لم يتوقّف الوسط السياسي كثيراً أمام تسريب تلك المعلومة التي تفيد بأنّ الأمين العامّ للحزب فاتح الموفد البطريركي المطران بولس عبد الساتر بأنّه كان هناك مشروع إبّان حكومة الرئيس فؤاد السنيورة “لتهجيرنا إلى جنوب العراق”، خلال حرب تموز من عام 2006.
بين حماية “الانتصارات” وسرديّة المظلوميّة
يبني الحزب خطابه، منذ أن بدأ الاستحقاق الرئاسي في لبنان يفرض نفسه، على قاعدة فكرتين تبدوان متناقضتين:
– تارة على القوّة الصاروخية والقتالية والاعتداد بالنفس والإنجازات والانتصارات التي حقّقها مع محور الممانعة إقليمياً ولبنانياً في مواجهة إسرائيل والغرب، وعلى أساس أنّ الخصم آيل إلى أفول، وذلك لتبرير إصراره على رئيس يحمي هذه الإنجازات.
– وتارة أخرى على خطاب يحذّر فيه من مؤامرة أميركية وإسرائيلية عليه وعلى لبنان، ممزوجة بالحديث عن مظلومية يتعرّض لها من خلال استظلال السردية الدينية والإيمانية الحسينيّة، لتغطية انخراطه في تصدير الثورة الإيرانية إلى سائر بقاع الأرض. وهو مبدأ بقي ساري المفعول على الرغم من إقرار طهران بمبدأ عدم التدخّل في شؤون الدول، في اتفاق بكين بينها وبين المملكة العربية السعودية في 10 آذار الماضي، الذي يبدو أنّ مفعوله لا يسري على سائر الدول التي للحزب دور فيها.
كان المطران عبد الساتر التقى “السيّد” في الثالث من حزيران الجاري موفداً من البطريرك الماروني الكاردينال بشارة الراعي، تنفيذاً لنصيحة فاتيكانية وفرنسية تلقّاها خلال زيارتَيه للفاتيكان وفرنسا في 29 و30 أيار الماضي، وفحواها أنّه إذا كان موقف القادة المسيحيين الإجمالي رفض الإتيان برئيس للجمهورية خلافاً لإرادتهم، فإنّه يصعب في المقابل الإتيان برئيس من دون التفاهم مع القيادة الشيعية، التي يُنصح بالحوار معها، وهكذا كان.
يصعب تصوّر أسباب إصرار “الثنائي الشيعي” على “الحوار” من دون الأخذ في الاعتبار جملة عوامل ترخي بثقلها على دور التحالف بين حركة “أمل” والحزب
الحوار من أجل الضمانات
أراد البطريرك الراعي أن ينقل الخبر إلى السنيورة الذي زاره برفقة مجموعة سياسيين ووزراء ونوّاب سابقين في 11 حزيران. فخاطبه قائلاً إنّ نصر الله شكا منه في اللقاء مع المطران عبد الساتر، مشيراً إلى ما سمعه من الأمين العامّ للحزب عن نيّة “تهجير الشيعة إلى العراق”. وشاع الأمر لاحقاً.
منهم من قال إنّ المقصود كان “تهجيرنا” إلى جنوب العراق “إبّان حكومة السنيورة”، وهذا يحتمل التفسير القائل إنّ المقصود هي جهات خارجية سعت إلى ذلك خلال الفترة الزمنية لحكومة السنيورة. ومنهم من قال إنّ المقصود اتّهام السنيورة شخصيّاً بالضلوع في هذا المخطّط. وفي الحالتين ثمّة اتّهام للرجل دفعه إلى إصدار نفيه الحاسم لِما نُقل عن نصر الله، معتبراً أنّ “الكلام الذي نُقِلَ عن لسان السيد حسن نصر الله وهمٌ مختلَقٌ بكامله، ومحض فبركة لأساطير لا أساس لها من الصحّة على الإطلاق إلّا في ذهن قائلها”. وذكّر السنيورة في بيانه ببعض تفاصيل ما قامت به حكومته إبّان العدوان الإسرائيلي عام 2006، ثمّ في إعادة إعمار ما هدّمته الحرب.
ما قاله نصر الله جاء في سياق إجابته على سؤال المطران عبد الساتر عمّا يطالب به الحزب “مقابل تسهيل انتخابات الرئاسة في لبنان، كرّر الأمين العامّ الدعوة إلى الحوار. ويقول العارفون بوقائع الجلسة إنّ النقاش تطوّر نحو حوار في الضمانات التي يُمكن أنّ تُقدَّم إلى المقاومة، وكان كلام بأنّها لن تكون “كافية” إذا جاءت من “فرد”، بل يجب أن تخرج من صيغة سياسية يتّفق عليها اللبنانيون، وخلاصتها تكريس دور المقاومة وسلاحها في البلد. وخرج المطران بما يفيد بأنّ جوهر ما يطلبه نصر الله هو الحوار، وهو الأمر نفسه الذي شدّد عليه رئيس البرلمان نبيه برّي حين التقاه عبد الساتر برفقة المطران مارون العمار، وبأن لا رئيس للجمهورية من دون حوار.
لكنّ ما قاله نصر الله ونفاه السنيورة لا يحجب حقيقة أنّ الحزب يتدرّج في إفهام من يهمّه الأمر بأنّ معركة الرئاسة الأولى في لبنان هي مناسبة من أجل البحث في صيغة سياسية تضمن مكتسبات الطائفة الشيعية في النظام اللبناني، استناداً إلى الصعود الإيراني في المنطقة منذ 44 عاماً.
فقدان الأكثريّة واتّفاق بكين
يصعب تصوّر أسباب إصرار “الثنائي الشيعي” على “الحوار” من دون الأخذ في الاعتبار جملة عوامل ترخي بثقلها على دور التحالف بين حركة “أمل” والحزب، وهي:
– فقدان الأكثرية في البرلمان وانتهاء ولاية الرئيس ميشال عون وصهره جبران باسيل في المركز الأول في السلطة، التي نال خلالها الحزب ما لم ينله من تسهيلات سياسية وأمنية في السابق. والدليل عدم تمكّنه من ضمان الإتيان بالرئيس الذي يريد حتى إشعار آخر. وهو عهد أتاح لـ”الثنائي” أن يحصل على مكتسبات في مؤسّسات الدولة شملت حركة “أمل” مثل “الحزب”، على الرغم من الخلاف بين برّي وبين عون وصهره.
– الاتفاق السعودي الإيراني المرشّح لأن يتطوّر وينتقل من التهدئة إلى توافقات إقليمية يُفترض أن تنعكس ولو ببطء شديد على الميادين كافّة، ومنها لبنان، تراجعاً لنفوذ إيران لمصلحة تحوُّلها إلى دولة طبيعية في المنطقة. والحزب لن يغامر بالإقدام على تنازلات مبكرة، إذا اقتصرت مفاعيل الاتفاق على العلاقة الثنائية بين طهران والرياض، مع اقتسام للنفوذ يُبقي على ما حقّقته طهران من مكاسب في ساحات نفوذها الأمنيّ والعسكري.
إنّ اختبار مدى تحكّم طهران بأذرعها عبر الحدّ من نفوذها، هو الطريق لإنجاح الاتفاق عبر دعم الحلول السياسية في دول النفوذ الإيراني
وحدة الموقف الشيعيّ لحفظ المكتسبات
– الحرص على صلابة وحدة الموقف الشيعي في لبنان يترافق مع لغة شديدة الوضوح لدى قيادة الحزب، إن في العلاقة مع الجمهور الشيعي المتململ من حالة عدم الاستقرار بفعل عمق الأزمة السياسية الاقتصادية المالية وانعكاساتها السلبية على المستوى الشعبي، أو في التواصل مع المجموعات الشيعية المستقلّة عن “الثنائي”. والخطاب “الشيعي” يتمحور حول ضرورة حفظ مكتسبات الطائفة الشيعية التي حقّقها “الثنائي” في السلطة. فالحجج التي يعتمدها الحزب تقوم على تذكير هذا الجمهور وهذه المجموعات بأنّ الطائفة حصدت دوراً ونفوذاً كبيرين في لبنان منذ الثورة الإسلامية في إيران بقيادة الإمام الخميني لا يعقل وليس منطقياً التخلّي عنهما ببساطة، لأنّ ذلك سينعكس، بنظر قادة الحزب، سلباً على الشيعة كافّة لا على مؤيّديه ومؤيّدي حركة “أمل” فحسب.
تبرّر هذه العوامل وغيرها الإصرار على “الحوار” باعتبار أنّه يجب ألّا يقتصر على اسم رئيس الجمهورية بل أن يتعدّاه إلى ما هو أبعد، وأن يتناول التركيبة السياسية للبلد تبعاً لميزان القوى الراهن.
اتّفاق بكين واختبار الحدّ من دور أذرع إيران
هذا التنقّل بين الاعتداد بالقوّة والمكتسبات وبين تضخيم المظلومية، الذي يعتمده الحزب، يرى بعض خصومه المعتدلين الداعين إلى الحوار معه أنّه يعبّر عن قلق من التحوّلات الإقليمية المفترضة بعد اتفاق بكين، بل إنّ بعض الجهات السعودية المتحمّسة للاتفاق التي تتحدّث عن “جدّية” الجانب الإيراني في الإقبال عليه لا تنفي أنّ ثمّة عوائق أمامه ظهر بعضها في الأسابيع الماضية من خلال مواصلة بعض أذرع إيران هجومها على المملكة، على الرغم من قرار وقف الحملات الإعلامية المتبادلة.
إنّ اختبار مدى تحكّم طهران بأذرعها عبر الحدّ من نفوذها، هو الطريق لإنجاح الاتفاق عبر دعم الحلول السياسية في دول النفوذ الإيراني. وأمام طهران طريق ليس قصيراً من أجل التأقلم مع المرحلة التي افتتحها اتفاق بكين، وهو ما يؤخّر تكيّف الحزب مع تداعيات هذا الاتفاق. فطهران دمجت بين مصالحها الوطنية وبين إيديولوجية تقوم على تصدير الثورة وتدعيم الميليشيات المذهبية العابرة للحدود التي خلقتها على مدى السنين. وهو أمر ينصّ عليه الدستور الإيراني.
إقرأ أيضاً: أسئلة لودريان للحزب… وللآخرين
كما أنّ الميليشيات التي أنشأتها صارت لها شبكة مصالح فأنشأت شركات وأقامت مؤسّسات ربحية تتمتّع بحماية سياسية وإدارية، سواء في اليمن أو العراق أو سوريا أو لبنان، يصعب التخلّي عنها ولا بدّ من دمجها وتشريعها في النظام الاقتصادي المالي عبر السلطة السياسية. وهذه إشكاليات تفرض نفسها على الاستحقاق الرئاسي.