تقتضي حصيلة المنازلة الرئاسية بالنسبة إلى كثيرين التطلّع إلى ترياق من الخارج في ما يخصّ إنهاء الفراغ الرئاسي في لبنان، لأنّ الجلسة الـ12 لانتخاب رئيس الجمهورية انتهت إلى تكريس الشرخ السياسي العمودي في البلد بحيث بات صعباً، إن لم يكن مستحيلاً، الركون إلى تسوية داخلية على اسم الرئيس الجديد. فالرئاسة اللبنانية جزء من مشهد إقليمي، ومعالجة الفراغ لا بدّ أن تكون في سياق الحلول التي تُرسم في المنطقة.
لم يعُد مهمّاً تعداد الأصوات التي توزّعت على مرشّحَين جدّيَّين ما دام من يتفوّق على الآخر في عدد النواب المؤيّدين له خاضع للتسخيف والإلغاء عبر تطيير نصاب الجلسة، للحؤول دون أن تأخذ المبارزة مداها حتى النهاية. فالانسداد السياسي في شأن الاستحقاق الرئاسي يزداد تعقيداً، وباتت الأنظار متّجهة أكثر من السابق نحو ما ترسمه التحرّكات الخارجية للمنطقة، وسط تساؤلات عن إبقائها لبنان ساحة صراع أو جعلها له جزءاً من التوافقات على التهدئة في الإقليم.
تتفرّع الاهتمامات بعد المنازلة على وجهتين:
تشكيك في عقوبات أميركيّة بسبب التعطيل
تستخلص الأولى من المواجهة التي جرت بين الوزير السابق جهاد أزعور مدعوماً من المعارضة والسياديين وقسم من التغييريّين و”التيار الوطني الحر”، وبين الوزير السابق رئيس تيار “المردة” سليمان فرنجية الذي يخوض محور الممانعة المعركة لدعمه، أنّ ما بعد الجلسة النيابية الأخيرة غير ما قبلها، من زاوية ردّة الفعل الدولية، ولا سيّما الأميركية، حيال تعطيل النصاب. فوكيلة وزير الخارجية فيكتوريا نولاند طلبت من رئيس البرلمان نبيه برّي عشيّة الجلسة الحفاظ على نصاب الجلسة حتى انتخاب الرئيس، وتفيد المعلومات أنّه لم يعِدها بشيء في هذا الصدد، لكنّها صرّحت بأنّها “تقدِّر” لبرّي سعيه إلى ذلك، بما يشبه الضغط على رئيس البرلمان الذي لم يستجِب.
تشير الأوساط السياسية المتّصلة بواشنطن، والتي تتوقّع انتقالها إلى مرحلة جديدة من التعاطي مع لبنان بعد الجلسة الـ12
تشير الأوساط السياسية المتّصلة بواشنطن، والتي تتوقّع انتقالها إلى مرحلة جديدة من التعاطي مع لبنان بعد الجلسة الـ12، إلى الاحتمالات الآتية: أن تلجأ الإدارة الأميركية إلى فرض عقوبات على رموز تنتمي إلى فريق الممانعة لمواصلته تعطيل انتخاب رئيس. والتداول بهذا التوجّه يتواصل على الرغم من استبعاد أوساط أخرى اللجوء إلى إجراءات من هذا النوع لأنّها أثبتت عدم فعّاليتها في تغيير مواقف حلفاء إيران، الذين تأقلموا على مدى السنوات مع العقوبات. وهناك من بين الأوساط الدبلوماسية الأميركية من يعتقد أنّ فعّالية العقوبات على من يعطّلون النصاب محدودة. كما أنّ قيادات لبنانية لا تثق بالتلويح الأميركي بإجراءات رادعة ضدّ فريق الممانعة يستندون في ذلك إلى البيانات المنتقدة لتعطيل النصاب، فالموقف الأخير الصادر إثر الجلسة الـ12 يكتفي بدعوة “القادة والنخب إلى التوقّف عن وضع مصالحهم فوق مصالح الشعب”. وهو تعميم فيه مساواة بين كلّ الزعامات السياسية، ويتجنّب تسمية الزعامات المسؤولة عن التعطيل.
يأس من لبنان وخفض المساعدات؟
لكنّ من يتوقّعون هذه العقوبات يستندون إلى ضغط أعضاء في الكونغرس من الحزبين الديمقراطي والجمهوري على الإدارة كي تتّخذ إجراءات ضدّ الفرقاء الذين يمنعون انتخاب رئيس في لبنان.
بلغ المناخ السياسي في واشنطن مرحلة اليأس من الطبقة السياسية برمّتها، بحيث إنّها قد لا تلجأ إلى العقوبات بل قد ينتقل التصلّب الأميركي إلى قرار بإهمال لبنان نتيجة ذلك، بحيث يُترك لمزيد من التأزّم الاقتصادي والمالي تحت إدارة القوى الموالية لإيران. يشير المطّلعون على ما يدور في العاصمة الأميركية إلى تخفيضات في المساعدات للبنان بنسبة 30 في المئة، وإلى خفض قيمة التبرّعات للجيش اللبناني بنسبة 15 في المئة في موازنة 2023. ويخلص مَن يتوقّعون هذا السلوك حيال البلد إلى “أنّنا مهدّدون بأن نصبح دولة شبيهة بأفغانستان”، لأنّ المساعدات ستتراجع ليس من واشنطن وحدها بل من الدول الغربية عامّة.
الرئيس باتّفاق أميركيّ إيرانيّ
الوجهة الثانية للاهتمام الخارجي بإنهاء أزمة الرئاسة لا ترى مخرجاً إلا بتفاهم أميركي إيراني. يشير المراهنون على هذا التفاهم، ومن بينهم أوساط دبلوماسية متابعة لموقف طهران تشمل بعض الدوائر في موسكو، إلى أنّه لم يعد سرّاً أن لا رئاسة في لبنان إلا بعد إنجاز اتفاق على النووي الإيراني، والانتقال إلى مناقشة الأزمات الإقليمية. تلفت هذه الأوساط، ومعها قيادات لبنانية، إلى الأنباء عن تقدُّم التفاوض الأميركي الإيراني على النووي عبر سلطنة عُمان الذي تكشف المعطيات أنّه قد يشمل الإفراج عن أرصدة مالية لطهران مجمّدة في كوريا الجنوبية والعراق وغيرهما قد تصل إلى 24 مليار دولار، مقابل تبادل الإفراج عن سجناء ومعتقلين، وتحديد نسبة تخصيب اليورانيوم وتخزين الكميّة التي خصّبتها طهران بنسبة تفوق 83 في المئة في أمكنة تحت إشراف الوكالة الدولية للطاقة، وسيتناول الوضع في سوريا ولبنان، كساحتين مترابطتين. في الأولى تستمرّ الميليشيات الموالية لطهران بتلقّي الضربات الإسرائيلية مقابل نفوذ إيران الحاسم في بلاد الشام. وفي لبنان يحتاج نفوذها لفكّ حصار ماليّ يمهّد لتفشّي الفوضى ويجعلها غير قادرة على إحكام قبضتها على البلد، فيما تسعى واشنطن إلى الحدّ من هذا النفوذ، لا سيما لجهة تهديده لأمن إسرائيل. وتشكّل الرئاسة اللبنانية حجر الرحى في استراتيجية الدولتين.
لكنّ التفاهم على لبنان يتطلّب المزيد من الوقت الذي يتطلّب تقطيعه استمرار تأجيل انتخاب الرئيس الجديد.
رأت بعض الأوساط الدبلوماسية الأجنبية والسياسية اللبنانية أنّ الدور السعودي محوري في شأن الرئاسة انطلاقاً من قراءتها لترجمة موقف المملكة الحيادي حيال معركة الرئاسة
محدوديّة التحرّك الفرنسيّ ومحوريّة الدور السعوديّ
ماذا عن التحرّك الفرنسي بنسخته الجديدة بعد تعيين وزير الخارجية السابق جان إيف لودريان، المنسَّق مع الدور السعودي الذي كان آخر مظاهره محادثات الأمس بين الرئيس إيمانويل ماكرون ووليّ العهد الأمير محمد بن سلمان في باريس؟
يعتقد المواكبون لتحرّك باريس أنّ تعيين لودريان موفداً رئاسياً جاء في سياق “لملمة باريس لأوراقها من أجل إعادة ترتيبها” وسط نوع من “الشماتة” الأميركية بفشل خيارها الداعم لترشيح فرنجية باعتباره المرشّح الجدّي الوحيد. ويستبعد هؤلاء أن تكون مساهمة باريس في المخرج من المأزق اللبناني أساسية، على الرغم من أنّها قد ترافق الجهود الفعليّة والمؤثّرة، بدليل ما تسرّب عن محادثات الأمس من أنّ ماكرون طلب من وليّ العهد السعودي أن يضغط على إيران كي تسهّل انتخاب الرئيس اللبناني.
فضلاً عن إقرار باريس بهذا الموقف، فإنّ المحاولات التي بذلتها مع طهران في ما يخصّ الشأن اللبناني لم تلقَ أيّ استجابة. وكان آخر اتّصال أجراه ماكرون بنظيره الإيراني إبراهيم رئيسي قبل بضعة أيام، ركّز على دعوته إلى وقف دعم طهران لروسيا في أوكرانيا، بينما انصبّ اهتمامه مع بن سلمان على دوره في التوسّط لإيجاد حلّ للحرب الأوكرانية.
رأت بعض الأوساط الدبلوماسية الأجنبية والسياسية اللبنانية أنّ الدور السعودي محوري في شأن الرئاسة انطلاقاً من قراءتها لترجمة موقف المملكة الحيادي حيال معركة الرئاسة في لبنان بتصويت عدد من النواب السُّنّة الذين يناهز عددهم 9 نواب لخيار ثالث غير أزعور وفرنجية، واعتبرت أوراقهم مع ورقة أخرى ملغاة. وهذا قد يؤهّل الرياض لأن تلعب دوراً مع طهران التي يزورها اليوم وزير الخارجية فيصل بن فرحان آل سعود للمرّة الأولى منذ توقيع اتفاق بكين منتصف آذار الماضي.
إلا أنّ الملفّات الخلافية العالقة بين الجانبين الإيراني والسعودي، بدءاً من اليمن وتعثّر التهدئة فيه، إلى العراق وسوريا، واستمرار تدخّلات أذرعها في الدول الخليجية نفسها (احتجاج موالين لطهران على قرارات قضائية خليجية ضدّ معارضين وأحكام الإعدام)، لا تعدّ ولا تحصى قبل أن تتناول بالترتيب الزمني أزمة الرئاسة في لبنان التي تكتفي الرياض بمراقبتها في الظرف الراهن.
إقرأ أيضاً: ثمن بقاء رئيس الجمهوريّة مسيحيّاً
أحد مؤشّرات ذلك هو إعلان عضو لجنة السياسة الخارجية والأمن القومي في البرلمان الإيراني النائب عباس غلرو في 3 حزيران الجاري أنّه “ما تزال الخلافات بين إيران والسعودية في بعض القضايا الإقليمية قائمة، لكنّ وجود الخلافات يجب ألّا يؤدّي إلى إغلاق المسارات الدبلوماسية بين البلدين”، مشيراً إلى أهميّة التعاون بين إيران والسعودية “في خفض التوتّرات في العالم الإسلامي، ومنع استغلالها من الأجانب”.
تحتاج معالجة هذه الخلافات إلى مزيد من الوقت لحلّها، لكنّ هذا لا ينفي أنّ الرياض هي الضلع الثالث في أيّ اتفاق بين واشنطن وطهران يُعوَّل عليه في إنتاج رئيس في لبنان.
لمتابعة الكاتب على تويتر: ChoucairWalid@