بأسلوب هجومي صادم خارج عن أيّ معايير مهنية أو أخلاقية، يتعامل جهاز الإعلام والتواصل في حزب القوات اللبنانية، مع كلّ موقف مخالف له، سواء صدر من سياسي أو إعلامي. فمهما كانت طبيعة هذا الموقف أو مصدره، يكون الردّ الإعلامي عليه، وكأنّها معركة مصيرية، من خلال تضخيم الأمور، وتعظيمها ووضعها في خانة المؤامرة الدائمة والمستمرّة على “الحزب المسيحي المناضل”، واستدعاء التاريخ ووقائعه بشكل أعوج وأهوج، مع اللجوء إلى العبارات المُقذعة التي هي أقرب إلى الاتّهام والشتم منها إلى الجدال المنطقي والحِجاج الموضوعي، بمعنى ردّ الحجّة بالحجّة، وتفنيد أقوال الخصم وحتى الصديق، بهدوء ورصانة. فهل هذا هو الحزب المعروف بانضباط أعضائه، وضبط خطابه السياسي، وموازنة مواقفه بحسابات دقيقة؟
لا نكاد نصدّق أنّ هذا الخطاب المتشنّج يصدر عن حزب “الحكيم”، وينطق باسمه، ويظنّ نفسه أنّه يضرب بسيفه، كلّ المُغرضين، والمتواطئين، والخائنين، والتافهين، والموتورين، والمتقلّبين، والشائنين، وهي عبارات تتكرّر بكثرة في البيانات والتعليقات والمداخلات. يكاد هذا الجهاز أن يستوعب كلّ ما ورد في معاجم العرب من شتائم وسُباب، قديمها وحديثها، لمقارعة من تسوّل له نفسه نقد “القوات” من قريب أو بعيد، حتى لو كان غمزاً أو لمزاً، أو إشارة أو تلميحاً، بل لو كان تحليلاً سياسياً هادئاً كمثل الحلقات الأربع التي نشرها الزميل أيمن جزيني في موقع “أساس ميديا” أخيراً.
المستغرب بل المستهجن أنّ كثيراً من اليسار تابوا وندموا على انخراطهم في الحرب الأهلية، وانحازوا إلى سردية اليمين المسيحي بشأن أسباب الحرب الأهلية، وذلك لمناسبة قيام حركة 14 آذار عام 2005
أين الحكمة يا “حكيم”؟
على هذا الإيقاع، وإذا كان “الحكيم”، ما زال في مكانه السياسي، وموقفه المبدئي من القضايا الوطنية العامّة، التي تتجاوز الحسابات الطائفية الضيّقة، ولم يكن يستعيد ضمناً أخطاء جسيمة أدخلته كما غيره من جيل الشباب قبل خمسين سنة ونيف في حرب عبثية ومدمّرة، أكثر ما آذت المسيحيين أنفسهم، فهل تخلّت “الحكمة” عن محيط “الحكيم”، أو خذلت جهازه الإعلامي الصاخب؟ لقد عرّف الراغب الأصفهاني (توفّي عام 1108م) اللغوي المشهور كلمة الحكمة فقال: هي “إصابة الحقّ بالعلم والعقل”. وقال الفقيه الحنبلي ابن القيّم الجوزية (توفّي عام 1350م) “الحكمة: فعل ما ينبغي، على الوجه الذي ينبغي، في الوقت الذي ينبغي”، وقال في تعريف موجز: “الحكمة وضع الشيء في مكانه”. والتعريف الأخير أبلغ من الأوّل. وهذا ما لا ينطبق طبعاً على عشوائيّات “جهاز الردود المستعجلة”، أو “قوات الدعم السريع”، من باب قلْ ما شئتَ ثمّ دقّق لاحقاً في الأضرار التي ألحقتَها بنفسك. ثمّ لا تعتذرْ ولا تتراجع أبداً، إذ هذه هي الحكمة بعينها، ودعك من مواعظ الأقدمين!
أمّا ما يُثير القلق أكثر من لغة الشتائم، فهو التضليل التاريخي، ففي “موقف اليوم” الصادر عن جهاز الإعلام في حزب القوات اللبنانية بتاريخ 31 تشرين الأول الفائت، ردّاً على كلّ من كتب عن غياب الدور المسيحي في أحداث غزّة، وآخرهم الزميل أيمن جزيني، يطفح الكلام بروائح المؤامرة، إذ لم يجد محرّره سوى أنّ هناك “أوركسترا محرّكة من مطبخ أسود يختلق العناوين غير الموجودة إلا لدى مخيّلته المريضة”. ثمّ اعتبر أنّه لولا أصحاب الخطّ النضالي المسيحي (القوات اللبنانية) لكانت القضية الفلسطينية حُلّت على حساب لبنان، بمعنى أنّ المقاومة المسيحية عطّلت مشروع توطين الفلسطينيين في لبنان، علماً أنّ الذي نجحت فيه خلال الحرب، هو تطهير مناطق الأغلبية المسيحية من الوجود الفلسطيني عامّة، ومن الوجود اللبناني المسلم أيضاً. وغفل البيان أو “موقف اليوم” عن السبب المباشر لتشريع “فتح لاند”، أو العمل الفدائي انطلاقاً من الجنوب، وهو اتفاق القاهرة عام 1969، فمن وقّع عليه من الجانب اللبناني هو قائد الجيش إميل البستاني الطامح لرئاسة الجمهورية، وعن الجانب الفلسطيني ياسر عرفات. وكان ذلك في عهد الرئيس شارل حلو عندما كان رئيس الجمهورية الحاكم المطلق. أمّا القول بأنّه لولا المقاومة المسيحية لأصبح لبنان جزءاً من سوريا الأسد، فهو يُغفل أيضاً أنّ الجبهة اللبنانية التي هي الواجهة السياسية للميليشيات المسيحية خلال الحرب الأهلية، هي التي طلبت من الرئيس السوري حافظ الأسد التدخّل لإنقاذ الموقف، بعدما مال ميزان القوى إلى جانب قوات الحركة الوطنية وحلفائها الفلسطينيين عام 1976. وبعدما اجتاح الجيش السوري لبنان بغطاء مسيحي، انقلبت القوات اللبنانية عليه، بعد عامين، فأخرجته من الأشرفية شرقي بيروت. لكنّها عام 1982، جاء الغزو الإسرائيلي للتخلّص من الفلسطينيين والسوريين دفعة واحدة، وظنّت أنّها بعد ذلك يمكنها إخراج الإسرائيليين من دون عواقب. ولا حاجة هنا إلى فتح دفاتر التاريخ، فكلّنا لا يريد تذكّر تلك الآلام.
أمّا القول إنّه لولا المقاومة المسيحية لخضع لبنان لمشروع الممانعة بقيادته الإيرانية وفرعه الحزب في لبنان، فهو يُغفل أمراً أهمّ بكثير، وهو أنّ دماء الشهيد رفيق الحريري، هي التي أخرجت الجيش السوري من كلّ لبنان، عندما كان قادة الموارنة إمّا في المنفى أو السجن. وفي طيّات الكلام استخفاف مقصود بأحجام الآخرين وأدوارهم، وهو ما لا يليق بـ”القوات اللبنانية” ولا جهازها الإعلامي، ومن مهمّته التواصل، وليس إتقان قطع ما اتّصل!
لا أحد من الأحزاب في المقلب الآخر يريد أن يتذكّر أو أن يتباهى بما جرى، أو ارتكبه. تلك حقبة سوداء قد انطوت، فلماذا نبش المقابر من طرف واحد؟
شخْصنة السياسة
من الطريف ذكره أنّ الحلقة الأولى من مقالات الزميل جزيني، تحت عنوان: الموارنة وفلسطين… الماضي الذي لا يمضي، تضمّنت اسم رئيس جهاز الإعلام شارل جبور، عندما انتقد بشدّة ما فعله المتظاهرون قرب السفارة الأميركية في عوكر، وكانوا يتضامنون مع غزّة. والمقال، حرفياً، لم يتّهم جبور بالعنصرية، بل قال إنّ كثراً اعتبروا كلامه آنذاك، تشوبه شبهة العنصرية، عندما قال إنّ المتظاهرين لا يشبهوننا، ووجوهم غريبة، وما إلى ذلك. فليس هناك تهجّم على الزميل جبور، ولا على القوات اللبنانية بالاسم، بل مجرّد تساؤل مشروع. فهل كان ينافح رئيس الجهاز عن حزبه أم عن نفسه، وهو كان مخطئاً بالكمال والتمام، في نبرته “المشوبة” العنصرية؟
المستغرب بل المستهجن أنّ كثيراً من اليسار تابوا وندموا على انخراطهم في الحرب الأهلية، وانحازوا إلى سردية اليمين المسيحي بشأن أسباب الحرب الأهلية، وذلك لمناسبة قيام حركة 14 آذار عام 2005. وما يزالون في موضع التشكّك. لكنّ هذا اليمين نفسه لم يتُب ولم يندم على ما اقترفه، بل ما يزال يبرّر. لا يوجد حزب من أحزاب الحركة الوطنية اليوم، ولا من الميليشيات الإسلامية التي كان لها نصيب في الحرب، يستذكر شهداء الحرب، وكأنّهم نسياً منسيّاً، بخلاف الأحزاب المسيحية.
إقرأ أيضاً: المنطقة تتبدّل .. الموارنة في “مهب الأقصى”
لا أحد من الأحزاب في المقلب الآخر يريد أن يتذكّر أو أن يتباهى بما جرى، أو ارتكبه. تلك حقبة سوداء قد انطوت، فلماذا نبش المقابر من طرف واحد؟ لو أردنا الشفاء فعلينا أن نراجع التاريخ بموضوعية، وأن نعترف كلّنا بأخطائنا. وهذه هي السردية الوطنية المطلوبة، وفق معادلة: “لا نحن ملائكة ولا الآخرون شياطين”.
لمتابعة الكاتب على تويتر: HishamAlaywan64@