يصعب التكهّن بما يمكن أن تفضي إليه المفاوضات غير المباشرة الأميركيّة – الإيرانيّة. الأمر الوحيد الأكيد أنّ هذه المفاوضات باتت حقيقة وأنّ إدارة جو بايدن تراهن على تجميد للبرنامج النووي الإيراني وإطلاق سجناء أميركيين في مقابل الإفراج عن أموال إيرانيّة محتجزة في أنحاء مختلفة من العالم، بينها كوريا الجنوبيّة.
يبدو أوّل الغيث الإفراج عن نحو مليارَي دولار عائدة إلى إيران كانت محتجزة في العراق ثمناً لكهرباء ورّدتها “الجمهوريّة الإسلاميّة” للبلد الجار الذي جعلته تحت وصايتها بفضل المغامرة التي قام بها جورج بوش الابن في عام 2003 .
تبدو هذه الخطوة العراقيّة تجاه طهران، وهي خطوة سمحت بها واشنطن، بمنزلة دليل على حسن نيّة أميركيّة على هامش المفاوضات الدائرة بين واشنطن وطهران برعاية سلطنة عُمان.
يصعب التكهنّ بما يمكن أن تفضي إليه المفاوضات غير المباشرة الأميركيّة – الإيرانيّة. الأمر الوحيد الأكيد أنّ هذه المفاوضات باتت حقيقة
واضح ما الذي تسعى إليه “الجمهوريّة الإسلاميّة”. ما ليس واضحاً، بل غامض، ما تسعى إليه إدارة جو بايدن التي تدرك قبل غيرها، أو هكذا يُفترض، خطورة المشروع التوسّعي الإيراني وأبعاده وانعكاساته على دول المنطقة، خصوصاً العراق وسوريا ولبنان واليمن. يتأكّد يومياً أنّ جزءاً من اليمن تحوّل، في ظلّ تهاون أميركي، إلى قاعدة عسكريّة لـ”الجمهوريّة الإسلاميّة” في شبه الجزيرة العربيّة، على غرار ما كان عليه اليمن الجنوبي، الذي تحولّ في سبعينيات القرن الماضي وثمانينياته إلى قاعدة سوفيتيّة.
يتمثّل الوضوح الإيراني في السعي إلى تكرار تجربة باراك أوباما مع جو بايدن، وهي تجربة تُوّجت بتوقيع الاتفاق في شأن الملفّ النووي الإيراني بين مجموعة “5+1″ و”الجمهوريّة الإسلاميّة”. في الواقع، كان الاتفاق أميركيّاً – إيرانياً. لم تكن مجموعة “5+1″، أي الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، مضافةً إليها ألمانيا، سوى تغطية لفعل أميركي صبّ في مصلحة إيران.
في المقابل يتمثّل الغموض في تصريحات تصدر عن مسؤولين أميركيين، بمن في ذلك مصادر في وزارة الخارجية قالت حديثاً: ” نريد من إيران اتّخاذ خطوات لوقف أعمالها المزعزعة لاستقرار المنطقة. يشمل ذلك خطوات لتقليص برنامجها النووي”. ليس معروفاً ما الذي تريده أميركا من إيران باستثناء الاستعداد لصفقة تشمل مواطنين أميركيين محتجزين في سجون “الجمهوريّة الإسلاميّة”. في النهاية، ليس هناك موقف أميركي واضح من ايران منذ عهد الرئيس جيمي كارتر الذي تصرّف بطريقة عجيبة غريبة لدى احتجاز الإيرانيين دبلوماسيّي السفارة الأميركية في طهران طوال 444 يوماً ابتداء من تشرين الثاني من عام 1979. أسّس سلوك إدارة كارتر لسياسة أميركيّة ما زالت مستمرّة إلى يومنا هذا. تقوم هذه السياسة على تقديم تنازلات لإيران بمجرّد احتجازها مواطنين أميركيين… حتّى لو كان ذلك في لبنان.
هناك كلام كثير عن الأهداف الأميركيّة من التفاوض مع إيران. لكن لا يمرّ يوم إلّا ويزداد الغموض الأميركي، فيما تريد إيران التوصّل إلى صفقة تسمح لها باستعادة مليارات الدولارات، وذلك في ضوء رفع جزئيّ للعقوبات الأميركيّة. يفسّر مثل هذا الغموض الأميركي لجوء دول عربيّة عدّة حليفة لأميركا إلى إقامة شبكة علاقات متنوّعة، تشمل الصين، خلافاً لرغبات الولايات المتحدة. لم تسأل الإدارة الأميركية نفسها يوماً لماذا تحوّلت إلى حليف غير موثوق به لدى الحلفاء العرب على وجه التحديد؟
يوجد حالياً رهان إيراني على أنّ إدارة جو بايدن ستسير في إتجاه التوصل إلى اتفاق يصبّ في مصلحة “الجمهوريّة الإسلاميّة”
يبقى الأهمّ من ذلك كلّه ما الذي تريده إيران من مفاوضات جديدة مع أميركا؟ الجواب أنّها تريد استعادة شهر العسل الذي استطاعت إقامته مع إدارة باراك أوباما حين كان جو بايدن نائباً لرئيس الجمهورية مقيماً في البيت الأبيض بدور محدّد ومحدود. استطاعت “الجمهوريّة الإسلاميّة” تصوير الاتفاق في شأن برنامجها النووي بأنّه انتصار حقّقه باراك أوباما الذي عانت إدارته من ضعف شديد على صعيد الدور الأميركي في العالم. اختزل أوباما كلّ مشاكل الشرق الأوسط والخليج بالبرنامج النووي الإيراني. أكثر من ذلك، سمح بوصول مليارات الدولارات إلى إيران كي تدعم ميليشياتها المنتشرة في كلّ أنحاء المنطقة وتعيد الحياة إليها.
يوجد حالياً رهان إيراني على أنّ إدارة جو بايدن ستسير في إتجاه التوصّل إلى اتفاق يصبّ في مصلحة “الجمهوريّة الإسلاميّة”. مجرّد قبول واشنطن التفاوض في شأن الرهائن الأميركيين لدى إيران يعزّز هذا التوجّه الذي بدأ النظام السوري يراهن بدوره عليه وعلى انتصار “الجمهوريّة الإسلاميّة” ومشروعها الإقليمي.
أميركا لم تتغيّر، كذلك إيران. لا تزال الإدارة في واشنطن مستعدّة لصفقة مع “الجمهوريّة الإسلاميّة” على الرغم من أنّها شريكة في الحرب الروسيّة على أوكرانيا وشعبها مثلما هي شريكة في الحرب على الشعب السوري، وهي حرب مستمرّة منذ عام 2011. إضافة إلى ذلك لا يمكن تجاهل الدور الإيراني في تحويل النظام العراقي تدريجياً إلى نسخة عن نظام الوليّ الفقيه في طهران. مع مرور الوقت، تزداد قوّة “الحشد الشعبي” ونفوذه في العراق. صار البلد مهيّأً ليكون فيه “الحشد الشعبي” الذي يضمّ مجموعة من الميليشيات الموالية لإيران بمنزلة “الحرس الثوري” الإيراني!
الأكيد أنّه ليس مطلوباً صدام أميركي مع “الجمهوريّة الإسلاميّة”، لكنّ السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح في سياق المفاوضات الأميركيّة – الإيرانيّة: ماذا تفعل إيران في العراق؟ وماذا تفعل في سوريا؟ وماذا تفعل في لبنان حيث قضت على مؤسّسات الدولة اللبنانيّة الواحدة تلو الأخرى؟ وماذا تفعل في اليمن حيث لا وجود لأيّ حلّ سياسي في الأفق من جهة، وحيث يتابع الحوثيون رفع سقف مطالبهم من جهة أخرى؟
إقرأ أيضاً: رئاسة لبنان تنتظر النصاب الإقليمي: الإيراني – السعودي – الأميركي
هذه مجرّد أسئلة يجب طرحها قبل الإفراج عن أموال إيرانيّة معروف تماماً كيف ستُستخدم. ما هو معروف أكثر أنّ السلوك الذي تمارسه “الجمهوريّة الإسلاميّة” في داخل حدودها وخارجها لن يتغيّر. مرّة أخرى، هناك وضوح إيراني وغموض أميركي في منطقة تحتاج، أوّل ما تحتاج، إلى استفادة الولايات المتحدة من تجاربها السابقة مع إيران…