إنّها جبهة كاملة متكاملة، لم يحدث مثلها في أيّ زمان ومكان، ولا على جميع الجبهات التي قاتلت عليها إسرائيل منذ بداية حروبها مع العرب التي كانت تشتعل لأيام لتخبو لسنوات، والتي كانت حروب جيش منظّم قويّ التسليح سمّى نفسه “الجيش الذي لا يُقهر”.
الجبهة “الكاملة المتكاملة” التي تشتعل في أضيق ساحة صراع على وجه الأرض، يقول كثير من الكتّاب والمثقّفين والباحثين وحتى القادة العسكريين العاملين والمتقاعدين إنّها تستحقّ وصف “الجبهة المستحيلة”، أو “الجبهة التي لا أمل في حسمها”.
تكمن كلمة السرّ في أنّ نتائجها النهائية لا يحدّدها انتصار جيش على جيش يقابله. فجيش إسرائيل في الضفّة والقدس وغزّة يسبح في بحرٍ ماؤه الناس، وأمواجه الكراهية المتأصّلة للاحتلال وإهدار الكرامة، وحين يواجه أقوى جيش في العالم بحراً من هذا النوع فمن أين يأتي بالقدرة على الحسم؟! فما أصعب الحرب التي يضطرّ جيشٌ إلى خوضها في بحر ليس له.
تخوض إسرائيل حرباً مع الفلسطينيين بات حسمُها ميؤوساً منه، إذ لم يبقَ سلاح إلا واستخدم فيها. فالسفن الحربية تحاصر بحر غزّة، والقوّات الجوّية التقليدية والمسيّرات تدكّ الأهداف الثابتة، وتغتال القادة والأفراد، ومروحيّات الأباتشي دخلت على الخطّ، وقتلت صبية. أمّا القوات البرّية الراجلة والمحمولة فهي موزّعة على كلّ متر مربّع من أرض الضفّة وغلاف غزّة، وآخر قرار حكومي كان مضاعفة عديدها وآليّاتها لحراسة مئات الحواجز العسكرية، التي تخوض اشتباكاً يومياً مع كلّ فلسطيني ينتقل من مدينة إلى أخرى، وأحياناً من حيّ إلى آخر.
هنا حيث الجبهة الإسرائيلية “الكاملة المتكاملة” التي بعد كلّ هذا الحشد والإنفاق والقتل والحصار تستحقّ فعلاً أن تسمّى بـ”المستحيلة”، وهي بالفعل كذلك بشهادة الواقع
الجيش الأقوى والأحدث
مَن يمتلك طائرات “إف 35” غير جيش إسرائيل الأحدث على مستوى العالم؟ وبالمناسبة لا يمتلكها الحلف الأطلسي نفسه. هذا الجيش له ميليشيا تعدّ بعشرات الألوف وجزء منها رسمي معلن يسمّى “المستعربين” والجزء الأوسع الذي يقال إنّه غير رسمي هو المستوطنون المسلّحون، الذين يؤدّون دورهم القتالي المباشر تحت رعاية “جيش الدفاع”، وليس ما حدث في حوارة هو النموذج الوحيد، وما حدث في ترمسعيا حيث التدمير والحرق هو عيّنة وحسب.
على الرغم من كلّ هذه الكثافة العسكرية والتسليحية، لا تزال عسكرة ملايين الإسرائيليين جارية على قدم وساق، وكلّما وقعت عملية فدائيّة في مدينة أو مستوطنة، ترتفع نسبة شراء الأسلحة إلى ما يزيد على ستمئة في المئة، “وهذا إحصاء رسمي”.
في سبيل تعزيز الجبهة العسكرية المباشرة، هنالك الاستيطان الذي لا يُستخدَم على نحو “تقليديّ” للإسكان، بل هو انتشار عسكري مدروس بحيث لا ينظر أيّ فلسطيني من نافذة بيته إلّا ويرى مستوطنة مدجّجة بالسلاح. لقد دخل الاستيطان مباشرة إلى الجبهة العسكرية، وتحديداً في مجال العقوبات والردع والانتقام، إذ بعد العملية الخطيرة التي نفّذها شابّان فلسطينيان وقُتل فيها أربعة إسرائيليين وسقط عدد من الجرحى، تقرّرت إقامة ألف وحدة استيطانية في المكان!!!
وساعة كتابة هذه المقالة، قامت طائرة مسيّرة باغتيال ثلاثة مقاومين.
الجبهة “الكاملة المتكاملة” التي أعدّتها إسرائيل لإخضاع الشعب الفلسطيني الذي يعدّ بالملايين على أرضه، والتي تُسمّى بحقّ الجبهة المستحيلة، أحرزت نتيجة واحدة لا جدال فيها، وهي إنجاب جبهات عديدة على الطرف الآخر. جبهة مقاومين بما تيسّر لهم من سلاح، وجبهة تجسّدها قوّة الحياة التي تخطّت بإبداعاتها كلّ الحواجز، وهي أشبه ما تكون بحرب ظلال تحيِّر من يطاردها.
إقرأ أيضاً: خارج الخرائط: فلسطين “هُنا”… في القلب
نحن الآن في موسم تخرُّج آلاف الجامعيين وآلاف الثانويين وآلاف المهنيين وآلاف العازفين على أحدث ما وصلت إليه “الهاي تك”. المدن الفلسطينية والقرى والخِرَب تمتدّ وتتّسع وسيتّصل بعضها ببعض بحيث تبدو الضفّة المتّصلة بالقدس كتلة معمارية وآدميّة، وإن استطاع الاحتلال تعذيبها فلن يستطيع ابتلاعها وهضمها. وبوسعنا هنا الإشارة إلى الإخفاقات الجوهرية لإسرائيل في التعامل مع فلسطينيّي ما وراء الخط الأخضر، وما يفعله بنو معروف الآن جزء من لوحة متعدّدة الألوان.
هذا هو الحال.. هنا.. حيث الجبهة الإسرائيلية “الكاملة المتكاملة” التي بعد كلّ هذا الحشد والإنفاق والقتل والحصار تستحقّ فعلاً أن تسمّى بـ”المستحيلة”، وهي بالفعل كذلك بشهادة الواقع.
والسؤال: ما الذي بقي لإسرائيل أن تفعله أكثر ممّا فعلت؟