مواقف وتحرّكات وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في ما يتعلّق بالسياسة الخارجية لبلاده، كما في مجال مشاريع الأعمال، هي اختبار لسياسة عدم الانحياز إلى جانب دون آخر في المنافسات بين الولايات المتحدة وروسيا والصين، ويبدو أنّها السياسة التي يرغب في أن تتبنّاها المملكة في ظلّ التحوّلات الجذرية التي تشهدها منذ تولّيه قيادتها.
هكذا رأى محلّل شؤون الشرق الأوسط في صحيفة “وول ستريت جورنال” الاتفاق الذي توسّطت فيه الصين الأسبوع الماضي لإحياء العلاقات الدبلوماسية مع إيران، خصم المملكة العربية السعودية.
كتب ستيفن كالين مراسل الصحيفة الذي انتقل إلى الرياض منذ عام 2017 لتغطية صعود وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان والتحوّلات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية العميقة الجارية في المملكة، أنّ “الاتفاقية مع إيران بيّنت براغماتية ذكية من الحاكم الفعليّ الشاب للمملكة الذي تمّ انتقاد قراراته في الماضي باعتباره غير منتظم، إذ إنّها ستهدّئ التوتّرات في الخليج العربي وتقرّب السعودية من شريكتها التجارية الرئيسية الصين، من دون إبعاد أو تنفير شريكتها الأمنية الرئيسية واشنطن التي قال بعض المسؤولين فيها إنّ الوفاق أمر إيجابي”.
مواقف وتحرّكات وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في ما يتعلّق بالسياسة الخارجية لبلاده، كما في مجال مشاريع الأعمال، هي اختبار لسياسة عدم الانحياز إلى جانب دون آخر في المنافسات بين الولايات المتحدة وروسيا والصين
اقتصاد مزدهر غير نفطي
نقل الكاتب عن محلّلين سعوديين قولهم إنّ السعودية، مثل الهند وتركيا والإمارات العربية المتحدة، هي قوة وسطى تسعى إلى الحصول على مزايا في وقت يواجه فيه النظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة تحدّياً بسبب الغزو الروسي لأوكرانيا والسياسة الخارجية الصينية الأكثر حزماً. كما أنّ القادة السعوديين عازمون على استخدام أسعار النفط المرتفعة لتمويل طموحات البلاد إلى أن تصبح لاعباً تجارياً عالمياً مع اقتصاد مزدهر غير نفطي، إذ يعتقدون أنّها آخر طفرة نفطية. ولهذه الغاية، أعلن الأمير محمد إنشاء شركة طيران سعودية وطنية جديدة، وصندوق الثروة السيادي للمملكة بصدد إبرام اتفاقية لشراء طائرات تجارية من شركة بوينغ مقابل 35 مليار دولار، وهو ما يمثّل دفعة لإنشاء مصنع كبير من شأنه أن يخلق عشرات الآلاف من الوظائف في الولايات المتحدة.
صفقة البوينغ هذه، كما أوضح بعض المستشارين السعوديين لمراسل الصحيفة، تهدف جزئياً إلى تعزيز مكانة المملكة في واشنطن، حيث تعاني في كثير من الأحيان من إشكاليات، وأظهرت أنّ الرياض ما تزال على علاقات ودّية مع واشنطن، حتى بعدما وافقت منظمة البلدان المصدّرة للبترول (أوبك) التي تقودها السعودية وحلفاؤها بقيادة روسيا على خفض إنتاج النفط في تشرين الأول على العكس من رغبات واشنطن، فما كان من الأخيرة إلا أن اتّهمت الرياض بالانحياز إلى موسكو.
رأى الكاتب، أنّ النفوذ العالمي المتزايد للمملكة واستعدادها لمعارضة مصالح الولايات المتحدة المدعوم بوضع مالي قوي ناتج عن ارتفاع أسعار النفط،، وتطوّر اقتصاد المملكة وفق واحد من أسرع المعدّلات في العالم، فيما تواجه الولايات المتحدة وأوروبا والعديد من الاقتصادات النامية ارتفاعاً في معدّلات التضخّم والركود، هي من العوامل التي تجعل بن سلمان على ثقة بأنّ السعودية يجب أن يكون لها نفوذ أكبر على المسرح العالمي، بما يليق بمكانتها كقوّة في مجموعة العشرين.
نقل عن كارين يونغ، الباحثة الأولى في جامعة كولومبيا، قولها إنّها “أيديولوجية “السعودية أولاً”. إنّهم يرون العالم أرضاً ناضجة للتأثير والتدخّل ولتعزيز مصالح الدولة السعودية”.
ولي العهد.. والتوجّه شرقاً
ذكّر الكاتب بما تشكّله طهران والجماعات المسلّحة التي تدعمها في الدول المجاورة من تهديد أمني بالنسبة للرياض، وأشار إلى ضربات الطائرات المسيّرة والصواريخ لمواقع النفط السعودية في عام 2019 التي عطّلت مؤقّتاً 5% من إمدادات الطاقة العالمية، ولم تثِر أيّ ردٍّ أميركي عسكري واضح. واعتبر أنّ هذه الضربات عزّزت الخطر الإيراني وزادت وفقاً لمسؤولين سعوديين من اعتقاد وليّ العهد السعودي بأنّ المملكة لم يعد بإمكانها الاعتماد على الضمانات الأمنيّة التاريخية الممنوحة من الولايات المتحدة التي يشعر هو وزعماء عرب آخرون بالقلق من أنّها تركّز الآن بشكل أكبر على أجزاء أخرى من العالم. لهذا سعى من أجل حماية خططه الطموحة للتنمية الاقتصادية إلى البحث شرقاً عن شركاء إضافيين. فكانت الصين التي ساعدت السعودية في السنوات الأخيرة في بناء صواريخها الباليستية الخاصة وفي تطوير برنامج نووي خاص بها، واستثمرت في مشاريع بن سلمان، بل وعرضت على السعودية إنشاء صناعة دفاعية محلية، في وقت وقّعت المملكة اتفاقية تعاون نووي مع روسيا.
بيانكو بالقول إنّ “من غير المرجّح أن يتراجع السعوديون من دون اتّخاذ واشنطن إجراءً حاسماً لمنع الرياض من تعميق العلاقات مع الصين وروسيا
لفت الكاتب إلى مرحلة الانتقادات الدولية والعزلة الدبلوماسية للسعودية بسبب النهج الجديد الذي أرساه بن سلمان في الشؤون الخارجية للسعودية، التي كانت تدعم بشدّة سياسة الولايات المتحدة الرافضة لأيّ تحوّل دراماتيكي، إثر تدخّله في اليمن، ومشاركته في حصار قطر. وقال إنّ هذه المرحلة قد انتهت بزيارة الرئيس جو بايدن للسعودية، بعدما تعهّد قبل انتخابه بمعاملة المملكة على أنّها “دولة منبوذة”. كما انتهت مع زيارات المسؤولين الأميركيين للمملكة، وآخرها لقاء زعيم مجلس الشيوخ الجمهوري ميتش مكونيل واثنين آخرين من أعضاء الحزب لوليّ العهد في الرياض.
أوكرانيا: نهاية مرحلة أميركية
في رأي كالين الذي يعيش في المنطقة منذ عام 2009، أنّ الحرب في أوكرانيا أتاحت للسعوديين الفرصة لتأكيد مصالحهم الخاصة في عالم لا تُعتبر فيه الولايات المتحدة القوة العظمى بلا منازع. فدعموا في البداية أوكرانيا وعملوا مع روسيا في “أوبك +” في الوقت نفسه، لكنّهم منذ الخلاف مع واشنطن في تشرين الأول، سعوا إلى تبنّي موقف أكثر حيادية بشأن الحرب،. فأرسل الأمير محمد وزير خارجيته إلى كييف في الشهر الماضي للقاء الرئيس الأوكراني وإعلان تقديم مساعدات إنسانية بقيمة 400 مليون دولار. بعد أسبوعين أرسله إلى موسكو ليلتقي نظيره الروسي ويعرض التوسّط لإنهاء الصراع.
اعتقد بعض المحلّلين، كما يروي كالين، أنّ الأمير محمد يهدف من خلال إقامة علاقات وثيقة مع الصين وروسيا إلى كسب علاقات أمنية أعمق مع الأميركيين يعيقها البعض في واشنطن. فما يزال المسؤولون السعوديون يتفاوضون على ضمانات أمنية أميركية يمكن أن تقنع الرياض بتطبيع العلاقات مع إسرائيل، وهو قرار مستبعد لبعض الوقت بسبب المقاومة الداخلية، واحتدام الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، والمعارضة في واشنطن لتلبية المطالب السعودية.
إقرأ أيضاً: فرنسا بين عشيقين: الروسي والأميركي
ونقل عن سينزيا بيانكو، الباحثة المتخصّصة بشؤون الخليج في مركز أبحاث العلاقات الخارجية في المجلس الأوروبي، أنّ السعوديين “يتعاملون مع الجميع، مع إسرائيل وإيران والصين والولايات المتحدة وروسيا والأوروبيين، ويظلّون غامضين جدّاً بشأن ما يريدون القيام به وهدفهم النهائي… وهذا يسبّب الكثير من الارتباك، حيث يستمرّ الجميع في التساؤل عمّا يخطّطون له حقّاً، هو هدفهم بالضبط.”
تعليقاً على ما نقله كالين عن مسؤولين سعوديين أنّ ولي العهد توقّع في جلسات خاصة إنّه يتوقّع أنّ لعب القوى العظمى بعضها ضدّ بعض سيمكّن السعودية من أن تضغط على واشنطن للتنازل وتلبية مطالبها للوصول بشكل أفضل إلى الأسلحة والتكنولوجية النووية الأميركية، ردّت بيانكو بالقول إنّ “من غير المرجّح أن يتراجع السعوديون من دون اتّخاذ واشنطن إجراءً حاسماً لمنع الرياض من تعميق العلاقات مع الصين وروسيا”، وحذّرت من أنّه “إذا واصلنا القول إنّ هذا مجرّد أمر مؤقّت وإنّهم يغازلون الآخرين فقط لاستعادتنا، فسنتّجه بكلّ هدوء إلى نهاية الهيمنة الغربية في الخليج، ثمّ في منطقة الشرق الأوسط بمعناها الأوسع”.
لقراءة النص الأصلي اضغط هنا