فرنسا جمهوريّة متوتّرة (1): حواري مع هولاند

مدة القراءة 7 د


كان نهاراً باريسياً ماطراً وبارداً من أيام كانون الأول آخر أشهر السنة، في العهد الماكرونيّ الأوّل. كان ساخناً ومليئاً بالأحداث والتظاهرات والمواجهات، الدائرة آنذاك بين السلطة وجماعة السترات الصفر، لكنّه كان يوم عمل عاديّاً وطبيعياً.

التقيتُ حينها مع الرئيس الأسبق للجمهورية فرانسوا هولاند ضمن لقاء دوري وأسبوعي وطبيعي كالمعتاد. امتدّ الاجتماع معه إلى أكثر من ساعة ونصف. كان محوره الأساسي إشكالية الفعّالية التنفيذية للقوانين الدولية والوطنية ومدى قدرتها على امتصاص الصدمات والمحافظة على الانتظام العامّ. وتفرّع الموضوع حينها لكي يشمل الأحداث الأخيرة في فرنسا.

ناقشنا آنذاك نقاط أساسية مهمّة وبالتفصيل، كالواقع الاجتماعي والسياسة الضريبية والديمقراطية في فرنسا، وكيف يمكن تجفيف مواجهات السترات الصفر، انطلاقاً من المسلّمات السيادية التي تحمي الدولة، الديمقراطية وحرّية التعبير والتوافق والمشاركة والاندماج وصحّة التمثيل.

تواجه فرنسا وضعاً معقّداً جداً بسبب وجود مجتمع حرّ متعدّد ومتنوّع الثقافات والقناعات والتباينات. تزايد الصراع بين كفّتَيْ الرغبة في تأمين مستقبل متماسك وآمن من جهة، وبين صورة الدولة وهيبة مؤسّساتها من جهة أخرى

وهو اعترف بشكل صريح بأنّ فرنسا بصدد التقدّم وولوج مرحلة “الجمهورية السادسة”، وعلى أعتاب التعديل والتبديل والتطوّر الطبيعي. كما توجّه إليّ ممازحاً: “وماذا عنكم في لبنان؟ ماذا تريدون؟”، وتابع كلامه قائلاً إنّ “من الأفضل للدولة اللبنانية تكريس احترام وتطبيق الدستور والقوانين من خلال الممارسة قبل التفكير في تغييرها”، وكان لبنان في حينها في مرحلة تكليف الرئيس سعد الحريري تأليف حكومة أبصرت النور في شباط 2019، وفي مرحلة العهد البائد الجهنميّ والعشوائيّ من سنوات “الإصلاح والتغيير”.

وضع فرنسيّ معقّد

بعد كلّ هذه السنوات، تواجه فرنسا وضعاً معقّداً جداً بسبب وجود مجتمع حرّ متعدّد ومتنوّع الثقافات والقناعات والتباينات. تزايد الصراع بين كفّتَيْ الرغبة في تأمين مستقبل متماسك وآمن من جهة، وبين صورة الدولة وهيبة مؤسّساتها من جهة أخرى.

هناك بالطبع جذور لهذه التراكمات الفرنسية والأحداث غير المستقرّة. منذ نهاية ولاية رئيس الجمهورية الراحل جاك شيراك، تحوّل انتخاب كلّ رئيس للجمهورية إلى مناسبة لـ”رفض الآخر”، أي منع انتخاب رئيس يميني، وليس لقناعة تامّة بالمرشّح الفائز من يمين الوسط أو الوسط أو اليسار، بدءاً من الرئيس نيكولا ساركوزي مروراً بفرانسوا هولاند وصولاً إلى الرئيس ماكرون صاحب الولايتين.

وهذا بات يعني أن ليس من إمكانية لفرز مرشّح يمثّل أكثرية واضحة في المجتمع الفرنسي، بل أقليات تجتمع على دعم مرشّح خوفاً من فوز مرشّح آخر. برزت هذه الإشكالية في انتخابات 2022 البرلمانية التي أفرزت برلماناً فرنسياً مؤلّفاً من مجالس متعدّدة. وأضحت كلّ كتلة نيابية مجلساً بحدّ ذاته، تماماً كالبرلمان اللبناني الأخير بعد انتخابات 2022، مع عدم تمكّن الرئيس ماكرون من تحقيق أكثرية مطلقة.

أضحى المشهد السياسي مشتّتاً مع تراجع هائل للمؤسّسة اليمينية التقليدية والجناح اليساري التقليدي، وصعود أقصى اليمين المتطرّف واليسار الراديكالي، إضافة إلى جماعة البيئة الذين يشبهون إلى حدّ بعيد التغييرين في لبنان. كلّ هذا أحدث خللاً واضحاً من خلال استخدام هذه الفئات السياسية “الشخصانية” في الأداء والفردية في الآليّات من أجل زيادة حصّتها في المشهد السياسي والاستعداد للمعارك السياسية المقبلة. وتعدّ معركة الانتخابات الأوروبية في عام 2024 الاستحقاق الدستوري القارّي والاتّحادي الأقرب لتأكيد أو نفي هذا “التشظّي” في المجتمعات الأوروبية، وأزمات الآلية الديمقراطية الانتخابية بشكل عام.

بدأت المشكلة مع التعديل الدستوري السيّئ وغير المتوازن مؤسّساتياً، الذي قلّص مدّة رئاسة الجمهورية من 7 إلى 5 سنوات. هكذا أصبحت مدّة ولاية رئاسة الجمهورية مساوية للوكالة التشريعية، ومطابقة للولاية البرلمانية، وكأنّ النظام الفرنسي شبه الرئاسي قد تحوّل إلى نظام برلماني.

تتبلور الآراء حول جدوى إعادة فتح الطريق السياسية الرئاسية في وصول أيّ من الأحزاب الكلاسيكية الضامنة للدولة الفرنسية إلى سدّة الحكم من جديد، ولا مشكلة أبداً في أن يكون من اليمين أو من اليسار الوطني، فالمهمّ أن يصون ويحصّن ويحمي مبادئ الجمهورية

تغيُّر ملامح السلطة التنفيذيّة

تغيّرت ملامح السلطة التنفيذية، فعوضاً من أن تكون الحكومة قلب السلطة الإجرائية وطليعتها الممسكة بزمام الأمور، وبدلاً من أن تتحمّل المسؤولية إزاء سياساتها التنفيذية ومشوارها بسبب ما يحدث من أزمات، أمسى رئيس الجمهورية هو من يتحمّل المسؤولية بعدما أصبح رئيس الدولة والسلطة التنفيذية والإجرائية. فيما تحوّل رئيس الحكومة إلى “سكرتير السلطة”، وليس مصدر سلطاتها التنفيذية، كما هو الحال أخيراً في لبنان، أو إلى مدير أعمال لرئيس الجمهورية، على غرار المدير التنفيذي في إحدى الشركات المساهمة.

صار رئيس الدولة معرّضاً شخصياً وبالذات السلطوية المباشرة لكلّ هذه الضغوطات. زاد هذا الأمر من الخلل، وأكثر من المشاكل والصدامات. أجبرت كلّ هذه السيناريوهات الكثير من الفرنسيين على التوجّه نحو طلب التغيير السياسي. إذ وضعتهم أمام ضرورة الاقتناع بأكثر من فكرة للتعديل، حفاظاً على الدولة الفرنسية مهما تعدّدت جمهوريّاتها. فلا بديل عن النظام القويّ، سواء أكان رئاسياً محضاً أو برلمانياً تامّاً أو حتى مشترَكاً كما هو عليه الآن مع ضوابط أنجع.

تتبلور الآراء حول جدوى إعادة فتح الطريق السياسية الرئاسية في وصول أيّ من الأحزاب الكلاسيكية الضامنة للدولة الفرنسية إلى سدّة الحكم من جديد، ولا مشكلة أبداً في أن يكون من اليمين أو من اليسار الوطني، فالمهمّ أن يصون ويحصّن ويحمي مبادئ الجمهورية.

تُقارَن هذه الحركات الشعبوية بدقّة وتُشبَّه بفترة الثورات الاجتماعية الاقتصادية بين الحربين العالميتين في القرن الماضي التي. وأغلب الظنّ أنّها لا بدّ من أن تقود إلى تغيير، وأن ينتج عنها تعديل وحالة نظامية مختلفة. حتّى بات الكثير من أهل السياسة والاختصاص يلوّحون بضرورة دخول فرنسا عصر الجمهورية السادسة حمايةً لاستمراريّتها ونموّها وهيبتها.

ضرب الجمهوريّة الخامسة

تلقّت الجمهورية الخامسة ضربات موجعة على عدّة مراحل ظهرت بوضوح مع اكتمال ونجاح فكرة ونمطيّة المساكنة بين اليمين واليسار. فضّل ورغب المزاج السياسي الفرنسي المؤسّس الذي دعم انطلاقة الجمهورية بعد عام 1958 في اقتسام السلطة والدولة والتناتش السلطوي فيها. فتمّ تقديم أولويّة المحاصصة على مبدأ حماية الدولة.

تشبه هذه المعادلة الفرنسية المعادلة اللبنانية التي قامت على ثنائية المساكنة بين الفساد والسلاح بهدف الإطباق والسيطرة على الدولة والنخر في الدستور والالتفاف على القانون والطائف لأطول فترة ممكنة.

إقرأ أيضاً: فرنسا: مزيد من الانقسامات وجولات من العنف

برزت هذه المعادلة السلطوية الفرنسية خلال فترة ولاية كلّ من الرئيسين الراحلين فرانسوا ميتران وجاك شيراك. فقد تخلخل النظام إثر الاستفتاء الذي أُجري في عام 2000 وحوَّل الدستور شبه الرئاسي نموذجاً إلى برلماني واقعاً بسبب تقصير مدّة رئاسة الجمهورية. ظهرت حينها الفجوات والعراقيل داخل مؤسّسات الحكم، وطفحت الساحة بالأزمات والتحدّيات غير التقليدية بين الأحزاب السياسية والدولة بما هما عنصران مختلفان.

في الحلقة الثانية غداً:  الحلّ بالأمركة؟

مواضيع ذات صلة

رفيق الحريري: هل تتحقّق العدالة بتصفية الأداة؟

“المخيف في الأعمال الشرّيرة هو أنّها تُرتكب على أيدي بشر عاديّين” حنة أرندت   ليس المقصود بتفاهة الشرّ بأنّ فعل الشرّ بحدّ ذاته مسألة تافهة….

لبنان والسّيادة… ووقاحة “الشّعب والجيش والمقاومة”

جاء المبعوث الأميركي آموس هوكستين أخيراً. لا يزال يعمل من أجل وقف للنّار في لبنان. ليس ما يشير إلى أنّ طرفَي الحرب، أي إيران وإسرائيل،…

أرانب نتنياهو المتعدّدة لنسف التّسوية

إسرائيل تنتظر وصول المبعوث الرئاسي الأميركي آموس هوكستين، بعدما بات ليلته في بيروت لتذليل بعض العقد من طريق الاتّفاق مع لبنان والحزب، على وقع الانقسام…

كيف ستواجه تركيا “فريق ترامب الصّليبيّ”؟

عانت العلاقات التركية الأميركية خلال ولاية دونالد ترامب الأولى تحدّيات كبيرة، لكنّها تميّزت بحالة من البراغماتية والعملانيّة في التعامل مع الكثير من القضايا. هذا إلى…