من يراقب الأزمة السياسية الكبرى التي تجتاح فرنسا هذه الأيام، ويعيد قراءة خيبات باريس في إفريقيا، ويرصد تخبّطها في إدارة علاقاتها في شمال القارّة السمراء، ويتأمّل انقلاب الحلفاء عليها في صفقة غوّاصات أستراليا، ويلاحظ بسهولة هوائية سياستها الخارجية وجانبها التجريبي، يحقّ له التساؤل عن مشروعية هذه الرعاية التي كلّفت باريس نفسها بها لحلّ الأزمة اللبنانية.
لطالما سعت فرنسا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية إلى لعب أدوار أكبر من وزنها الاستراتيجي في السياسة والاقتصاد والأمن والدفاع. وتقصّ روايات نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945 تردّد الحلفاء واستهجان قادة الجيش الألماني المهزوم وجود ممثّل لفرنسا للتوقيع على وثيقة استسلام ألمانيا في 8 أيار من ذلك العام.
الترويج لعظمة فرنسا
بسبب إدراكه لتصدّع صورة فرنسا لدى الصديق والحليف قبل الخصم والعدوّ، سعى الجنرال شارل ديغول إلى إطلاق خطاب داخلي وخارجي يقوم على الترويج لـ “عظمة فرنسا” التي قامت حينها على طباعهِ وعناده حيناً، وعلى ظروف تلك المرحلة حيناً آخر. أملى المشهد الدولي غداة انتهاء الحرب العالمية الثانية على ونستون تشرشل البريطاني الترويج لدى فرانكلين روزفلت الأميركي وجوزيف ستالين السوفيتي في مؤتمر يالطا في شباط 1945 (الذي لم تحضره باريس) لدور أساسي لفرنسا قاد لاحقاً إلى حصول فرنسا على مقعد دائم في مجلس الأمن. وما زال الأمر يستفزّ ألمانيا التي خرجت منها مطالب قبل أعوام لاستبدال المقعد الفرنسي بمقعد أوروبي دائم.
من حقّ فرنسا أن تسعى إلى الإيحاء بسياسة في الشرق الأوسط تزعم أنّها حاجة عربية أيضاً. لكن ما ليس مقبولاً أن تسعى فرنسا إلى لعب “السمسار” في السوق
كثيرة هي الأمثلة التي تعكس سعي فرنسا الدائم إلى أن تكون مختلفة متميّزة مشاكسة وخارج الصندوق في العلاقات مع الغرب ومع الاتحاد السوفيتي المندثر أو روسيا الحالية، وحتى في نسج سياسة عربية خاصة ما زالت متقيّدة بالعناوين التي وضعها ديغول. ذهب الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي بعيداً في طموحاته حين سعى إلى بناء اتحاد بين بلدان شمال البحر المتوسط وجنوبه باسم “الاتحاد المتوسطي” الذي قال عنه عام 2008 إنّه “سيتمكّن من منافسة التكتّل الاقتصادي الآسيوي الذي تتزعّمه الصين”. فأين هو هذا التكتّل اليوم؟
ذهب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون هذا المذهب من خلال العراق الذي لا تملك فرنسا معه تاريخاً خاصاً على منوال ما تملكه مع لبنان وبلدان شمال إفريقيا مثلاً. رعى “قمّة بغداد للمشاركة والتعاون” التي ضمّت دول جوار العراق في آب 2021. جرت القمّة الأولى في العاصمة العراقية وضمّت 10 دول، ثمّ عُقدت قمّة “بغداد 2” قبل أشهر في كانون الأول 2022 على البحر الميت في الأردن وضمّت 12 دولة. وبغضّ النظر عن نجاعة هذه الآلية ومستقبلها، فإنّ الأسئلة تبقى تدور حول مكانة فرنسا ونفوذها لرعاية تجمّع إقليمي بهذا التعقيد.
فرنسا ولبنان
إذا كانت غرابة الأمر تكمن في غياب نفوذ تاريخي واقتصادي وسياسي وازن لدى دول جوار بغداد، وإذا ما كانت باريس تفقد تميّزها العتيق لدى دول شمال إفريقيا وترتبك في إدارة علاقاتها مع الجزائر والمغرب وتتراجع مكانتها في أيّ تسوية في ليبيا (من دون الكلام عن استبدال دول إفريقية خدماتها بمجموعة فاغنر الروسية)، فإنّ من المنطق السؤال عمّا تملكه فرنسا في لبنان ولدى اللبنانيين لكي تكون الدولة الراعية للحلّ في لبنان وتقبل بها العواصم المعنيّة منسّقاً لاجتماعاتها الثلاثية أو الخماسية للخروج برؤية دولية واحدة تقارب الأزمة في لبنان.
قد يكون منطقياً أن تملك كلّ من السعودية وإيران نفوذاً لدى طوائف البلد وتياراته السياسية. ولا شكّ أنّ الولايات المتحدة تملك، بحكم كونها “الدولة الكبرى” وأنّ لها تاريخاً في هذا البلد منذ إنزال المارينز عام 1958 على شواطئه مروراً بالترتيبات التي فرضتها بعد اجتياح عام 1982 وانتهاء بإشرافها على إبرام اتفاق ترسيم الحدود البحرية يبن لبنان وإسرائيل، ما يمنحها سلطة مرجّحة للحلّ والعقد في أمور البلد، لكن ما الذي تملكه باريس في لبنان حالياً من مونة ونفوذ لدى مسلمي لبنان ومسيحيّيه لكي تتشاطر في فرض صيغ أو وجوه أو خارطة طريق لإخراج البلد من محنته.
إذا ما تسرّب من اجتماعات باريس، لا سيما ذلك الخماسي في 6 شباط الماضي وذلك السعودي الفرنسي في باريس قبل أيام، خلاف بين الرياض وباريس وعدم توافق مع واشنطن، فلماذا تحتفظ فرنسا بوظيفتها؟ ولماذا أساساً ما زالت العواصم المعنية معترفة لها بهذا الدور؟ وإذا كانت فرنسا ما تزال تسوّق لرشاقتها في الحفاظ على علاقات باتت متوتّرة مع إيران والتمسّك بتواصلها مع حزب الله، فإنّ كلّ هذه البضاعة صارت متقادمة بعد الاتفاق السعودي الإيراني أولاً، ورعاية الصين له ثانياً. وإذا ما تطوّر وأظهر جدّية حقيقية، في منطقه، يفترض أن يستغني عن الهمّة الفرنسية في ملف تدور عقده حول أجندات الرياض وطهران وواشنطن.
إقرأ أيضاً: لبنان واتفاق بكّين: الرئاسة صناعة محلية…
من حقّ ماكرون أن يحجز لبلاده مقعداً في “لعبة الأمم”. ومن حقّ فرنسا أن تسعى إلى الإيحاء بسياسة في الشرق الأوسط تزعم أنّها حاجة عربية أيضاً. لكن ما ليس مقبولاً أن تسعى فرنسا إلى لعب “السمسار” في السوق الذي يشتهي العمولة بين المتعاقدين بما لا يليق بدولة تنشد أن تكون وازنة في الخرائط الدولية. وجسامة الانهيار في لبنان وضخامة أزمته تمليان على اللبنانيين أولاً، ثمّ على هذا المجتمع الدولي ثانياً، تناول الملف بشكل جديّ يتجاوز حسابات باريس في زمن لم تعد فيه فرنسا الدولة التي يُحسب لها حساب في المنطقة وإن كانت ما تزال تمارس تمارين “الأمّ الحنون” للبنان.
لمتابعة الكاتب على تويتر: mohamadkawas@