انتصرت الدّبلوماسيّة السّعوديّة، ويبدو أنّ العقل السعودي الجديد يملأ المنطقة بالمفاجآت. فبعدما جاءَت المملكة بالصّين إلى قلبِ الرّياض، ووقّعت معها اتفاقيّات استراتيجيّة، وبعدما التزمت الحياد في الصّراع بين موسكو وواشنطن في أوكرانيا، بل وصار مرشحاً للوساطة بين البلدين لحلّ هذا الصّراع، أرسَت التّوازن الصيني – الروسي – الأميركي. وها هي اليوم تُوقّع اتفاقيّة تاريخية مع إيران قد تظهر نتائجها في شهر رمضان وتُنهي الأزمة اليمنيّة.
طوال عقودٍ من الزّمن، كانت السّياسة الخارجيّة السّعوديّة قابلة للتوقّع، إلّا أنّ السّنوات الأخيرة غيّرت هذه المُعادلة. لم تكُن واشنطن مُنخرطة في الخطوة السّعودية – الإيرانيّة، لكنّها كانت فقط “على علمٍ”، على حدّ وصف البيت الأبيض أمس الأوّل.
لم تعد المملكة تُجاري سياسة الولايات المُتحدة بالكامل، بل تسير حسب مصالحها الخاصّة، وليسَ آخرها رفض الدّول الخليجيّة الانخراط في أيّ تصعيدٍ في المنطقة، بحسب ما ذكر مصدر أميركيّ لـ”أساس”.
يشير مصدرٌ عراقيّ رفيع لـ”أساس” إلى أنّ السّعوديّة تمسّكت طوال جولات التّفاوض الـ6 مع إيران في العاصمة العراقيّة بغداد بضرورة أن تعمَل إيران على حلّ الأزمة اليمنيّة قبل تبادل فتح السّفارتين وعودة العلاقات الدّبلوماسيّة
اليمَن.. اختبار حُسن النّوايا
يظهر جليّاً في نصّ الاتفاق أنّ السّعوديّة حقّقت الكثير من مطالبها. كذلك تشير مدّة “الشّهريْن” التي اتُّفقَ عليها لتبادل التمثيل الدّبلوماسيّ بين البلديْن إلى أنّ الرّياض تنتظر من طهران أن تُحوّل الالتزامات إلى أفعال.
يشير مصدرٌ عراقيّ رفيع لـ”أساس” إلى أنّ السّعوديّة تمسّكت طوال جولات التّفاوض الـ6 مع إيران في العاصمة العراقيّة بغداد بضرورة أن تعمَل إيران على حلّ الأزمة اليمنيّة قبل تبادل فتح السّفارتين وعودة العلاقات الدّبلوماسيّة.
يرى المصدر أنّ توقيع الاتفاق على عودة العلاقات يعني أنّ حلّ الأزمة اليمنيّة شهدَ تقدّماً من ناحية إيران، التي كانت تتنصّل من الحوثيين في مُحادثات بغداد. وقد يشهدُ شهر رمضان المُقبل بعد أيّام خطوةً جدّيّة في هذا الاتجاه. كما يكشف أنّ العراق وسلطنة عُمان وقطر لم يكونوا بعيدين إطلاقاً عن أجواء مُحادثات الصّين، إلّا أنّ عاملَ النّجاح الأبرز كانَ في جدّيّة جميع الأطراف والتزامهم الصّمت الإعلاميّ لإنجاح الاتفاق دون ضجّة.
يرتبطُ نجاح الاتفاق بترسيخ حلّ الأزمة اليمنيّة، ومهلة الشّهريْن التي طلبها الوفد السّعوديّ هدفها مُراقبة سلوك إيران من اليمَن إلى لبنان مروراً بالعراق وسوريا. ستكون خطوات التّنفيذ محور لقاءٍ سيجمع وزيرَيْ الخارجيّة فيصل بن فرحان وحسين أمير عبد اللهيان قريباً.
الولايات المُتّحدة حاضرة دون كرسيّ
بدوره، يكشف مصدرٌ أميركيّ في مكتب الأمن القوميّ، رفضَ الكشف عن اسمه لأسباب إداريّة، أنّ واشنطن كانت على علم بكلّ المُباحثات الهادفة إلى خفض التّوتّر الإقليميّ بين الرّياض وطهران، وقد أبلغ الأميركيّون السّعوديين تشجيعهم كلّ خطوة من شأنها إنهاء الأزمة اليمنيّة وإنهاء التوتّر.
ويشير المصدر إلى الاجتماع الأمنيّ الذي عُقِدَ في السّعوديّة قبل أيّام، وكان “أساس” أوّل من كشفَ عنه في مقالةٍ سابقة، ولم يُبدِ فيه السّعوديون ومُمثّلو دول مجلس التّعاون الخليجيّ حماسةً لأيّ عملٍ عسكريّ إسرائيليّ ضدّ المُنشآت النّوويّة الإيرانيّة، وأبلغوا الأميركيين أنّ خطوة كهذه قد تنعكس سلباً على المنطقة برمّتها، وأنّ الرّياض تعتقد أنّ الدّبلوماسيّة الهادفة والقويّة هي الأجدر في التّعاطي مع إيران.
لم يكن الخليجيّون مُتحمّسين أيضاً لطرح أميركيّ يتضمّن عمليّة عسكريّة مُحتملة في سوريا من أجل تطويق التنسيق العسكريّ الرّوسيّ – الإيرانيّ. يقول المصدر إنّ مُمثّلي دول خليجيّة قالوا صراحة إنّهم غير معنيين بأيّ خطوات تصعيديّة في المنطقة، وإنّ هدفهم إرساء الاستقرار.
يكشف مصدرٌ أميركيّ في مكتب الأمن القوميّ، أنّ واشنطن كانت على علم بكلّ المُباحثات الهادفة إلى خفض التّوتّر الإقليميّ بين الرّياض وطهران، وقد أبلغ الأميركيّون السّعوديين تشجيعهم كلّ خطوة من شأنها إنهاء الأزمة اليمنيّة وإنهاء التوتّر
يعتقد المصدر أنّ التّردّد الخليجيّ سينعكس على اندفاعة واشنطن في خططها المُحتملة في سوريا، كما أنّ إعلان عودة العلاقات بين الرّياض وطهران سيجعل أكثرَ تعقيداً مهمّة رئيس الوزراء الإسرائيليّ بنيامين نتانياهو الذي أعلنَ نيّته التطبيع مع السّعوديّة.
ماذا في كواليس الاتّفاق السّعوديّ – الإيرانيّ؟
بدأت الحلقة الأخيرة من المفاجأة السّياسية بين السعودية وإيران حين كان وزير الخارجيّة السّعوديّ الأمير فيصل بن فرحان آل سعود يزور كلّاً من العراق ودولة الكويت وسلطنة عُمان وروسيا وقطر، مجرياً اتصالات مع المعنيين بالوساطة مع إيران.
كانَت العلاقة مع إيران حاضرة في كلّ لقاءٍ عقدَه بن فرحان قبل وأثناء وجود الوفد السّعوديّ الذي رأسه مُستشار الأمن الوطنيّ مساعد بن محمّد العيبان في العاصمة الصّينيّة بكين.
في موسكو كانَ بن فرحان يلتقي نظيره الرّوسيّ سيرغي لافروف. بحسب مصدر دبلوماسيّ عربيّ واسع الاطلاع، فإنّ وزير الخارجيّة السّعوديّ طلَبَ من لافروف أن تضغطَ روسيا على إيران لتوقيع الاتفاق الذي ينصّ صراحة على المطلب السعوديّ الرّئيس المتمثّل في “وقف التّدخل بشؤون الدّول وزعزعة استقرارها”.
نالَ السّعوديّون مُرادهم من الرّوس، خصوصاً أنّ موسكو تُريد من الرّياض أن تلعبَ دوراً أساسيّاً في حلّ الأزمة الأوكرانيّة. أرسَلَت موسكو إلى أمين المجلس الأعلى للأمن القوميّ الإيرانيّ علي شمخاني تمنّيات الكرملين أن تنجز إيران الاتفاق مع السّعوديّة، وأن تلعَبَ دوراً إيجابيّاً في دفع العمليّة السّياسيّة قُدماً في اليمَن.
بسريّة تامّة وصمتٍ اشتُهِرَت به، استطاعت القوّة العالميّة الثّانية بعد الولايات المُتحدة أن تجمع توقيعيْ المملكة العربيّة وإيران على اتفاقٍ لاستئناف العلاقات المقطوعة منذ 7 سنوات.
دخلَ التّنّين الصّينيّ ساحة الشّرق الأوسط من أوسع أبوابه وأكثرها تعقيداً، العلاقة السّعوديّة – الإيرانيّة.
فاوضَت المملكة العربيّة السّعوديّة إيران نيابةً عن العرب. يُعبّر نصّ الاتفاقِ عن ذلك. فوقْف تدخّل إيران بشؤون الدّول العربيّة وزعزعة استقرارها ليسَ مطلباً سعوديّاً فقط، بل هو محلّ إجماع عربيّ توثّقه بيانات القمم العربيّة، المُوسّعة منها والمُصغّرة.
لم تعد المملكة تُجاري سياسة الولايات المُتحدة بالكامل، بل تسير حسب مصالحها الخاصّة، وليسَ آخرها رفض الدّول الخليجيّة الانخراط في أيّ تصعيدٍ في المنطقة، بحسب ما ذكر مصدر أميركيّ لـ”أساس”
الصّين: القوّة النّاعمة
كان الدّور الأكبر في إنجاز الاتفاق للقوّة النّاعمة في بكين، التي ترتبط بعلاقات استراتيجيّة سياسية واقتصاديّة مع كلّ من إيران والسّعوديّة.
في حزيران 2020 وقّعت طهران وبكين اتفاقيّة تحت عنوان “برنامج التّعاون الإيرانيّ الصّيني” لمدّة 25 عاماً تتضمّن استثمارات وتعاوناً يفوق 150 مليار دولار بين البلديْن. كذلك تُعتبر الصّين المُستورد الأوّل للنّفط الإيرانيّ، على الرّغم من الحظر الأميركيّ المفروض عليه منذ انسحاب الرّئيس الأميركيّ السّابق دونالد ترامب من “خطّة العمل المُشتركة الشّاملة JCPOA”، أو ما يُعرف بالاتفاق النّوويّ المُوقّع سنة 2015.
أمّا على الجانب السّعوديّ، فقد وقّعت الصّين مع المملكة عشرات الاتفاقيّات التي تبلغ قيمتها مليارات الدّولارات، وتتضمّن تعاوناً في مجالات الطّاقة والبنُى التحتيّة والسّياسة والتّجارة والتكنولوجيا وغيرها. كما أنّ كلاًّ من إيران والسّعوديّة يقع جغرافيّاً في المجال الحيويّ لخطّة “الحزام والطّريق” التي قامَت على أنقاض ما كان يُعرف بـ”طريق الحرير”، والتي تغطّي أكثر من 68 دولة، بما في ذلك 65% من سكان العالم و40% من الناتج المحلي الإجمالي العالميّ.
يمرّ طريق الحرير البرّيّ بمنطقة شمال إيران، ومنها إلى تُركيا وأوروبا. أمّا طريقها البحريّ فيعبرُ من المُحيط الهنديّ نحوَ البحر الأحمر على طول السّاحل اليمنيّ والسّعوديّ نحو البحر الأبيض المُتوسّط عبر قناة السّويس، ومنها إلى أوروبا.
فرضَت هذه النّقاط الاستراتيجيّة عاملاً صينيّاً فعّالاً استطاعت بكين من خلاله أن تدخل منطقة الشّرق الأوسط التي كانت غريمتها الولايات المُتحدة تُهيمن على سياستها الجغرافيّة طوال سنوات.
إقرأ أيضاً: الرياض ترفض وساطة الأسد مع الحوثيين
يُضاف إلى كلّ ما سلف أنّ بكين تستورد 40% من نفطها من منطقة الخليج العربيّ، وهذا لوحده دافعٌ صينيّ لمحاولة إرساء الاستقرار في المنطقة.
هي نقطة تحوّل مهمّة في المنطقة، في حال كُتبَ لها الخواتيم السّعيدة. لكنّ تاريخ العلاقة بين السّعوديّة وإيران يُظهر أنّ الأخيرة نادراً ما تلتزم بتواقيعها ووعودها. يُراقب السّعوديّون السّلوك الإيرانيّ في الأسابيع المُقبلة، فإمّا أن تتعزّز العلاقات، وإمّا أن تعودَ إلى مرحلة 2016. وفي اليمَن البداية…
لمتابعة الكاتب على تويتر: IbrahimRihan2@