 2,000 حساب من مصر، وكان من بينها 6 حسابات تعود لأسرة مبارك. وحسب صحيفة “نيويورك تايمز” فإنّ أحد الحسابات الستّة لعلاء وجمال مبارك كان يتضمّن 196 مليون دولار.

هاجم بنك “كريدي سويس” الصحافة، وقالت عائلة مبارك إنّ حساباتها الكبيرة في البنك السويسري هي نتاج عملها، وقال الصحافيون إنّ كشف حسابات المسؤولين السياسيين في العالم الثالث ليس انتهاكاً لسرّية العمل بالبنوك، بل هو أساس أخلاقي لمكافحة الفساد.

 

سويسرا 2023

ثمّة جديد في سويسرا، لا سيما بعد اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، فقد أصبحت البنوك السويسرية تسمح بإعطاء معلومات عن الحسابات المشكوك في مصدر أموالها للجهات الضريبية في بلدان أخرى.

كما أنّ البنوك السويسرية لم تعد محايدة كما كانت، بل أصبحت تشارك في العقوبات الأميركية على روسيا، وهو ما دفع رؤوس الأموال الصينية إلى الامتناع عن فتح حسابات جديدة، والسعي إلى تحويل الأموال السابقة، خشية فرض عقوبات عليها من قبل واشنطن في حال التصعيد الأميركي الصيني.

إقرأ أيضاً: الخيل والإعلام: السعوديّة “تسابق العالم”

تخشى بنوك سويسرا من أن يكون عصر الازدهار قد انتهى، وأن ينال فقدان سويسرا حيادها التاريخي وانحيازها للولايات المتحدة من الثروة التي هبطت على سويسرا لعقود طويلة بسبب دورها كوسيط مالي عالمي.

في أثناء شرب القهوة مع السفير أحمد إيهاب جمال الدين والوزير المفوّض أحمد مغاوري، استمعت إلي جوانب من طبيعة الحياة في سويسرا، وتعقيدات العمل في منظمة التجارة العالمية والمؤسسات الدولية العاملة في جنيف.

لا تزال سويسرا هي ذلك البلد الرائع الذي يمثّل نموذج الثراء في العالم، لكنّ صعود السياسة على حساب الاقتصاد يمثّل تحدّياً كبيراً، فإذا ما أصبحت سويسرا أقلّ سويسريّة وأكثر أميركيّة، فربّما يكون العالم إزاء سويسرا جديدة.

 

* كاتب وسياسيّ مصريّ. رئيس مركز القاهرة للدراسات الاستراتيجيّة. عمل مستشاراً للدكتور أحمد زويل الحائز جائزة نوبل في العلوم، ثمّ مستشاراً للرئيس المصري السابق عدلي منصور.

له العديد من المؤلَّفات البارزة في الفكر السياسي، من بينها: الحداثة والسياسة، الجهاد ضدّ الجهاد، معالم بلا طريق، أمّة في خطر، الهندسة السياسية.

 

لمتابعة الكاتب على تويتر: Almoslemani@

مواضيع ذات صلة

مع وليد جنبلاط في يوم الحرّيّة

عند كلّ مفترق من ذاكرتنا الوطنية العميقة يقف وليد جنبلاط. نذكره كما العاصفة التي هبّت في قريطم، وهو الشجاع المقدام الذي حمل بين يديه دم…

طفل سورية الخارج من الكهف

“هذي البلاد شقّة مفروشة يملكها شخص يسمّى عنترة  يسكر طوال الليل عند بابها ويجمع الإيجار من سكّانها ويطلب الزواج من نسوانها ويطلق النار على الأشجار…

سوريا: أحمد الشّرع.. أو الفوضى؟

قبل 36 عاماً قال الموفد الأميركي ريتشارد مورفي للقادة المسيحيين: “مخايل الضاهر أو الفوضى”؟ أي إمّا القبول بمخايل الضاهر رئيساً للجمهورية وإمّا الغرق في الفوضى،…

السّوداني يراسل إيران عبر السعودية

 لم يتأخّر رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني ومعه قادة القوى السياسية في قراءة الرسائل المترتّبة على المتغيّرات التي حصلت على الساحة السورية وهروب رئيس…