يقاتل نتانياهو حماس بضراوة ويقتل أهل غزّة من دون تمييز، وعينه على كرسيّ السلطة خشية إفلاتها منه. عقب السابع من تشرين الأول الماضي، حاز دعماً غير مشروط من الولايات المتحدة وأوروبا، تحت عنوان حقّ الدفاع عن النفس، وأقفل كلّ باب سوى ذلك، فهو:
– يسترجع نبوءة أشعياء في التوراة، فيعِد شعب إسرائيل بانتصار أهل النور على أهل الظلام.
– يتجاهل نصائح الجنرالات الأميركيين بتجنّب الحرب البرّية الشاملة، فضلاً عن قلق البيت الأبيض من فكرة إعادة احتلال غزّة.
– يرفض أيّ هدنة ولو كانت إنسانية.
– يرفض الكلام عن أيّ حلّ سياسي للقضية الفلسطينية، ناهيك عن “حلّ الدولتين”. وكلّ من يزوره متضامناً مع إسرائيل، يسرد له المظلومية التاريخية منذ “الهولوكوست” النازي إبّان الحرب العالمية الثانية، ويبسط لناظريه الفيديوهات المسجّلة لوقائع الهجوم الحمساوي على مستوطنات غزّة، فلا صوت يعلو سوى صوت المذبحة، ولا مقولة سوى مقولة الانتقام.
يقاتل نتانياهو حماس بضراوة ويقتل أهل غزّة من دون تمييز، وعينه على كرسيّ السلطة خشية إفلاتها منه. عقب السابع من تشرين الأول الماضي، حاز دعماً غير مشروط من الولايات المتحدة وأوروبا، تحت عنوان حقّ الدفاع عن النفس
– حتى تحرير المعتقلين والأسرى الإسرائيليين لا يشغل أولوية إسرائيلية رسمية، فقد باتوا عقبة كأداء أمام النصر المنشود.
لكنّ التكتيكات الإسرائيلية الدموية في القطاع والضفّة لا تتناقض وحسب مع الذهنية الأميركية لبسط الاستقرار في الشرق الأوسط، بل تتعارض تماماً حتى مع خطة اجتثاث حركة حماس الآن، بل استئصال روح المقاومة في الشعب الفلسطيني في مدى أبعد، وتصفية القضية الفلسطينية نهائياً.
سيناريو “الحلّ النهائيّ”
من حيث الظاهر، يقاتل الجيش الإسرائيلي قوات عزّ الدين القسّام في قطاع غزّة، ردّاً على هجوم حماس في 7 تشرين الأول الماضي على غلاف غزّة بما فيه من قواعد عسكرية ومستوطنات، وبهدف القضاء المبرم على الحركة كقوة عسكرية وأجهزة حكم. لكنّ الغاية الحقيقية تتجاوز ذلك بكثير، وهو ما يعيق عملياً تنفيذ الهدف الأقرب، وهو تدمير حماس. فغاية الحرب كما أعلنها نتانياهو نفسه: “تغيير الشرق الأوسط”.
كيف يتغيّر الشرق الأوسط من وجهة نظر الزعيم الإسرائيلي الأكثر إثارة للجدل والكراهية في إسرائيل وخارجها؟
يكون بالتخلّي عن دورات القتال المحدود والهدنة المؤقّتة، لينفجر الصراع بعد سنوات قليلة، يكون فيها أعداء إسرائيل، قد راكموا خبراتهم القتالية وطوّروا أسلحتهم وتكتيكاتهم، ليعودوا أقوى وأذكى.
لقد قرّر “بيبي” على ما يبدو تنفيذ سيناريو “الحلّ النهائي” للفلسطينيين، وذلك لمناسبة الهجوم الصاعق لحماس، ويقضي هذا السيناريو باستعادة أو استئناف ما جرى ابتداء من عام 1937 واشتدّ عام 1948 عشيّة إعلان دولة إسرائيل وما تلا ذلك من قتل جماعي للفلسطينيين تمهيداً للتهجير الجماعي أو ما يُسمّى بـ “الترانفسير transfer”، ابتداء من النواة الفلسطينية الصلبة في قطاع غزّة، ووصولاً إلى الضفة الغربية، وربّما إلى فلسطينيّي الخطّ الأخضر لعام 1948، وهم الذين صمدوا بعد النكبة.
لكن لا بدّ أوّلاً من كسر الجوزة كي تنفرط فكرة فلسطين لاحقاً. وهذا ما يجعل معركة حماس في قطاع غزّة ذات بُعدين متلازمين:
– استراتيجي عربي.
– ووجودي فلسطيني.
وهو ما يجعل الصمود العسكري لحماس في ما يأتي من الأيام، في أساس الأمن القومي لمصر والأردن، كما أنّ صمودها يمنع تصفية القضية الفلسطينية، مع غياب أيّ رؤية سياسية إسرائيلية.
لم يشهد تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي هذا التأييد العارم في أنحاء العالم لقضية فلسطين، حيث رُفع العلم الفلسطيني في التظاهرات والملاعب والتجمّعات الجماهيرية كما لم يُرفع من قبل، وليس هذا دفاعاً عن أطفال غزّة فقط، بل من أجل حرّية الشعب الفلسطيني وقيام دولته
ما بعد “اليوم التالي“
ربّما أكثر ما يحكم التصرّف الجنوني لنتانياهو في حربه على قطاع غزّة، بشراً وحجراً، هو هواجس ما تخطّط له إدارة البيت الأبيض، فور انتهاء الأعمال العسكرية، وإلحاق الهزيمة بحركة حماس، أي لليوم التالي. لذلك قرّر خوض حرب برّية كان متوقّعاً أنّها ستكون مُكلفة ومعقّدة وطويلة، مع تصعيد الموقف بشكل خطير في الضفة الغربية، لأنّها بهذه المواصفات تخدم نزعته بالبقاء على رأس الحكومة، كما أنّها تدمّر احتماليات قيام دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل، حين يتمكّن أوّلاً من تغيير الوقائع الديمغرافية في قطاع غزّة، بالحديد والنار.
في ما يلي مؤشّرات القلق لدى نتانياهو:
1- نصيحة بايدن: عندما زار الرئيس الأميركي جو بايدن إسرائيل في 18 تشرين الأول الماضي، لم يكتفِ بالتضامن مع الشعب الإسرائيلي وحكومة نتانياهو، بل حثّ نتانياهو على خوض المعركة بحذر، وعدم توسيع نطاق الحرب، وعلى إعطاء الأولوية لحلّ الدولتين، والانتباه إلى الخطوات التي تتجاوز محاولة القضاء على حماس، بما في ذلك ما يثيره أيّ نوع من الاحتلال المستقبلي لغزة من تحدّيات. وبحسب تقرير نشرته مجلة بوليتيكو Politico، نصح بايدن نتانياهو بالنظر في الدروس المفيدة التي سينقلها إلى خليفته، وهذه إشارة ضمنية إلى أنّ نتانياهو قد لا يكون في السلطة طوال مدّة الصراع مع حماس الذي سيكون طويلاً على الأرجح. ومن أجل هذا، يسير رئيس الحكومة الإسرائيلية في الخطّ المعاكس تماماً، حتى إنّه أعلن أنّ إسرائيل ستتولّى الأمن في قطاع غزّة بعد انتهاء المعركة، من دون أن تحتلّ القطاع رسمياً، بمعنى أنّ إسرائيل تتحكّم بحياة الفلسطينيين الباقين في القطاع من دون أن تتحمّل أيّ مسؤولية قانونية تجاه السكّان وفق ما ينصّ عليه القانون الدولي.
تمويل سعوديّ لبناء غزّة؟
2- إدارة غزّة بعد حماس: قفزت الإدارة الأميركية منذ اليوم التالي لهجوم السابع من تشرين الأول، نحو بحث خيارات مرحلة ما بعد حماس، وهذا شأن المخطّطين الاستراتيجيين الذين لا يقفون عند التفاصيل اليومية، بل يغرقون في استشراف المآلات واحتواء النتائج والآثار. ووفق تقرير نشره موقع بلومبيرغ Bloomberg، فإنّ المسؤولين الأميركيين بحثوا مع نظرائهم الإسرائيليين في مصير قطاع غزّة بعد إزالة حكم حركة حماس، ومن الأفكار التي جرى تداولها تشكيل قوة متعدّدة الجنسيات للانتشار في غزّة وبسط الاستقرار وإدارة شؤون الناس فيها، من دون أن يشارك الأميركيون فيها. وزاد تقرير آخر نشرته “بوليتيكو” أنّه يمكن أن تتضمّن هذه القوة وحدة سعودية، وقد نوقش هذا الأمر مع المسؤولين الإسرائيليين والسعوديين، من وفد الكونغرس الأميركي، أو على الأقلّ، أن تساهم السعودية في توفير الموارد، على المدى الطويل، لدعم السلطة الفلسطينية وقيام دولة منفصلة.
إعادة إعمار غزّة تتطلّب قدراً هائلاً من الموارد، ومن المحتمل أن يتولّى السعوديون ذلك. ومن الواضح أنّ سلوك نتانياهو العدائي بإزاء هذا الاحتمال أيضاً دفعه إلى استعداد إسرائيل لتولّي الملفّ الأمني في غزّة، وذلك لتطويق أيّ مشروع دولة فلسطينية مستقلّة، بدعم عربي ودولي. ومن الجدير ذكره أنّ تركيا أعلنت استعدادها لتكون طرفاً ضامناً في غزّة، بمعنى الاشتراك في القوة المتعدّدة الجنسيات، وأن تضمن عدم الاعتداء على إسرائيل، كمثل الدور الذي تلعبه في شمال سوريا.
3– بداية نهاية الصهيونية: للمرّة الأولى منذ تأسيس دولة إسرائيل، قبل ثلاثة أرباع القرن، تخبو الفكرة الصهيونية حتى لدى سكّان إسرائيل، وينحسر التأييد الشعبي الغربي لها لا سيما في أوساط الشباب بشكل متسارع، وتفقد إسرائيل عطف العالم عليها بوصفها “الضحيّة”.
لم يشهد تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي هذا التأييد العارم في أنحاء العالم لقضية فلسطين، حيث رُفع العلم الفلسطيني في التظاهرات والملاعب والتجمّعات الجماهيرية كما لم يُرفع من قبل، وليس هذا دفاعاً عن أطفال غزّة فقط، بل من أجل حرّية الشعب الفلسطيني وقيام دولته.
إقرأ أيضاً: عصيان عربيّ بوجه بلينكن… وورقة حلّ دائم في الرياض
تُقلق هذه الوقائع المستمرّة على نحوٍ تصاعدي الحكومات الغربية، وعلى رأسها البيت الأبيض، وقد بدأ الإعلام الرئيسي في دول الغرب يتحوّل باتجاه الكلام عن المأساة الإنسانية في غزّة، ونشر التقارير الأمنية التي تحذّر من تنامي ظاهرة العداء لليهود وإسرائيل في العالم، وتصاعد خطر الإرهاب وتجدّده مرّة أخرى، كلّما استمرّت محرقة غزّة.
يدفع هذا المسار وسيدفع نحو إيقاف الحرب، وإيجاد مخرج سياسي ما، لن يتّضح شكله ومداه، بما فيه مصير حماس، كما أفق حلّ الدولتين، إلا في ضوء نتائج الصراع المحتدم تحت الأرض وبين خرائب غزّة ومخيّماتها، بين جنود إسرائيل ومقاتلي حماس.
بعبارة واحدة: كلّما أوغلت إسرائيل في دماء الأطفال، اقترب المشروع الصهيوني من مرحلة النهاية.
لمتابعة الكاتب على تويتر: HishamAlaywan64@