الإعلان المفاجئ عن اتفاق سعودي إيراني برعاية صينية، على عودة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، وإعادة فتح السفارتين والممثّليات التابعة لهما خلال شهرين، واحترام الاتفاقيات المعقودة بينهما وسيادة الدول وعدم التدخّل في شؤونها الداخلية، لا يدلّ حتى الآن على حدوث اختراق حقيقي في جدار الأزمات المستعصية والمتراكمة، في سائر المنطقة، ليس منذ قطع العلاقات بين البلدين عام 2016، بل منذ انتصار الثورة في إيران وإسقاط الشاه عام 1979.
لكن ما جرى، في جوهره، هو زلزال جيوبوليتيكي، وهو كذلك نتيجة طبيعية وموضوعية لحراك عالمي، تسارع إيقاعه منذ غزو روسيا لأوكرانيا في 24 شباط من العام الماضي. فالحدث ليس عودة الحرارة تدريجياً إلى العلاقات بين أكبر دولتين إسلاميتين في المنطقة، بل بين قطبين أساسيّين في العالم الإسلامي، الجمهورية الإسلامية في إيران بتزعّمها لمعظم شيعة العالم، والمملكة العربية السعودية بريادتها للعالم السنّي العربي، لكنّه الاختراق الصيني الاستراتيجي الأول من نوعه في تاريخ منطقة ظلّت عقوداً طويلة، المسرح الاستراتيجي التقليدي للولايات المتحدة، الوارثة الطبيعية للاستعمار الأوروبي السابق.
الأمر أعقد من مجرد خروج إيران من المعسكر الغربي إلى ما ردّده الخطاب الثوري آنذاك: “إسلامية.. لا شرقية ولا غربية”، ويكمن في أغوار التنافس الجيوسياسي الطبيعي بين دولتين كبيرتين
بالمقابل، ما سهّل الاتفاق الأخير، ليس نفوذ الصين المتنامي في المنطقة وحسب، بل ابتعاد المملكة عن دائرة النفوذ الأميركي تدريجياً.
سياسات أميركا.. والانزياح السعودي
العلاقات التاريخية بين الولايات المتحدة والمملكة كانت قد تضرّرت بسبب هجمات نيويورك وواشنطن في 11 أيلول 2001، التي شارك فيها 15 سعودياً من بين الانتحاريين الـ19. وتفاقمت سوءاً، في السنوات التالية، مع التفاهم الإيراني الأميركي على التعاون المشترك إبّان غزو أفغانستان عام 2001، والعراق 2003، والحديث الأميركي الصريح عن نيّة لتغيير وجه المنطقة. وهو التغيير الموعود الذي تأخّر فعلياً، أكثر من سبع سنوات، بانتظار مجيء الرئيس الديمقراطي باراك أوباما الذي رعى ثورات الربيع العربي أواخر 2010، وعقد الاتفاق النووي مع إيران عام 2015، مشرّعاً الأبواب عمداً لنفوذ إيراني متصاعد، بالضدّ من مصالح دول الخليج خاصة، والدول العربية عامة، وبما يتناقض مع ما تقتضيه الشراكة الأميركية السعودية في مختلف الصُعُد السياسية والاقتصادية والعسكرية والأمنية.
مجمل السياسات الأميركية السابقة، منذ عام 2001، مهّدت لانزياح سعودي لافت ظهرت تباشيره عام 2015، عنوانه الاستراتيجي الاعتماد على النفس، والتقليل من دور النفط في صياغة المستقبل، ورسم طريق التنمية بما يتوافق حصراً مع المصلحة الوطنية. لكنّ هذه الاستدارة الهائلة، جعلت إيران والسعودية في نهاية المطاف في خطّ موضوعي واحد، هو محور الشرق، وقطبه القوة العالمية الصاعدة: الصين، من دون أن يعني ذلك، حلّ المشكلات كلّها دفعة واحدة. بل المغزى الحقيقي، هو تغيير شخصية الحَكَم في النزاعات.
كأنّ الرياض وطهران قد أعلنتا في 10 آذار الجاري، أنّ بكين لا واشنطن، هي الوسيط النزيه والمقبول والموثوق به، لمعالجة الإشكاليات في الإقليم. بخاصة أن لا مصلحة مباشرة لواشنطن في التفاهم السعودي الإيراني. وهي أفادت دائماً من العداوات بين الدول، والأسوأ أنّها لعبت على موازين القوى بينها، لإدامة الأزمات لا حلّها.
بين مشروعين قوميَّين
من أجل استشراف النتائج المتوقّعة من الاتفاق السعودي الإيراني، لا بدّ من استنطاق التاريخ المعقّد من العلاقات الثنائية بين البلدين، قبل ثورة الخميني وبعدها، وعقب المحطات الفاصلة التي تخلّلت المسار المتأرجح لهذه العلاقات.
ما سهّل الاتفاق الأخير، ليس نفوذ الصين المتنامي في المنطقة وحسب، بل ابتعاد المملكة عن دائرة النفوذ الأميركي تدريجياً
بحسب بحث صادر في خريف عام 2018، تحت عنوان: Iran-Saudi Relations: From Rivalry to Nowhere، وصلت العلاقات بين إيران والسعودية بعد خروج البريطانيين في كانون الأول 1971 إلى أعلى مستوياتها على الإطلاق، ونشأ “مبدأ نيكسون” لتعزيز السياسات الموالية للغرب ولحماية مصالح أميركا، بمواجهة المدّ الشيوعي، فكانت إيران والسعودية بمنزلة الركن المزدوج (Twin pillar) لتأمين المصالح الغربية في الشرق الأوسط. قبل أن تتخذ العلاقات بين البلدين مساراً مختلفاً مباشرةً بعد الثورة الإيرانية التي قامت عام 1979 وأدّت إلى التمكين السياسي لرجال الدين بقيادة الخميني.
إلا أنّ الأمر أعقد من مجرد خروج إيران من المعسكر الغربي إلى ما ردّده الخطاب الثوري آنذاك: “إسلامية.. لا شرقية ولا غربية”، ويكمن في أغوار التنافس الجيوسياسي الطبيعي بين دولتين كبيرتين، حتى عندما كانتا في خط تحالفي واحد. فالشاه كان طموحاً، ولم يُخفِ رغبته في استعادة الأمجاد الإمبراطورية الفارسية، وكان يعتبر دول الخليج مجاله الحيوي، وهو ما كان يثير القلق في المنطقة، ويتعارض مع الأمن القومي السعودي. لكنّ بروز المشروع القومي العربي المعادي للأنظمة الملكية، بقيادة جمال عبد الناصر، بعد ثورة تموز عام 1952، جعل المملكة فعلاً بين خطرين كامنين: شرقاً وغرباً. فكانت سياسة التوفيق بين المصالح المتعارضة جوهر السياسة السعودية في تلك الحقبة. ومع قيام الجمهورية الإسلامية في إيران عام 1979، كانت مصر أيام الرئيس أنور السادات قد وقّعت اتفاقيات السلام مع إسرائيل قبل عام فقط، ما أدى إلى عزلها عربياً. بادرت حينها المملكة رسمياً إلى التواصل مع القيادة الإيرانية الجديدة، مع الأمل بالاستمرار في التعاون تحت عنوان “التضامن الإسلامي”.
إيران الخمينية في ذلك الحين، كانت تعيش نشوة النصر، ولم تكن ترى حدوداً أو عوائق أمام تصدير الثورة إلى الجوار وإلى أبعد مدى ممكن. ثمّ إنّ النظام الإيراني الجديد الذي أسقط المَلكَية بشخص الشاه كان معادياً لكلّ النظم الملكية في المنطقة، على غرار الخطاب القومي الأيديولوجي للثورة المصرية في الخمسينيات والستّينيات.
فضلاً عن ذلك، فإنّ قيام دولة دينية شيعية رسمياً، أحيا المشاعر والشعائر في عموم شيعة المنطقة، لا سيما في دول الخليج، وفي المملكة خاصة، فبدأت الاضطرابات. وزاد الأمر خطورة توجيه الخميني بضرورة تسيير تظاهرات البراءة من المشركين ومن الظالمين في مواسم الحج، وهو ما تسبّب بصدامات دامية، كان أخطرها في عام 1987، فسقط مئات الضحايا من الإيرانيين والسعوديين وحجاج من جنسيات مختلفة. وتلاحقت الأحداث، وصولاً إلى اقتحام السفارة السعودية في طهران، وقتل أحد الدبلوماسيين، فانقطعت العلاقات الدبلوماسية بين البلدين من عام 1988 حتى عام 1991.
في اليمن، الذي يقع في صلب الأمن القومي السعودي كما هو حال البحرين وأكثر، فقد تحرّك الحوثيون بعد غزو العراق عام 2003، بدعم من إيران
دبلوماسيّة الكوارث والتقارب المؤقّت
وجدت المملكة نفسها في مطلع الثمانينيات في موقف معاكس لما شهدته في الخمسينيات. فالتقارب السعودي الإيراني في مواجهة المدّ العروبي الناصري، انتقل إلى تقارب سعودي عراقي في مواجهة المدّ الشيعي الإيراني. وقدّمت الرياض مساعدات كبيرة للعراق دبلوماسياً واقتصادياً وعسكرياً في الحرب مع إيران (1980-1988). وهو ما أسهم في تدهور علاقات طهران مع الرياض. لكنّ غزو العراق للكويت في 2 آب 1990، قلَب المعادلة تدريجياً إلى الجهة المقابلة. فإيران رفضت الغزو العراقي، وقدّمت العون للّاجئين إليها. وفي العام نفسه، وقبل أكثر من شهر من غزو الكويت، تعرّضت إيران لزلزال مميت أدّى إلى مقتل ما يقرب من أربعين ألف شخص، ودمّر قدراً هائلاً من البنية التحتية. هنا بادرت المملكة العربية السعودية، وعلى الرغم من تعليق العلاقات الدبلوماسية، إلى تقديم المساعدات لإعانة إيران على بناء بنيتها التحتية المدمّرة. ومهّد ذلك للتعاون لاحقاً في مواجهة خطر صدّام حسين. لكنّ العلاقات الدبلوماسية بين طهران والرياض لم تعُد إلا في 19 آذار 1991.
ترافق ذلك مع ميل السياسة الخارجية الإيرانية إلى الواقعية والاعتدال:
– أوّلاً، خلال حقبة الرئيس هاشمي رفسنجاني (حكَم ما بين 1989 و1997)، الذي سعى بتفكيره البراغماتي، إلى الانفتاح على دول الخليج وعلى المملكة بشكل خاص، بهدف بناء ما دمّرته الحرب مع العراق، وتخفيف وسائط التوتّر مع العرب، على الرغم من ازدواجية الخطاب في إيران نفسها، ما بين خطاب ثوري وخطاب رسمي، أو ما بين منطقَي الثورة والدولة.
– ثانياً: جاءت حقبة الرئيس محمد خاتمي (حكم ما بين عامَي 1997 و2005)، فكانت ذروة التواصل مع المملكة. ففي عام 1997، حضر وليّ العهد السعودي الأمير عبد الله قمّة منظمة التعاون الإسلامي في طهران. وكانت أول زيارة يقوم بها أكبر مسؤول سعودي إلى إيران منذ عام 1979. ومقابل هذه اللفتة الإيجابية من السعوديين، قام الرئيس الإيراني محمد خاتمي عام 1999 بزيارة المملكة والتقى وليّ العهد الأمير عبد الله، وناقش مسائل الاهتمامات المتبادلة. كانت هذه أيضاً زيارة مهمّة لأنّها كانت أول زيارة يقوم بها رئيس إيراني للمملكة منذ الثورة الإسلامية. أثّرت هذه المبادرات الدبلوماسية الإيجابية أيضاً على علاقاتهم الثنائية، وأدخلت بعض التغييرات الرئيسية والمهمّة في السياسات الخارجية لهاتين القوّتين المتنافستين في الشرق الأوسط.
انتكاسة مع هيمنة المحافظين
تراجع مستوى العلاقات مع مجيء الرئيس المحافظ محمود أحمدي نجاد (حكم ما بين عامَي 2005 و2013). وبوصوله ضاع كلّ ما أنجزه رفسنجاني وخاتمي من قبل، من علاقات إيجابية بين البلدين. وتصاعد التوتّر في المنطقة، مع سقوط العراق بيد حلفاء طهران، وإعدام صدام حسين عام 2006، واغتيال رفيق الحريري قبل ذلك في لبنان عام 2005. وانطلق الربيع العربي، فاعتبرت إيران أنّ الثورات العربية امتداد للثورة الإسلامية في إيران، حتى وصلت إلى أعتاب دمشق، فقاومت ثورة الشعب السوري بالحديد والنار، وجنّدت ميليشيات من كلّ حدب وصوب. واتّهمت المملكة إيران بالتورّط في تظاهرات البحرين عام 2011، وكذلك في اضطرابات المنطقة الشرقية عام 2012. وكان رجل الدين الشيعي نمر النمر هو الشخصية الرئيسية في تلك الأحداث. فاعتُقل وحُكم عليه بالإعدام عام 2014.
إقرأ أيضاً: مسلسل المُفاجآت السّعوديّة.. حلقة يمنيّة مشوّقة في رمضان؟
أمّا في اليمن، الذي يقع في صلب الأمن القومي السعودي كما هو حال البحرين وأكثر، فقد تحرّك الحوثيون بعد غزو العراق عام 2003، بدعم من إيران. واستمرّت الحرب بين الحوثيين والحكومة اليمنية لمدّة 6 سنوات حتى انتهت في عام 2010. لكن بعد عام واحد، وصل الربيع العربي إلى صنعاء، فاختلطت الأوراق: تدخّلت المملكة ودول الخليج من خلال ما سُمّي المبادرة الخليجية، من أجل مرحلة انتقالية توافقية. لكنّ انقلاب الحوثيين على الاتفاق، ودخولهم صنعاء أواخر 2014، دفعا المملكة إلى إطلاق “عاصفة الحزم” في 21 آذار 2015، لمنع سقوط اليمن كلّه بيد حلفاء إيران. ثمّ كان إعدام الشيخ نمر النمر في 2 كانون الثاني 2016 الطريق المؤدّي بالعلاقات السعودية الإيرانية إلى القعر. يومها هاجمت الحشود الغاضبة السفارة والقنصلية السعوديّتين في طهران ومشهد، وانقطعت العلاقات الدبلوماسية منذ ذلك الحين.
لمتابعة الكاتب على تويتر: HishamAlaywan64@