أوروبا ليست مسيحية.. ولن تكون مسلمة

مدة القراءة 5 د


مسلمو أوروبا هم مواطنون أوروبيون. شاؤوا أم أبوا. شاءت أوروبا أم أبت. للمسلمين حصّة في أوروبا. وإنّ لأوروبا حقوقاً عليهم، ليس أقلّها احترام قوانينها وهويّتها الثقافية ومِراسها الأخلاقي بمعزل عن الموقف من بعض التصوّرات التي تدخل ضمن دائرة استبعاد التمييز والتي يعتبرها البعض زلّات قد تهدّد مستقبل الجنس البشري كما هو الحال مع المثليّة على سبيل المثال.

لا يملك المسلم الحقّ في تغيير أوروبا من خلال مقاومتها وعصيانها بقدر ما يملك الحقّ في المساهمة مع الآخرين في بناء مجتمع أكثر عدلاً يتمتّع فيه الجميع بالحرّية والمساواة والإخاء، وهي شعارات الثورة الفرنسية التي بدأت أوروبا معها عصراً جديداً من عصور نهضتها وزهوها الحضاريّ.

مسلمو أوروبا هم مواطنون أوروبيون. شاؤوا أم أبوا. شاءت أوروبا أم أبت. للمسلمين حصّة في أوروبا. وإنّ لأوروبا حقوقاً عليهم

يقول البعض إنّ “أوروبا ليست لنا”، لكنّ أوروبا لم تكن لأحد بعينه وما زالت وستبقى هكذا. صنعت أوروبا حضارة الإنسان المعاصرة عبر قرون من الكدح والنضال والمقاومة والتفكير العمليّ الإيجابي المثمر. فعلت أوروبا ما فعلته وهي تدرك أنّها تخلق تاريخاً جديداً للبشرية جمعاء. كان الإنسان هو الهدف الأسمى. كان وسيلة بناء الحضارة وفي الوقت نفسه هدفه. لم تكن خرافة تفوّق السيّد الأبيض وليدة لذلك العمل الشاقّ والجهد الخلّاق من أجل أن ينتصر الإنسان على ظلام حياته وجوعه ومرضه وكوارث الطبيعة وعطبه الداخلي. بل كانت العنصرية وما زالت ظاهرة نفسيّة زوّدها الاستعمار بأسلحته التي أحدثت سوء فهم تاريخي بين أوروبا والآخرين. ولأنّ مسلمي أوروبا هم من أبناء البلدان التي سبق لأوروبا أن انتهكت قوانين بقائها فإنّهم يتحسّسون من وجودهم داخل المجتمعات الأوروبية ويعملون على أن يحيطوا أنفسهم بجدران عزل عنصري غير مرئية، لكنّها صادمة لِما تنطوي عليه من قيم متشدّدة ومتزمّتة وغير قابلة للاختراق.

أسلمة الدنمرك… وأوروبا؟

من الظريف أنّ شوارع العاصمة الدنماركية كوبنهاغن شهدت قبل سنوات خروج تظاهرة دعا المشاركون فيها إلى أسلمة الدولة الدنماركية. مرّ ذلك السلوك كمزحة ولم يكن سبباً في تعكير الأجواء بين المؤسّسة الرسمية الدنماركية المسؤولة عن رعاية العاطلين عن العمل وبين المشاركين في التظاهرة الذين هم جزء من المستفيدين من عملها.

هناك خطأ في فهم حكاية أوروبا الحضارية. فالبعض يعتقد أنّ أوروبا المعاصرة مسيحية، لا لشيء إلا لأنّ هناك كثيراً من الأبنية الكنسية في المدن الأوروبية، بل إنّ أصغر بلدة في أوروبا لا بدّ أن تضمّ كنيسة في مركزها تُلحَق بها مقبرة.

في السويد يُطلق على المقبرة اسم “حديقة الكنيسة”. لكنّ ذلك خطأ ناتج عن جهل فاضح بتاريخ أوروبا المعاصرة التي لم تنهض على الأساس العلمي الذي نعرفه إلا بعدما تحرّرت من هيمنة الدين على الحياة العامّة، فانفصلت الدولة عن الدين، وكان العلم هو واحد من أعظم الرابحين من ذلك الانفصال.

أوروبا ليست مسيحية ولا يمكنها أن تصبح مسلمة. في ذلك ردّ على الأحزاب اليمينية التي تحذّر الأوروبيين من خطر الأسلمة بسبب تزايد نسبة المواطنين من أصل مسلم.    

هناك خطأ في فهم حكاية أوروبا الحضارية. فالبعض يعتقد أنّ أوروبا المعاصرة مسيحية، لا لشيء إلا لأنّ هناك كثيراً من الأبنية الكنسية في المدن الأوروبية، بل إنّ أصغر بلدة في أوروبا لا بدّ أن تضمّ كنيسة في مركزها تُلحَق بها مقبرة

إحراق نسخ من القرآن الكريم

أمّا الشابّ المسيحي العراقي الذي أحرق صفحات من القرآن الكريم في أحد شوارع العاصمة السويدية استوكهولم فما هو سوى ضحيّة للوهم نفسه. لقد خُيّل إليه أنّه حين يقوم بعمله الأخرق سيحصل على تعاطف مسيحيّي أوروبا الذين سيضغطون حسب تصوّره على الحكومة السويدية من أجل منحه الإقامة الدائمة والجنسية وإحاطته بحماية من نوع خاصّ. فاتته حقيقة أنّ السويديين ليسوا مسيحيين إلا من وجهة نظر الآخرين، وأنّ ما قام به استفزّ بعض المسلمين، فيما شعر البعض الآخر بتفاهته وتدنّي أسلوبه في الإثارة، غير أنّ السويديين أنفسهم لم يشعروا بأنّهم معنيون بالأمر إلا في حدود الحفاظ على حياة شخص معتوه.

سلوان مامكو، وهو اسم ذلك الشخص، يشبه إلى حدّ كبير بعض المسلمين الذين يعتقدون أنّ هناك عنصرية تمارَس ضدّهم بسبب كونهم مسلمين متناسين أنّهم يقيمون وراء جدار عزلتهم مدناً للريبة والكراهية والاستعداد للعنف والجهل والفقر والشعور بالدونيّة والكسل وسواها من العاهات الاجتماعية.

إقرأ أيضاً: فرنسا جمهوريّة متوتّرة (2): الحلّ بالأمركة؟

هذا لا يعني أنّ المؤسّسة الرسمية الأوروبية لم تقصّر في عملها من أجل دمج مواطنيها المسلمين في المجتمع. فقد انطوى العمل على صَهرهم على غباء لا يمتّ بصِلة إلى العقل الأوروبي المنفتح على ثقافات العالم. وهو الخطأ الذي استفادت منه الأحزاب اليمينية في صعودها إلى السلطة. لهذا حدث ما يشبه الردّة. لكنّها ردّة مؤقّتة. ذلك لأنّ العقل الأوروبي لا يمكنه العمل في المناطق الضيّقة. وما توزيع البشر بين مهاجرين وأصليّين ومسلمين وغير مسلمين إلا إحدى تلك المناطق المظلمة التي لن تتمكّن أوروبا من الإقامة فيها طويلاً. 

مواضيع ذات صلة

رُمّانة ماجدة الرومي ليست هي السبب!

المطربة والفنانة اللبنانية الشهيرة ماجدة الرومي، كانت نجمة الأيام القليلة الفارطة، ليس بسبب إبداعها وجمال صوتها “الكريستالي”، ولا بروائع أعمالها الغنائية، وهي تستحق هذا كله،…

“استقلال” لبنان: سيادة دوليّة بدل الإيرانيّة أو الإسرائيليّة

محطّات كثيرة ترافق مفاوضات آموس هوكستين على وقف النار في لبنان، الذي مرّت أمس الذكرى الـ81 لاستقلاله في أسوأ ظروف لانتهاك سيادته. يصعب تصور نجاح…

فلسطين: متى تنشأ “المقاومة” الجديدة؟

غزة التي تحارب حماس على أرضها هي أصغر بقعة جغرافية وقعت عليها حرب. ذلك يمكن تحمّله لسنوات، لو كانت الإمدادات التسليحيّة والتموينية متاحة عبر اتصال…

السّودان: مأساة أكبر من غزّة ولبنان

سرقت أضواء جريمة الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة، وجرائم التدمير المنهجي التي ترتكبها في مدن لبنان وقراه، الأنظار عن أكبر جريمة ضدّ الإنسانية…