“شورى الدولة” يعترف: الحكومات “هضمت” الودائع

مدة القراءة 6 د

وافق مجلس شورى الدولة أمس الأوّل على قبول مراجعة تقدّمت بها جمعية المصارف ضدّ “خطة التعافي” التي أقرّتها الحكومة، لأنّ الخطّة تشطب رساميل المصارف ولا تعترف إلا بمئة ألف دولار “فريش” لكلّ مودع في مصارف لبنان.
قَبِل مجلس الشورى المراجعة “شكلاً”، واعتبر نفسه “المرجع الصالح” لمراقبة خطوات الحكومة في كلّ قرار تتّخذه لـ”إعفاء نفسها من ردّ ودائع الناس”، خصوصاً أنّه قرار إداري “نافذ وضارّ”، على ما ورد في قرار قبول الطعن.
قد تكون المرّة الأولى التي تعترف فيها جهة قضائية لبنانية، هي مجلس الشورى اليوم، بأنّ استراتيجية النهوض بالقطاع المالي هي بمنزلة “مصادرة لودائع المصارف لدى مصرف لبنان والتصرّف بها وتملّكها” من دون إعلان ذلك، أي إنّه أمر يشبه التأميم. وهذا يُعدّ موقفاً متقدّماً وتطوّراً لافتاً وجديداً يصدر عن القضاء اللبناني، بخلاف ما حاول البعض الإيحاء به وقوله من أنّه “قبول للطعن” وحسب.
رأى مجلس “الشورى” أنّ تملُّك الحكومة الودائع “تملّكاً نهائيّاً”، وبشكل “نافذ فوراً”، يعفي المصرف المركزي من التزاماته تجاه المصارف ويعفي الدولة من واجب دفع المبالغ التي استدانتها من مصرف لبنان، وهي سبق أن استدانتها من المصارف، حيث كانت “ودائع الناس”. وهنا لبّ الأزمة التي لم تجرؤ أيّ جهة رسمية إلى اليوم على قولها صراحة.
اعتبر المجلس أيضاً أنّ جمعية المصارف “لا تطعن إطلاقاً بخطة التعافي”، وإنّما تعترض على بند محدّد فيها يؤدّي إقراره إلى “مخالفة القواعد الدستورية والقانونية”. كما يتعلّق حصراً بقرار منفصل عن العمل الحكومي، وعن الاتفاق الدولي، وهو قرار الدولة أن تعفي نفسها من واجب ردّ الودائع الخاصة التي استلفتها من مصرف لبنان، وتحميل فئة من الناس، أي المودعين، أعباء الدولة اللبنانية.

الحقيقة المنطقية هي أنّ المودعين والمصارف يفترض أن يكونا فريقاً واحداً وليس العكس… وربّما هذا هو ما لا تريد بعض الجهات الاقتناع به، ولهذا تحاربه

في نظر مجلس الشورى، تحاول الدولة “مصادرة ودائع المودعين” وبـ”مفعول رجعيّ”، وهو ما سيؤدّي إلى إلغاء القطاع المصرفيّ، ويخلق نزاعاً بين المصارف والمودعين بشكل يخالف قواعد المسؤوليّة.

ماذا في التفاصيل؟
كلّ هذا في الشكل، لكنّ الغوص في مضمون الطعن والبحث في ثناياه يمكّناننا من استخلاص التالي:
1- قبول مجلس شورى الدولة الطعن حتى اللحظة هو قبول وحسب وليس انتصاراً نهائياً، لأنّ الإجراء يتطلّب دراسة الطعن وصدور قرار نهائي لا يُعرف إن كان سيصدر أم سيوضع الملفّ في الأدراج وينام بإيعاز من جهة ما.
لكن في حال سلك الطعن طريقه وصولاً إلى اتخاذ قرار، وكان لصالح الجهة المدّعية، فإنّ هذا القرار سيفرّغ “خطة التعافي” الحكومية من مضامينها، ويؤكّد أنّها لن تستطيع بلوغ أيّ اتفاق مع صندوق النقد الدولي أو غيره، من دون بلوغ “توافق” على شكل الخطة يشملها أوّلاً ويشمل معها مصرف لبنان والمصارف خصوصاً وتوزيع الخسائر بين الدولة والمصارف ومصرف لبنان والمودعين وأصحاب المصارف والأسهم.
2- أظهر سلوك الحكومة في وضع “خطة التعافي” إهمالاً حكومياً ملحوظاً بل متعمّداً في بعض المحطات لوجهة نظر المصارف، وهذا ما دفع بها إلى عرقلة سير الخطة بواسطة الطعن، باعتبار أنّ الخطة “غير منصفة” بحقّ المصارف، وكذلك بحقّ المودعين. ولو أظهرت الحكومة شيئاً من اللين في حينه، لما وصلت الأمور إلى ما وصلت إليه اليوم.
3- بات أمراً صعباً أن تقذف الحكومة بمسؤولية الأزمة على المصارف منفردة، وأن تنفض يدها من الودائع والمودعين من دون الاعتراف بما أنفقته من أموال مصرف لبنان والمصارف والمودعين.
4- التفكير بهدوء، من خلال الأطر القانونية والدستورية، قادر على خلق الحلول، وتقريب وجهات النظر، بخلاف الحملات الغوغائية التي تتبنّاها جمعيات تدّعي تمثيل المودعين، وتكتفي بالتحريض ضدّ المصارف لمحاصرتها وتحطيم واجهاتها. فهذا أسلوب لن يعيد أموال المودعين بل قد يأتي بنتائج عكسية، منها تعنّت المصارف وحرمان المواطنين (لا المودعين فحسب) من تسيير أمورهم الحياتية اليومية عبر الإضراب. وهذه الجمعيات لم نسمع لها صوتاً بوجه السلطة والحكومات المتعاقبة التي هضمت الودائع.

في نظر مجلس الشورى، تحاول الدولة “مصادرة ودائع المودعين” وبـ”مفعول رجعيّ”، وهو ما سيؤدّي إلى إلغاء القطاع المصرفيّ، ويخلق نزاعاً بين المصارف والمودعين بشكل يخالف قواعد المسؤوليّة

ما هو دور المصارف؟
5- سلكت المصارف خطوات عملية باعتبارها شريكة في معركة “استرداد الودائع”، كما أظهرت وعياً يفوق وعي بعض المودعين وبعض الجمعيات الناطقة باسمها. فتلك الجمعيات (على أنواعها وأشكالها وأسمائها) لم تتبنَّ يوماً فكرة من هذا النوع (التقدّم بطعن) فظهرت عن قصد أو عن غير قصد ربّما، وكأنّها في “خندق” واحد مع السلطة (والدولة) بمواجهة المصارف، وضدّ استعادة الودائع، لكن بطرق ملتوية، بينما الحقيقة المنطقية هي أنّ المودعين والمصارف يفترض أن يكونا فريقاً واحداً وليس العكس… وربّما هذا هو ما لا تريد بعض الجهات الاقتناع به، ولهذا تحاربه!
6- لكن في المقابل أيضاً، فإنّ اعتبار مصرف لبنان والمصارف والمودعين فريقاً واحداً بـ”كبسة زر”، هو إفراط في التفاؤل، لأنّ توجّهات مصرف لبنان لا تتطابق 100% مع توجّهات جميع المصارف، كما توجّهات المصارف نفسها لا تتطابق فيما بينها، خصوصاً أنّها ما زالت تلتزم قرارات “جمعية المصارف” على قاعدة “الإجماع”. هناك مصارف “قادرة” وتريد إعطاء مودعيها أكثر ممّا تعطيهم التعاميم 151 و158، لكنّ “الإجماع” هذا يمنعها.
7- الظنّ أنّ هذا الطعن سيعيد الودائع كاملة، هو أيضاً إفراط في التفاؤل، وتدلّ على ذلك قرارات مشابهة اتّخذها مجلس شورى الدولة، ومنها الطعن بالتعميم 151 الخاص بـ”ليلرة” الودائع الذي ما زال سارياً إلى اليوم على الرغم من قبول الطعن وصدور قرار ضدّه… وهذا يعني أنّ “الأمر الواقع” في بعض المحطات وفي ظروف اقتصادية دقيقة كان أقوى من كلّ القرارات القضائية.
قد يتّهم البعض المصارف بأنّها تنسف “خطة التعافي” بطعنها هذا، أو تعيدنا إلى المربّع الأول، وتهدر 3 سنوات من المفاوضات مع صندوق النقد.

إقرأ أيضاً: الدولة ربحت 90 مليار $.. لا حصّة للمودعين منها؟

الإجابة هي التالية: إذا أعاد الطعن توزيع المسؤوليات بما يمليه المنطق والمساواة، وقطع الطريق أمام “سلبطة” السلطة وتهرّبها من مسؤوليّاتها، وأسّس لحصول المودعين على ودائعهم بما يفوق ما ترسمه الحكومة (100 ألف دولار)، وكذلك أعفى المصارف من خسارة كاملة لرساميلها… فأهلاً وسهلاً بالطعن.
لمَ لا؟ إن كانت السلطة إلى اليوم تعتبر أنّها تملك ترف الوقت لإقرار قوانين مثل “هيكلة المصارف” و”الكابيتال كونترول” وغيرهما، طوال 4 سنوات.

يا خوف عكّا من هدير البحر!

 

لمتابعة الكاتب على تويتر: emadchidiac@

مواضيع ذات صلة

هذه هي الإصلاحات المطلوبة في القطاع المصرفيّ (2/2)

مع تعمّق الأزمة اللبنانية، يصبح من الضروري تحليل أوجه القصور في أداء المؤسّسات المصرفية والمالية، وطرح إصلاحات جذرية من شأنها استعادة الثقة المفقودة بين المصارف…

لا نهوض للاقتصاد… قبل إصلاح القطاع المصرفيّ (1/2)

لبنان، الذي كان يوماً يُعرف بأنّه “سويسرا الشرق” بفضل قطاعه المصرفي المتين واقتصاده الديناميكي، يعيش اليوم واحدة من أخطر الأزمات النقدية والاقتصادية في تاريخه. هذه…

مجموعة الـ20: قيود تمنع مواءمة المصالح

اختتمت أعمال قمّة مجموعة العشرين التي عقدت في ريو دي جانيرو يومي 18 و19 تشرين الثاني 2024، فيما يشهد العالم استقطاباً سياسياً متزايداً وعدم استقرار…

آثار النّزوح بالأرقام: كارثة بشريّة واقتصاديّة

لم تتسبّب الهجمات الإسرائيلية المستمرّة على لبنان في إلحاق أضرار مادّية واقتصادية مدمّرة فحسب، بل تسبّبت أيضاً في واحدة من أشدّ أزمات النزوح في تاريخ…