قمّة الإليزيه.. لودريان يعيد الكرة إلى بيروت

مدة القراءة 7 د

علاقة شخصية متقدّمة جمعت على مرّ السنوات الأخيرة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بوليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان. مرّت هذه العلاقة بضغوط دولية صعبة على باريس والرياض، لكنّ “الصديقين” استطاعا دائماً تأكيدها والاستمرار بها بما بات يعبّر عن كيمياء شخصية تتجاوز علم المصالح وتوافق الأجندات.

أن يختار الأمير محمد الإقامة لـ7 أيام في فرنسا في زيارته الثانية خلال أقلّ من عام، فذلك يسلّط المجهر على شراكة من نوع عالي الجودة بين البلدين وعلى ثقة استثنائية يوليها وليّ العهد السعودي للرئيس الفرنسي. ووفق تاريخ من الانخراط المشترك داخل أزمات عديدة معقّدة، تبدو لغة التخاطب بين الأمير والرئيس صريحة ومباشرة في مقاربة ملفّات ساخنة، ومنها ملفّ لبنان.

يعوّل ماكرون شخصيّاً على نجاح سعي بلاده إلى فكفكة عِقد الأزمة اللبنانية. تعلّم الرجل منذ “الإنزال” الذي قام به في بيروت بعد أيام من انفجار مرفئها في 4 آب 2020، وعرف “معمودية النار” في تمارين التعامل مع مسائل لبنان. كان الرجل قد استسهل سعيه آنذاك حين اعتقد أنّ مهمّته “الإنقاذية” ستُحرج ساسة البلد ومحاضراته في علم الحوكمة ستُفحمهم. اكتشف لاحقاً أنّ البلد، بنظامه السياسي والمجتمعي والطائفي والاقتصادي والأمنيّ، عصيّ على أيّ ضغوط ومبادرات حتى لو أتت من بلدان كبرى، ومنها فرنسا “الأمّ الحنون”، وأنّ من الصبيانية ارتجال حلول تُصنع في باريس.

علاقة شخصية متقدّمة جمعت على مرّ السنوات الأخيرة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بوليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان

تعرف باريس أنّها لا تمتلك في لبنان ما تمتلكه الرياض وطهران. تعرف أيضاً أنّ رشاقة القفز بين واشنطن والعاصمتين لا تخوّل فرنسا ورئيسها لعب دور خلّاق. استنتج في “حجِّهِ” اللبناني الرقم الصعب الذي تمتلكه إيران وحزبها في لبنان. استهواه التبرّع بالتواصل مع حزب تضعه واشنطن وعواصم غربية على لوائح الإرهاب، فاستبسط الإنصات له ولمصالح فرنسا المقبلة في إيران. وعلى ذلك بنى دعمه لترشيح سليمان فرنجية.

فرنسا و”نهاية زمن” طهران في بيروت

فشلت فرنسا. اكتشفت أنّ طهران وحزبها لم يعودا السبيل الوحيد لحلّ عِقد النظام السياسي، وأنّهما فقدا احتكار مفاتيح أبوابه. أعادت باريس قراءة أدائها وأعادت السفيرة الفرنسية في بيروت آن غريو وفريق الإليزيه المعنيّ بملف لبنان تموضعهم، وأعلنت وزارة الخارجية الفرنسية أن ليس لفرنسا مرشّح للرئاسة في لبنان. في ثنايا ذلك التغيير في لبنان صامتٌ كبير يراقب ويعمل بهدوء ويراعي حراك الصديق الفرنسي فلا يعرقل سعيه ولا يتّخذ أيّ موقف يضع عصيّاً في دواليب همّته: إنّه المملكة العربية السعوديّة.

كرّرت الرياض دائماً مواقف رسميّة، عبّر عنها خصوصاً سفيرها في بيروت وليد بخاري، تشدّد على حياد ونأي بالنفس عن أيّ تدخّل في شأن انتخاب رئيس جديد للبنان. وحين تحقّق الاتفاق السعودي الإيراني في بكين في 10 آذار الماضي، كرّرت السعودية الموقف نفسه، وتبنّت إيران على لسان وزير خارجيّتها حسين أمير عبد اللهيان حين زار لبنان في نيسان الماضي موقف الحياد عينه.

حتّى إنّ السفير الإيراني في لبنان مجتبى أماني خرج في 11 آذار الماضي (أي في اليوم التالي لاتفاق بكين) بتغريدة قال فيها، على نحو لافت، إنّ رؤية بلاده بشأن لبنان هي ما قاله وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان. كان الوزير قد قال قبل يوم إنّ “لبنان يحتاج لتقارب لبناني وليس لتقارب سعودي إيراني”.

إذا ما كانت باريس تعوّل على تمدّد اتفاق بكين صوب لبنان وقيام تفاهم سعودي إيراني يحلّ أزمته، فما حاجة بيروت وطهران والرياض إلى خدمات باريس. الواضح أنّ تعقّد حظوظ مرشّح الحزب، ومن ورائه إيران، سليمان فرنجية، دفع فرنسا إلى التبرّؤ من صفقتها الرئاسية. أقرّت باريس بأنّ السعودية باتت الرقم الصعب، ليس في لبنان فقط، بل داخل ملفّات أساسية كبرى في المنطقة والعالم.

يُنقل عن مصادر دبلوماسية فرنسية أنّ الرئيس ماكرون يعوّل على تطوّر علاقات بلاده مع السعودية ويطمح إلى أن يكون مع وليّ العهد السعودي قطبَي علاقة جديدة بين أوروبا والعالم العربي

السعودية والدور الأوكراني

يقترح ماكرون على ضيفه السعودي دوراً دولياً بات عاجلاً لوقف الحرب في أوكرانيا. تمتلك الرياض علاقات مع دول الطاقة، وفي مقدَّمها روسيا، وتنسج علاقات براغماتية واعدة مع الصين وأخرى عريقة يُعاد ترميمها مع واشنطن. هذا الأمر يخوّلها لعب أدوار لا تقوى عليها دول أخرى، بما فيها دول أساسية كبرى. ومن داخل آليّات التعاون في الأمن والاقتصاد والدفاع والانخراط في رؤية 2030 يتحرّى الرئيس الفرنسي شراكة مع الأمير محمد لإنجاح ورشته في لبنان.

الواضح أنّ توقيت تعيين ماكرون وزير الخارجية السابق جان إيف لودريان مبعوثاً خاصاً له إلى لبنان أخذ بالاعتبار زيارة وليّ العهد السعودي لباريس وشكّل استباقاً لنقاش سيجري بشأن لبنان بين السعودية وفرنسا على أعلى مستوى. إلى ذلك تعرف الرياض جيّداً الوزير السابق الوافد من الحزب الاشتراكي صوب الماكرونية المستحدثة والذي لعب أدواراً كثيفة واستثنائية في علاقات بلاده ورئيسها مع السعودية. ويمثّل تعيين الرجل، الذي لطالما عُرفت عنه مواقفه الصقوريّة الناقدة لإيران، رسالةً للرياض بإجراء تغيير في تركيبة الطاقم السياسي الفرنسي الذي يتولّى إدارة ملفّ لبنان.

في المعلومات أنّ مباحثات الرجلين في الشأن اللبناني كانت صريحة، لكنّ الموضوع بحدّ ذاته كان هامشاً لا متناً في أجندة قمّتهما. استنتج الرئيس الفرنسي استقرار الموقف السعودي لجهة التطلّع إلى أن يتولّى ساسة لبنان إجراء الإصلاحات الضرورية لإعادة الوصل مع الدوائر الإقليمية والدولية. استنتج أيضاً أنّ الرياض لن تخوض معركة في لبنان تتناقض مع مضمون بيان الاتفاق السعودي الإيراني في بكين. وكان واضحاً أنّ الرياض تشجّع الجهد الفرنسي وستكون داعمةً له، خصوصاً أنّه يأخذ بالاعتبار مصالح لبنان كما مصالح دول المنطقة، ويدرك أهميّة اتفاق بكين لإعادة كتابة المهمّة الفرنسية في نسختها الجديدة.

لبنان “يرطّب” علاقة فرنسا والسعودية

يُنقل عن مصادر دبلوماسية فرنسية أنّ الرئيس ماكرون يعوّل على تطوّر علاقات بلاده مع السعودية ويطمح إلى أن يكون مع وليّ العهد السعودي قطبَي علاقة جديدة بين أوروبا والعالم العربي. تضيف المصادر أنّ ماكرون يريد التقدّم في الورشة اللبنانية على أن تكون عنصر “حراري” للعلاقة مع الرياض لا أن تكون سبب توتّر وبرودة وحرج. وإذا ما التقى الموقفان الرسميّان، السعودي والإيراني، على تحييد نفسيهما عن “المعركة” اللبنانية، وإذا ما كان يوفّر نصّ اتفاق بكين عهداً جديداً في علاقات الرياض وطهران، فإنّ فرنسا وموفدها الجديد إلى لبنان يتمتّعان بأوراق جديدة لابتكار سياق حلّ سيستكشف لودريان معالمه في زيارته للبنان.

إقرأ أيضاً: أسطورة الوحدة الوطنيّة في لبنان

يملك ماكرون علاقة رشيقة مع السعودية وعلاقة مرنة مع إيران. كان الرئيس الفرنسي قد تحادث مع نظيره الإيراني إبراهيم رئيسي لمدّة 90 دقيقة في 10 حزيران الجاري بما يعبّر عن دينامية ما زالت فرنسا تمتلكها في المنطقة، ولا سيّما بين الأطراف المنخرطة في الشأن اللبناني. وعلى الرغم من ذلك لم يستطع ماكرون أن ينتزع من ضيفه السعودي موقفاً جديداً يتجاوز المعلَن والمعروف في شأن لبنان. ويذكّر مصدر سعودي أنّ أيّ تحوُّل في الموقف من الشأن اللبناني يُقرَّر في الرياض وليس في باريس. 

سيحمل لودريان أوراقاً إضافية داخل ملفّه اللبناني إلى بيروت. فإذا ما صحّ أنّ الرياض وطهران لن تتدخّلا في شأن رئاسة لبنان ولن تتورّطا في إرباك اتفاق بكين في لبنان، فإنّ للمبعوث الفرنسي دوراً واسعاً في الاهتداء إلى معادلة لبنانية محلّية تلاقي توافقات بكين وأجواء قمّة الإليزيه في باريس.

مواضيع ذات صلة

“استقلال” لبنان: سيادة دوليّة بدل الإيرانيّة أو الإسرائيليّة

محطّات كثيرة ترافق مفاوضات آموس هوكستين على وقف النار في لبنان، الذي مرّت أمس الذكرى الـ81 لاستقلاله في أسوأ ظروف لانتهاك سيادته. يصعب تصور نجاح…

فلسطين: متى تنشأ “المقاومة” الجديدة؟

غزة التي تحارب حماس على أرضها هي أصغر بقعة جغرافية وقعت عليها حرب. ذلك يمكن تحمّله لسنوات، لو كانت الإمدادات التسليحيّة والتموينية متاحة عبر اتصال…

السّودان: مأساة أكبر من غزّة ولبنان

سرقت أضواء جريمة الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة، وجرائم التدمير المنهجي التي ترتكبها في مدن لبنان وقراه، الأنظار عن أكبر جريمة ضدّ الإنسانية…

على باب الاستقلال الثّالث

في كلّ عام من تشرين الثاني يستعيد اللبنانيون حكايا لا أسانيد لها عن الاستقلال الذي نالوه من فرنسا. فيما اجتماعهم الوطني والأهليّ لا يزال يرتكس…