روى لي العالِم الأزهري الكبير الشيخ محمد غزالي رحمه الله، القصّة التالية: “كنتُ في زيارة الرئيس المصري (الراحل) حسني مبارك في منتجعه في القناطر الخيرية. بدا لي الرئيس قلقاً. سألته عن السبب، أجابني: أتدري يا مولانا ماذا يشغل بالي؟.. إنني مهموم بكيفية تأمين العِيش (الخبز) للمصريين”.
فقلتُ له مستغرباً: كنتُ أعتقد أنك مهموم بقضايا مصيرية استراتيجية تتعلّق بمستقبل مصر. أما العِيش (الخبز)، فاتركه (سيبه) على ربنا. هو “يطعمني ويسقيني”.
واقع القمح في مصر
اليوم ارتفع عدد سكان مصر الى 106 ملايين إنسان. يعتمد أكثرهم على الخبز غذاء أساسياً لهم. ولذلك، فإن نسبة استهلاك الخبز في مصر تزيد ثلاثة أضعاف عن المعدّل الاستهلاكي العالمي للفرد.
تدعم الدولة المصرية الرغيف (العيش)، ولكن مع زيادة عدد السكان وارتفاع نسبة الاستهلاك ، تتضخّم أرقام الدعم . في العام الماضي بلغت قيمة الدعم حوالي ثلاثة مليار دولار، هو رقم يمثّل 2.5 بالمائة من الميزانية العامة للدولة.
تزرع مصر القمح. ولكن إنتاجها منه لا يغطّي سوى نصف حاجتها الاستهلاكية. ومع تغيّر المناخ وارتفاع الحرارة وانخفاض منسوب نهر النيل، سيتراجع الإنتاج بنسبة أعلى. في الوقت ذاته تتواصل زيادة السكان ويتواصل ارتفاع نسبة الاستهلاك. فهل كان الرئيس السابق حسني مبارك على حق؟.
تواجه حكومة الرئيس عبد الفتاح السيسي تضخّماً مقلقاً تجاوز السبعين بالمئة في شهر آب (أغسطس) الماضي. يضاف إلى هذه المشكلة، الهجرة من السودان بكلّ أعبائها الاقتصادية والاجتماعية
تتمتع مصر بمساحة جغرافية واسعة. إلا أنّ مساحة الأراضي الصالحة للاستثمار الزراعي لا تزيد على 4 بالمئة فقط من هذه المساحة. ومن سوء الحظ أنّ العمران واتساع المدن ابتلع مساحات واسعة منها تبلغ عُشر مساحة الأراضي الصالحة للزراعة. وبصورة خاصة زراعة القمح .
وممّا زاد “الطين بلّة” ارتفاع منسوب البحر، وبالتالي ارتفاع منسوب ملوحة الأراضي الزراعية الساحلية. تتلاقى هذه العوامل مع عامل آخر يتمثل في قلة الأمطار نتيجة التغيير المناخي ، الأمر الذي يشكل بالفعل خطراً إضافياً مصدرة “الطبيعة”!!.
يتجسّد هذا الخطر في توقّع وصول انخفاض إنتاج مصر من القمح إلى 20 بالمئة في عام 2030.
الخلاف مع أثيوبيا
من هنا أهمية الخلاف المصري مع أثيوبيا حول سدّ النهضة الذي يحبس نسبة عالية من مياه النيل عن السودان ومصر. وإذا كانت السودان غارقة في الصراع الداخلي بين الجيش وقوات الدعم السريع (؟)، فان مصر تحسب لانقطاع كلّ نقطة من مياه النيل. فالسدّ الأثيوبي يحجب وراءه 88 بالمئة من مياه النهر الذي جعل من مصر تكتسب صفة “هبة النيل”. فأيّ مصر إذا سُحبت هذه الهبة؟!
في عام 2050 يفترض أن يرتفع عدد سكان مصر إلى 160 مليون إنسان. وتنتج اليوم 20 مليون طن فقط من القمح. ولذلك، فستكون في حاجة إلى زيادة منسوب الريّ الزراعي 5.5 بليون متر مكعب إضافية من المياه، فكيف ستؤمّن هذه الكمية مع تراجع تدفّق النهر بسبب سدّ النهضة .. ومع الانحباس الحراري المتزايد، وتراجع كميات الأمطار؟!.
تدرك الدولة المصرية أخطار هذه الحقائق، وتحاول أن تتعامل معها بتخطيط علمي ممنهج. ولذلك خصّصت مبلغ 245 مليار دولار لإنفاقه حتى عام 2030 على مشاريع تطويرية للبيئة تلتف حول الانعكاسات المترتبة عن التغير المناخي من جهة ، وانحباس الأمطار وتراجع نسبة تدفق مياه النيل من جهة ثانية. وبانتظار أن تؤتي هذه الاستراتيجية البعيدة النظر أُكُلها، ترتفع علامة الاستفهام التالية: هل ترفع الحكومة المصرية أسعار الخبز؟
في عام 1970 اضطرّت إلى ذلك. فكانت النتيجة، انفجار الشارع المصري في وجه الرئيس أنور السادات حتى اضطرت حكومته إلى التراجع لاحتواء الوضع الاجتماعي.
إقرأ أيضاً: سيناريو السلام: لا سادات فلسطيني ولا كيسنجر أميركي
الآن، تواجه حكومة الرئيس عبد الفتاح السيسي تضخّماً مقلقاً تجاوز السبعين بالمئة في شهر آب (أغسطس) الماضي. يضاف إلى هذه المشكلة، الهجرة من السودان بكلّ أعبائها الاقتصادية والاجتماعية. ثم انفجار الحرب الاسرائيلية في غزّة وعليها، مع محاولات إسرائيل تهجير أهل غزّة إلى صحراء سيناء المصرية، وهي أزمات لها أبعاد استراتيجية تتعلّق بالأمن القومي المصري، ولها أبعاد معيشية تتعلّق برغيف الخبز .. ملك المائدة المصرية ..