بالنسبة إلى الجانب الروسي، تبدو زيارة بشّار الأسد شبه محصورة في مجال العلاقات العامة. تبدو الزيارة أقرب إلى محاولة يائسة وبائسة، في آن، لتعويم الأسد الابن من خلال التركيز الإعلامي على الاستقبال الرسمي والسجّاد الأحمر والموكب الرسمي في شوارع موسكو.
ليس مهمّاً أن يكون نائب وزير الخارجية ميخائيل بوغدانوف من استقبل رئيس النظام السوري في المطار. لا يفرض البروتوكول الروسي وجود مسؤول كبير في مستوى رئيس الدولة في المطار. كانت المظاهر التي رافقت الاستقبال أهمّ من أيّ شيء آخر، خصوصاً من مضمون الزيارة. هذا المضمون الذي كان الغائب الأوّل عنها.
ما لا يمكن تجاهله، في أيّ وقت، أنّ لقاء موسكو كان بين رئيسين منبوذين دولياً. لا يجمع بين فلاديمير بوتين وبشّار الأسد سوى أنّهما يعيشان في عزلة عن العالم. يعيش كلّ منهما في دائرة ضيّقة خاصة به… ويعاني كلّ منهما من آثار جانبيّة لمرض التوحّد إن لم يكن من المرض نفسه.
يستخدم رئيس النظام السوري سلاح التسويف كي لا تكون المصالحة مع أنقرة قبل الانتخابات التركية
تحاول روسيا الغارقة إلى ما فوق أذنيها في الحرب الأوكرانيّة إظهار سيطرتها على القرار السياسي السوري الذي يمسك به الإيراني بالفعل. لا شكّ أنّ لعبة “الغيرة المتبادلة” بين الروسي والإيراني ومحاولة كلّ منهما استمالة بشّار الأسد تُعتبر من لحظات النشوة القصوى لدى رئيس النظام السوري. لا يزال بشّار يعتقد أنّ لديه هامشاً للمناورة متجاهلاً أمرين. الأمر الأول أنّ دمشق تحت سيطرة طهران. الأمر الثاني أنّ فلاديمير نفسه في الحضن الإيراني بعدما اكتشف أنّه لا يستطيع متابعة الحرب التي يشنّها على أوكرانيا وشعبها من دون الدعم العسكري لـ”الجمهوريّة الإسلاميّة”، إن بالصواريخ أو بالذخائر أو بالطائرات المسيّرة.
على أرض الواقع، هناك شقّان للزيارة. هناك الشقّ السياسي والشقّ الاقتصادي. على الصعيد السياسي، حصل تحريك للمصالحة بين دمشق وأنقرة، استناداً إلى أوساط على معرفة دقيقة بخلفيّة الزيارة. تتحدّث هذه الأوساط عن عودة الضغوط الروسية للمضيّ في المصالحة. هدأت الضغوط الروسية بعض الشيء في ضوء الزلزال المدمّر الذي تعرّض له الشمال السوري. لكنّ هذه الضغوط عادت لتمارس على سياسي عاجز أوّلاً. لا رهان لدى بشّار إلا على سقوط رجب طيب إردوغان في الانتخابات المقرّرة في تركيا يوم 14 أيّار المقبل. تدعم إيران هذا الرهان وتطلب من بشّار ممارسة التعنّت في تعاطيه مع الرئيس التركي وفي رفع سقف الشروط والتوقّعات التي تطلبها دمشق من أنقرة قبل إجراء المصالحة.
يستخدم رئيس النظام السوري سلاح التسويف كي لا تكون المصالحة مع أنقرة قبل الانتخابات التركية. وفي حال اشتدّت الضغوط الروسية، تبدي دمشق رغبتها في تحقيق تقدّم ملموس مع تركيا عبر رفع شروط تعجيزية. من بين أهمّ هذه الشروط تحديد موعد رسمي للانسحاب العسكري التركي من سوريا واعتراف أنقرة بأنّ منظمات المعارضة التابعة لتركيا هي “منظمات إرهابية”.
إلى ذلك، تمارس دمشق لعبة المماطلة. من منطلق الرغبة في المماطلة، تعمّدت دمشق رفض الموافقة على رفع مستوى اللقاءات الرباعية (الروسيّة – السوريّة – التركيّة – الإيرانيّة) إلى مستوى الوزراء وإبقاءها في مستوى تقني، أي مستوى المعاونين للوزراء. هذا ما يفسّر تأجيل الاجتماع الذي كان متوقّعاً انعقاده في موسكو بين نواب وزراء الخارجية في البلدان الأربعة.
في الشقّ الاقتصادي، هناك مجرّد بحث في مزيد من التعاون بين البلدين. أثار الوفد الوزاري الكبير المرافق للأسد الابن موضوع زيادة إمدادات النفط والغاز من روسيا وزيادة القروض الائتمانية. كذلك، أُثير موضوع الكهرباء وإصلاح بعض محطات الكهرباء الروسية الصنع. فُتح أيضاً موضوع خفض حصة روسيا أو حصة شركة “فاغنر” من النفط والغاز السوريين. يعود ذلك إلى أنّ النظام في سوريا عقد في عام 2017 اتفاقاً مع روسيا تحصل بموجبه شركة المرتزقة “فاغنر” على نسبة 25% من عائدات النفط السوري عند نجاحها في طرد المعارضة السورية أو “داعش” من مناطق معيّنة واستعادة السيطرة على أيّ بئر من آبار النفط والغاز في سوريا وتسليمها الى النظام.
كانت زيارة رئيس النظام السوري لموسكو من دون مضمون فعليّ. لن تعوّم الزيارة، التي جاءت في ذكرى مرور 12 عاماً على اندلاع الثورة السوريّة، بشّار الأسد الذي يرفض الاعتراف بأنّ نظامه انتهى وبأنّه لا يحقّ له الكلام عن “النازية الجديدة والقديمة”. لا يحقّ له ذلك، خصوصاً أنّ النظام السوري آوى باكراً نازيين حقيقيين ملاحقين دولياً فرّوا إلى سوريا وعاشوا في دمشق في حماية النظام. رفض النظام في كلّ وقت تسليم هؤلاء ليحاكموا أمام العدالة الدوليّة. كان أبرز هؤلاء النازيين الذين أقاموا سنوات طويلة في دمشق الويس برونر. توفّي الألماني برونر في العاصمة السوريّة في عام 2001، أي بعدما خلف بشّار والده!
من موسكو حيث لا فارق بين نازية هتلر ونازية فلاديمير بوتين، تحدّث رئيس النظام السوري عن “الاحتلال التركي” متجاهلاً الاحتلالات الأربعة الأخرى (الروسي والإيراني والأميركي والإسرائيلي). هل بات حراماً أن يكون الأميركي في سوريا في حين صارت زيادة الوجود العسكري الروسي أمراً مرحّباً به؟ من يقبل بالاحتلالين الإيراني والروسي، لا بدّ أن يقبل، بكلّ طيبة خاطر، بالاحتلال الإسرائيلي والأميركي والتركي.
إقرأ أيضاً: هل تغيّرت إيران؟
في النهاية، لا يحقّ لمن قتل نصف مليون سوري وهجّر ما يزيد على عشرة ملايين مواطن إعطاء شهادات حسن سلوك لأحد، بما في ذلك المملكة العربيّة السعودية التي أشاد بها من موسكو في حديث إلى وكالة “سبوتنيك” للأنباء تطرّق فيه إلى “تغيير” في سياسة المملكة وفي موقفها السوري.
نعم، كانت زيارة الأسد الابن لموسكو زيارة من دون مضمون. أثبتت أنّ الرجل يعيش في عالم آخر. وصل به الأمر إلى تبرير احتلال روسيا لأراض أوكرانيّة بقوله لوكالة “سبوتنيك” أيضاً: “مقتنعون بأنّ المناطق (الأوكرانيّة) التي ضمّتها روسيا تابعة لها بحكم التاريخ”. ماذا إذا استعانت تركيا بالتاريخ لإعلان حلب مدينة تركيّة؟