يداوم مفوّهو النظام في لبنان على استخدام تعبير “الأهالي” لوصف الصراعات الأهلية التي تحصل حيناً على ترسيم عقاري، وأحياناً بعنوان التعدّي على المشاعات أو حتّى الخلاف حول أفضلية المرور.
هذا ما حصل في لاسا ورميش وجرد العاقورة بين المسيحيين والشيعة. وأيضاً حصل ما يشبهه بالتمام والكمال في القرنة السوداء أخيراً بين المسيحيين والسنّة.
بلغ العجز عن معالجة مشكلة عقارية على بحيرة القرنة السوداء حدّ إعلان الجيش أنّها منطقة تدريبات عسكرية. وفي الحقيقة لم تكن المنطقة على هذه الصورة، ولن تكون كذلك. بل إنّه تدبير من الجيش لإبعاد المتقاتلين عن المنطقة وحقن دمائهم.
“الأهالي” الذين يجرؤون على محاصرة القوات الدولية في الجنوب وصولاً إلى مجابهة الجيش، يستقوون بالسلاح. فيما الجيش محكوم بالتوازنات الطائفية وقوّتها التي تفوق حضوره بأشواط متى تعلّق الأمر بـ”الأهالي”. على هذا يدرك “الأهالي” أنّ بإمكانهم الذهاب في غرائزهم حتى النهاية بمواجهة جيش يحكمه القانون ووحدة الأراضي اللبنانية.
إطلاق النار في برّ الياس أمس الأوّل على مسجد يبعث على خوف، هو مقيم أصلاً، من الحروب المتنقّلة، لكنّها حتى الساعة من دون عناوين. وقد سقط قتيل و4 جرحى، وكان يمكن أن يكون بين الممصابين أطفالاً أظهرتهم الفيديوات التي انتشرت من داخل المسجد، وقد حوصروا لدقائق طويلة.
الثابت أنّ سلاح الحزب هو معضلة لبنانية عامّة. أكثر من ذلك، هو استعصاء إقليمي ولبناني
“لأهالي“ للتستّر على الحروب المتنقّلة
تعبير “الأهالي” هو منحوت سياسياً على نحو ما ينحت النحاة في اللغة مصطلحات وتعبيرات جديدة. النبش والبحث في ما يتعلّق بالتسميات لا يضيف إلى معارف اللبنانيين جديداً. ليس مستعصياً على أحد إدراك أنّ هناك من يحرّك “الأهالي” دائماً. في أحداث عين الرمّانة ـ الشيّاح، طوال التسعينات وفي الألفية الجديد، كانت مفردة “الأهالي” المخرج للتستّر على حرب أهليّة مُعلنة. والكلّ اللبناني يعرف أنّ اصطدامات الأهالي هي “حملة” رسائل سياسية وأمنيّة وعسكرية.
أحدٌ ما في القرنة السوداء أراد القول وإبلاغ من يهمّه الأمر أنّ التفجير سهل جدّاً، ونبش ماضي الحرب الأهلية الملبننة على هذا القدر من اليسر. فقط سقط قتيلان من آل طوق في بشرّي، فيما تم توقيف عشرات من شباب بقاعصفرين لدى الجيش. وتوجّه البطريرك الماروني بشارة الراعي شخصياً ليشرف على دفن الشابين ويطلق التحذيرات من هناك.
أو قد يكون هناك من أراد أن يجري الاقتراع للرئيس العتيد على قمّة القرنة السوداء، فكان أن سقط العيش المشترك في البحيرة. هذا الـ”أحد” يستطيع وفق ما يستجدّ من ظروف وأحوال أن يسترهن البلد لأيّام مُربكاً كلّ السياسات الساعية في مسالك “تسوية محتملة”، وعلى نحو لا يرقى إليه شكّ.
أهل فائض القوّة
أيضاً، ما إن يختفي الحديث عن سلاح الحزب من منابر النقاش السياسي، حتى يطلّ من أحياء مناطقه الأهلية تحت عنوان الإشكالات الفردية. هذا يحصل على وجه التحديد في منطقة ضاحية بيروت الجنوبية وبعض أحياء مدينة بعلبك وجرود الهرمل وضواحيهما.
سكّان هذه المناطق ما كلّوا وما ملّوا يقدّمون الشكوى تلو الأخرى إلى الأجهزة الأمنيّة وقيادتَيْ “الثنائي الشيعي”. و”لقد أسمعتَ لو ناديتَ حيّاً… لكن لا حياة لمن تنادي”.
الثابت أنّ سلاح الحزب هو معضلة لبنانية عامّة. أكثر من ذلك، هو استعصاء إقليمي ولبناني. بالنسبة إلى الحزب فإنّ الحديث عن سلاحه هو مساس أهليّ لمن يمثّل ومن يمثّل. على مثاله أيضاً شقيقه في “الثنائي”. لكن من الواضح أنّه ليس السلاح الوحيد في أيدي اللبنانيين.
التستّر على القاتل والقتيل
الحروب العائلية والأهليّة المُتنقّلة يومياً غالباً ما يتمّ التستّر عليها بزعم أنّ ما حصل هو “حادث فردي”. إذاً فليتنفّس سكّان هذه المناطق الصعداء، فما حصل ليس تلك الحرب الموعودين بها أو ينتظرون أن تعصف بهم.
دائماً ما يكون الرصاص الغزير والكثيف في هذه المناطق “حادثاً فرديّاً”. للمصادفة السيّئة أنّ هذه “الحوادث” تتنقّل على مساحة جغرافيا معاقل “الثنائي”. وعلى اللبنانيين في هذه المناطق أن يطمئنّوا فلن يترتّب على ذلك نتائج سياسية. وعليهم بالمقابل أن يتستّروا على ما يحصل بوصفه حرباً بين “الأهالي” من عائلات وأبناء مناطق مختلفة. الأسوأ أنّ عليهم أن يتستّروا على عدد الضحايا والجرحى. المأساويّ أكثر هو الصمت حتى البكم عن القاتل.
ليس انتشار الأسلحة الفردية مقصوراً على بيئة بعينها. منذ عام 1958 تعرّف اللبنانيون، على مختلف نوازعهم، على السلاح الفردي وأحبّوه حتى الثمالة
وليس خفياً على أحد أنّ هذه الحروب المتنقّلة تزايدت مؤخّرا، في السنوات الثلاثة الماضية، خصوصاً مع شبه انهيار في البنى الأمنية وأجهزتها، وكذلك مع تعطّل مؤسسة القضاء، بسبب الانهيار المالي في الرواتب والتجهيزات…
الأمن السائب والسياسة الممسوكة
المهمّ بالنسبة لـ”الثنائي” أنّ طرفاً لن يسيطر على الآخر، وأنّ المهمة الأساس لكليهما هي إحكام القبضة على لبنان واللبنانيين أجمعين. هكذا على اللبنانيين أن يسكتوا عن الأمن السائب ما دامت السياسة ممسوكة. مقاتلو الأحياء الأشاوس يتصرّفون “بشكل فردي” وليس استجابة لأمر قادتهم السياسيين. ولا يوقفون إطلاق النار استجابة لنداء هؤلاء القادة.
هكذا يطلق المقاتلون، الذين يحتلّون “لبنانيّة” أعلى منّا جميعاً بوصفهم “الأشرف” و”الأنظف” وكلّ ما ينطبق عليهم من أفعل التفضيل، الأعنّة لأمزجتهم وأسلحتهم لدوافع جليلة لا يعلمها أحد.
وهم إذ يفعلون ذلك يومياً وفي مناطق مختلفة، فذلك لأنّهم فوّضوا أنفسهم تقديم تضحيات في جهات لبنان الأربع، حتى الذهاب إلى اليمن حفظاً لاستقرار إيران وسوريا من دون الأخذ بالاعتبار استقرار سائر دول العالم العربي الذي لا بأس أن تكون فيه خلايا عسكرية نائمة. هذا ما حصل في الكويت والسعودية والبحرين ومصر…
لا مبرّر للخوف
الخوف بما هو شيء من الطبيعة الإنسانية لا مبرّر له عند “الثنائي الشيعي” وأذرعته المنتشرة في المناطق الأهلية. الخوف الوحيد المسموح أن يراودهم هو ذلك الذي مصدره إسرائيل “إذا تجرّأت”، أو “داعش” التي كانت “ستصل إلى جونيه… لولا سلاح المقاومة” !!.
وهذا الخوف إذا كان مسموحاً به فهو تحت الرايات البيض الموضوعة والمرفوعة على السيّارات أثناء النزوح، مقابل الهتاف أمام الكاميرات “كلّنا فداء حذاء” هذا أو ذاك. كذلك الموت على قارعة شارع أو بسبب أفضليّة مرور ليس مدعاة للخوف.
حتّى الخوف من هويّة القاتل مبتور. إذ يجب أن يكون مصدره أحد الشيطانين الأكبر أو الأصغر. بهذا المعنى الخوف من هويّة القاتل ليس من معنى القتل نفسه.
حروب الأهل
ليس انتشار الأسلحة الفردية مقصوراً على بيئة بعينها. منذ عام 1958 تعرّف اللبنانيون، على مختلف نوازعهم، على السلاح الفردي وأحبّوه حتى الثمالة. لكنّ السؤال: هل يحسب قادة السلاح بكلّ طوائفهم، وخصوصاً الثنائي، أنّ المشكلة لا تكون فقط على هذا القدر من الخطورة حين يتمّ إطلاق النار بناء على قرار سياسي؟
إذا كان أمر هؤلاء على هذا القدر من الوعي فإنّ المشكلة صارت في السياسة. ذلك أنّ الأخيرة في مخاضات تطوّرها وعقودها الاجتماعية سحبت من الأمن والسلاح عنفهما لتقول بوضوح: الأمن هو حاصل السياسة أحياناً، وليس فقط العكس.
بالمناسبة، ماذ يفعل السلاح بعيداً عن تلال كفرشوبا ومزارع شبعا؟ هل هناك جبهات مع العدوّ الإسرائيلي في الخندق الغميق، والرويس، وحيّ السلّم وبعلبك؟
في حال كهذا، ماذا لدى قادة السلاح، وتحديداً قادة الثنائي، ليقولوه للّبنانيين عن عدم استعمال السلاح في الداخل؟ وماذا عن “الحوادث الفردية” بما هي حروب الأهل مع الأهل؟
هؤلاء الأهل سريعو الغضب ولا حرج على غاضبٍ. السؤال المقابل لهذا الواقع: كيف نعيش في غضبة أهلية مستمرّة وتحت أيّ سلم أهليّ يمكننا أن نتظلّل؟ وإذا كان سلاح “الثنائي” لمواجهة إسرائيل، فمن أين جاءت “البيئة الحاضنة” بكلّ هذا السلاح والأعتدة؟
في راهن البلد وأحواله، قد لا يكون من حسن الفطن المطالبة بـ”نزع السلاح”. حتى لو طالب البعض، فإنّ مطالبهم كـ”الصارخ في البرّية”. في الأساس نحن معرّضون لأن تُقطع أيادينا إذا اقتربنا من هذا السلاح. لكن ليس صائباً ولا حكيماً السكوت عن الموضوع، بل مواصلة السجال مع “حَمَلة السلاح” ولو كانوا سريعي الغضب.
إقرأ أيضاً: الخلاف الدائم في لبنان: ما هو دوره؟
في الدول التي تقدِّم السياسة فإنّ السلطة هي محتكر السلاح. وهي المسؤولة عن الدفاع بمواجهة أيّ اعتداء. وبها أناط القانون تنظيم السير وأفضليّات المرور. وعندها وعليها تقع مسؤوليّة العدالة وإحقاق الحقّ.
غير ذلك لا يعني إلا إعاقة اندراج لبنان ضمن منظومة الدول. وهذا لا يجعل منه “صندوقة بريد” على ما يكرّر لبنانيون كثر، بل ساحة للموت المجّاني، ويجعل من أهله أصحاب هوج وتطَيُّر، ذلك أنّ الدم يستسقي الدم.
أمام ما صنعه “الثنائي”، والحزب على وجه التحديد، من أدلجة للسلاح، صار الحوار لنزع الأخير أقرب إلى الحلم منه إلى الواقع. لقد مضى مشروع “الثنائي” قُدماً والعودة عنه لن تكون بهذا القدر من السهولة.
لكن ما يجب أخذه في الاعتبار أنّ الفوضوية انتهت على الدوام مقطعاً صغيراً في كتب التاريخ. وربّما نجرؤ على أن نطالب بـ”نزع السلاح الفردي”، ما دمنا غير مؤهّلين فكرياً وعقائدياً لنكون في مرتبة تسمح لنا بالمطالبة بنزع الصواريخ والتزام قرارات الشرعية الدولية، أو على الأقلّ تحييد المدن الرئيسية، وأبرزها العاصمة بيروت، وإعلانها “مدينة منزوعة السلاح”.
لمتابعة الكاتب على تويتر: jezzini_ayman@