يرى رئيس “لقاء سيّدة الجبل” والنائب السابق فارس سعَيْد أنّ العقل الفدرالي تعود أسبابه إلى خوف لبناني متبادل، وهذا سببه ضعف ضمانة الدولة. ما يأسف له الرجل أنّ اللبنانيين لم يتعلّموا من الحرب وفصولها، وأنّ خلاصة الماضي البغيض هي أنّه “ليس هناك أمن لجماعة فوق كلّ اعتبار، ولا اقتصاد لجماعة فوق كلّ اعتبار… وأنّ لبنان لا يكون إلّا للجميع وبالجميع من دون استثناء، والذهاب نحو الفدرالية يقتل معنى لبنان”.
أكثر ما ينبّه منه الدكتور سعَيْد في حديث خاصّ لـ “أساس” هو اعتبار أنّ هناك أزمة نظام لأنّ ذلك “لا يخدم إلّا الحزب” الذي يعطي انطباعاً من خلال سلوكه بأنّه يريد أن يصبح الحزب الحاكم وأن ينقل طائفته إلى موقع الطائفة القائدة. ويُدين بشدّة الكلام عن تفوّق ثقافي لهذه الجماعة على تلك، معتبراً أنّ لدى الطرفين مَن يسعون إلى التقاطع مع الحداثة ومفاهيم العصر والعولمة، ولديهما من يتمسّك بحيثيّات عفا عليها الزمن.
1 ـ ما سبب الاندفاعة المسيحية عموماً والمارونية خصوصاً نحو المطالبة بالفدراليّة؟
عندما تنهار ضمانة الدولة، تبحث الجماعات عن ضمانات رديفة. في 13 نيسان 1975 انهارت الدولة. راح المسيحيون وغيرهم يبحثون عن الضمانات الرديفة. اقتطع كلّ فريق بقعة جغرافيّة بنى عليها دولة ماليّة واقتصادية وأمنيّة واجتماعية وسياسية وظنّ أنّ هذا الترتيب سوف يحميه من الفريق الآخر. لكن سرعان ما دخل العنف إلى داخل كلّ بقعة جغرافيّة وإلى داخل كلّ فريق، حتّى الفريق المسيحي، وهو ما دفع الكنيسة المارونية إلى القول في وثيقتها السياسية في عام 2006: لقد شهدت الكنيسة المسيحية على أولادها يُقتلون ويَقتلون ويتقاتلون .
عندما تنهار ضمانة الدولة، تبحث الجماعات عن ضمانات رديفة. في 13 نيسان 1975 انهارت الدولة. راح المسيحيون وغيرهم يبحثون عن الضمانات الرديفة
2 ـ لماذا لم تعلِّم التجربة السابقة الجميع استدراك الأمر؟
اليوم يتكرّر المشهد، أي انهيار ضمانة الدولة اللبنانية. يتكرّر البحث عن ضمانات رديفة، ولم نلحظ أنّنا تعلّمنا من الدورس الماضية، بمعنى أن لا حلّ للبنانيّ، أو لا حلّ لكلّ جماعة بلبنان بمعزل عن أخرى، فالحلّ يكون للجميع أو لا يكون. ويكون بالجميع أو لا يكون. وليس من أمن لجماعة فوق كلّ اعتبار، واقتصاد لجماعة فوق كلّ اعتبار، ودولة اجتماعية لجماعة فوق كلّ اعتبار. هناك أمن وضمانات ماليّة واقتصادية وسياسية ووطنية لجميع اللبنانيين، ومن ضمنهم أيضاً الطوائف.
3ـ لماذا يقترن الكلام عن أزمة نظام بالحديث المتنامي عن الفدرالية؟
الكلام عن أنّ الأزمة في لبنان هي أزمة نظام، يخدم فريق الحزب. نحن نقول بأنّ الأزمة ليست أزمة النظام. الأزمة هي أزمة إدارة النظام، أو أزمة سلاح يمنع تنفيذ هذا النظام وتطبيق الدستور اللبناني. لا أفق للقول إنّ الأزمة ليست أزمة سلاح، بل أزمة دستور وأزمة نظام وأزمة تنوّع ديني وطائفي في البلد، فهذا الكلام يخدم بالكامل مصلحة الحزب الذي يريد استدعاء اللبنانيين جرّاء أزمة الرئاسة وأزمة المال وأزمة الاقتصاد إلى طاولة حوار للبحث بالنظام الجديد في لبنان، بمعنى أنّه يريد أن يفرض على اللبنانيين نظاماً يضمن سلاحه وفق موازين القوى التي يظنّ أنّها لمصلحته.
4 ـ ما المعنى السياسيّ للّامركزيّة الإداريّة الموسّعة التي يطالب بها العونيّون؟
تكلّم اتفاق الطائف عن اللامركزية الإدارية الموسّعة، ووضع آليّةً تجاوزها الزمن الآن جرّاء التطوّر التكنولوجي الهائل. عند صياغة الطائف في عام 1989 لم يكن الإنترنت موجوداً، وبالتالي كانت المعاملات الإدارية تحتاج إلى تكلفة مالية، ناهيك عن الجهد الجسدي والاستهلاك الزمني من خلال وجوب انتقال كلّ صاحب حاجة إلى دوائر المركز. وحينها بحث المشرّعون صيغةً تتيح تواصلاً أسهل بين الإدارة اللبنانية والمواطن اللبناني. اليوم من بعد توافر Chatgpt ، والآن Threads وقبله twiter وبعده facebook، صار الكلام عن اللامركزية الإدارية الموسّعة لا معنى إدارياً له لأنّ الحلّ يكمن في حكومة رقمية. أمّا المعنى السياسي له فراح يأخذ أبعاداً خطيرة، وفي البلد من يقول “لأنّنا مسيحيون ومسلمون فنحن نختلف بثقافتنا، وبالتالي على كلّ فريق أن يعيش على حدة وفقاً لعاداته وثقافاته”.
اليوم يتكرّر المشهد، أي انهيار ضمانة الدولة اللبنانية. يتكرّر البحث عن ضمانات رديفة، ولم نلحظ أنّنا تعلّمنا من الدورس الماضية
5 ـ أليس الحديث عن الانقسام بدعوى الاختلاف الثقافيّ مهيناً للّبنانيين جميعاً؟
معنى لبنان الحقيقي ليس في القول بانقسام بين المسيحيين الذين هم على موعد مع العولمة وبين المسلمين الذين هم على موعد مع التخلّف. هذا الكلام غير صحيح. الكلام الحقيقي هو أنّ انقساماً عمودياً، بين فريق مسيحي يريد الارتقاء أو على موعد مع الحداثة أو العولمة، وآخر مسلم على موعد مع الحداثة أو العولمة، وبين فريق مسيحي وآخر مسلم يريدان البقاء حيث هما. أنا ابن جرد وابن جبل، وأعرف تماماً أنّ عادات بعض العائلات المارونية في الجرد لا تقلّ أو هي استنساخ لعادات عائلات شيعية في بعلبك وعائلات شيعية في الجرد أو عائلات سنّية في مكان آخر. إلى ذلك، الانقسام الطبقي والاجتماعي هو أكبر من الانقسام الطائفي، فمن لديهم مال، أكان من المسيحيين أو المسلمين، يعيشون في البترون ويعيشون ويتزلّجون في فقرا جنباً إلى جنب. مصدر الغنى في هذا البلد هو هذا التنوّع، شرط أن يكون التنوّع تحت إدارة سليمة تضمن العدالة والحرّية للجميع.
6 ـ ما هو سبب العداء المستحكِم بينك وبين الحزب حتى صرت متّهماً مع الآخرين بالقول باستحالة العيش معه ومع بيئته؟
أحد أهمّ الأسباب الأساسية التي تدفعني إلى معارضة الحزب وتجربة الحزب واعتباره قوّة احتلال، أنّه هو من نسف عملية الشراكة الوطنية، لأنّ هذا الحزب أعطى انطباعاً عامّاً من خلال سلوكه بأنّه يريد استنساخ تجربة الماضي من خلال انتقال طائفته أو نقل طائفته من طائفة مكوِّنة للبنان ولها أيادٍ بيض وأفضال على البلد إلى طائفة مميّزة في لبنان، ونقل حزبه من حزب يشبه كلّ أحزاب لبنان إلى حزب حاكم. هذه الفوقيّة في التعاطي تفسد الشراكة الوطنية وتدفع الناس عند المسيحيين وغير المسيحيين إلى البحث عن صيغة جديدة .
إقرأ أيضاً: فارس سعيْد: فليُرِنا الانفصاليّون دولتهم وبطولاتهم!
7 ـ بأيّ معنى سياسي تقرأ الفدراليّة وتأثيرها على لبنان؟
الفدرالية نسف معنويّ للبنان. لا معنى للبنان من دون المسيحيين ولا قيمة للبنان من دون المسلمين. نحن اللبنانيين جزء من تكوين شخصيّتنا هو شركتنا الفعليّة. شجرة عيد الميلاد تدخل بيوت اللبنانيين والمسلمين بشكل تلقائي، والعادات المسيحية لدى العائلات المسلمة هي شأن تلقائي أيضاً. ونرى ذلك في الإفطارات وإحياء السحور أيضاً.
أريد أن أقول إنّ التجربة اللبنانية أقوى من التنظير. فالبارحة حصل حادث أليم في القرنة السوداء أدّى إلى مقتل شابّين من آل طوق، وحصل ذلك من ضمن الشحن الطائفي المطروح والكلام عن الفدرالية. وضعت هذه الأجواء اللبنانيين جميعاً على قلق، إذ كان التوقّع أن يقود زعماء بشرّي أو زعماء الضنّية مجتمعاتهم وبيئاتهم نحو صدامات وتشنّجات، لكنّ ما حصل كان تعبيراً واضحاً عن رغبة في العيش المشترك. فقد قامت بلدية بقاعصفرين بنعي الشابّين وإعلان الحداد عليهما، وقام آل طوق والدكتور سمير جعجع بجهود ومساعٍ حقيقية للتهدئة.
لمتابعة الكاتب على تويتر: jezzini_ayman@