طريق بعبدا تمرّ بغزّة؟

مدة القراءة 8 د


ستمتدّ مفاعيل عملية “طوفان الأقصى” لسنوات مقبلة. وقد كشفت عن غياب مسيحي عميق في لبنان عكس تاريخ المسيحية في هذا الشرق.

في الحلقة الأولى أمس من هذه السلسلة، بدأنا بسرد تاريخي نقدي حول علاقة المسيحيين والموارنة بالفلسطينيين وفلسطين، منذ ما قبل ولادة إسرائيل، من ميشال شيحا ونجيب عازوري وصولاً إلى سعيد عقل والرحابنة ويمنى الجميّل…

في الحلقة الثانية تعريج على مسألة الرئاسة وشغورها في لبنان اليوم، وارتباطها بالنتائج النهائية للعملية العسكرية الإسرائيلية في غزّة.

        ……………………………………………..

من المفارقات الغريبة، وربّما التي لن يغفرها التاريخ، أنّ معركةً مصيريةً تكاد تندلع في جنوب لبنان مع إسرائيل، في ظلّ فراغ رئاسي يشهده لبنان عموماً، ويُكابدهُ الموارنة خصوصاً. فراغ يفرض نفسه على لبنان بسبب من استدعاء الجميع لكلّ خارج ممكن. كثر يراهنون في هذا الفراغ على ما ستؤول إليه المعركة في جنوب لبنان، وقبله في جنوب وشمال فلسطين المحتلّة.

الطامحون من الموارنة إلى سدّة الرئاسة كلّهم يقدّمون ما عندهم. مُرادهم مُعلّق على غبار المعركة في غزّة علّهُ ينجلي وهم على كرسي الرئاسة الأولى في لبنان، بينما تحيق بالبلاد مخاطر الزوال. بعضهم يريد من “طوفان الأقصى” نصراً يأخذه إلى بعبدا. وبعضهم الآخر يراهن على انكسار يبدّل من أوزان الداخل فيصعد هو إلى سدّة الرئاسة.

وحدة قياس

القضية الفلسطينية غالباً ما كانت وحدة قياس مارونية قائمة بذاتها. ترفع من تشاء في زمان محدّد. وتعود وتخفض من تشاء في زمان آخر. وصل الرئيس الراحل كميل شمعون إلى رئاسة الجمهورية لأنّه “فتى العروبة الأغرّ” وقضيّتها فلسطين. وصعد الرئيس بشير الجميّل إلى الرئاسة لأنّه عدوّ الفلسطينيين الأوّل في لبنان.

فلسطين مارونياً سيف ذو حدّين، حدّين يصنعان رئيساً، كلٌّ في طعنة: طعنة في خاصرة الغرب وأهله هنا، وطعنة في خاصرة الشرق وأهله هنا أيضاً. من المفارقات اللافتة جداً

أنّ هناك فلسطينيين كثراً عند الطعنتين، وبينهما.

لا يمكن فهم تصريحات جبران باسيل ومواقفه، إلا في ضوء تطوّرات الملفّ الرئاسي. عموماً لا يمكن فهم أو تفسير تموضع الموارنة السياسي إلا في ضوء التنافس على الكرسي الأوّل في البلاد

دولة هنا.. طائفة هناك

لا يقف الموارنة من الفلسطينيين على أرض فلسطين، موقف أهل الدولة. هم كانوا قد أخذوا هذا الجانب يوم حاربوهم على الأراضي اللبنانية. وفي ذلك مفارقة: فبينما رأوا إلى عدوّهم يوم كان في لبنان خطراً على الدولة برمّتها، وتهديداً وجودياً للوطن، يرون إليه اليوم بعيون مارونية.

هكذا تراوح النظرات بين الإنساني المتعاطف والمتضامن، والسياسي الذي لا بدّ من الزرع والاستثمار فيه لقطف ثماره في مكان آخر. والمكان الآخر، عند الموارنة، هو قصر بعبدا وكرسي رئاسة الجمهورية.

في الأثناء ينأى البطريرك الماروني عن المعركة، وإن بالتصريحات. لا يعثر المرء على رؤية كنسية واضحة لما يجري. منذ 7 تشرين إلى اليوم لم يصدر مانيفست سياسي عن بكركي وسيّدها. البطريرك حتى لو كان موجوداً في روما، يستطيع أن يقدّم قراءة سياسية موضوعية لما يجري. في غيابه كثر المراهنون وارتفعت الرهانات.

يراهن الداعم المؤيّد لـ”طوفان الأقصى” على أن يعبّد دعمه وتأييده هذان الطريق إلى الكرسي الأول في البلاد. هذا الهدف الأسمى لكلّ ماروني يحترف السياسة ويمتهنها. يرى “طوفان الأقصى” أنّها جسر سريع يطوي العقبات والمطبّات والحواجز، ويوصله إلى بعبدا. أوراقه كلّها يضعها عند محور غزّة، الممتدّ من رفح على حدود مصر، إلى سور الصين العظيم، مروراً بطهران. الطريق إلى رئاسة الجمهورية عنده تمرّ بغزّة، كما كانت تمرّ طريق القدس بجونية، على ما قال ذات حربٍ قائدٌ فلسطيني كبير.

هي فرصة لمن تقطّعت به السبل في المحور الآخر، الممتدّ من عواصم الغرب الكبرى واشنطن وباريس ولندن وغيرها، وصولاً إلى حلفائها العرب، وما أكثرهم. وهو المحور الذي يراهن عليه موارنة أيضاً، ويسعون إلى الجلوس على الكرسي الأول في البلاد، لكنّ طريقهم تختلف. عندهم طريق بعبدا تمرّ بغزّة، لكنّه مرور مختلف، مرور يشبه مرور الرئيس الأميركي جو بايدن ونظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون وغيرهما من زعماء دول المحور المعادي لحلف غزّة.

جسر إلى الرئاسة؟

يبدو موقف رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل من الفلسطينيين مشابهاً لموقف عمّه رئيس الجمهورية السابق ميشال عون من السوريين. هو مع الفلسطينيين في فلسطين وضدّهم في لبنان، كما كان عون ضدّ السوريين في لبنان وانتهت مشكلته معهم يوم رحلوا عنه.

يحتاج المرء إلى جهد كبير لفهم انتقال الرئيس السابق عون من ضفّة قانون محاسبة سوريا إلى ضفّة التحالف والتنسيق معها. ربّما الوعد برئاسة الجمهورية يساعد على فهم هذا الانتقال، وإن كان لا يبرّره. فما الذي يبرّر موقف جبران باسيل ويساعد على فهمه، مارونياً؟ هل الجبهات المفتوحة جسره إلى كرسي الأوّل في البلاد؟

عاش اللبنانيون ردحاً من الزمن على معايرة بعضهم بشعار “طريق فلسطين تمرّ بجونية”. الآن يبدو أنّنا نعيش الحرب الإقليمية في فلسطين على النقيض منه تماماً: “طريق بعبدا تمرّ بغزّة”

في حين لم يعلن موقفاً واضحاً ممّا إذا كان مع وحدة الجبهات، لكنّه قسّم الناس ثلاثة أقسام: قسم يؤيّد وينادي بوحدة الجبهات، وقسم يؤيّد الحقّ الفلسطيني في فلسطين وقال إنّه منهم، وقسم أخير يفرح لقتل الإسرائيليين الفلسطينيين وارتكاب ما يرتكبون في حقّهم، ويغمز بهذا من قناة خصومه الموارنة.

لا يمكن فهم تصريحات جبران باسيل ومواقفه، إلا في ضوء تطوّرات الملفّ الرئاسي. عموماً لا يمكن فهم أو تفسير تموضع الموارنة السياسي إلا في ضوء التنافس على الكرسي الأوّل في البلاد.

موقف العرب من المرشّحين الرئاسيين الموارنة يرسم مواقف الأخيرين. من أيّده الفلسطينيون رئاسياً، أيّدهم رئيساً أو مشروع رئيس. من عارضه السوريون وحالوا دون تبوّئه سدّة الرئاسة، عارضهم حتى الحرب وحتى الموت.

عمليّاً لا يمكن قراءة ما جرى ويجري في لبنان، وتفسيره وفهمه إلا في ضوء المعارك الرئاسية التي اندلعت على أرضه ومنذ الاستقلال، بل منذ ما قبل الاستقلال.

تاريخ لبنان السياسي عموماً، وتاريخ الموارنة السياسي فيه على وجه الخصوص، هو تاريخ المعارك الانتخابية وغير الانتخابية على منصب رئاسة الجمهورية فيه. هكذا منذ أيام التنافس والصراع بين إميل إدّه والشيخ بشارة الخوري، وصولاً إلى أيّامنا هذه.

كلّ بحث خارج هذا السياق يبقى ناقصاً. وكلّ موقف ماروني في أيّ شأن لا يمكن فهمه من دون فهم حيثيّات المعركة الرئاسية الأقرب إليه زمنيّاً.

أرض المعركة تصنع رئيساً؟

ما زالت المناوشات العسكرية على الحدود جاريةً على قدم وساق. تتّسع حيناً وتضيق حيناً، لكنّها لا تُنذر بحرب واسعة، أو بفتح أبواب الجبهة اللبنانية على وسعها. الجيش عنصر أساسي ورئيس في المعركة. موقف قائد الجيش، المرشّح الدائم لرئاسة الجمهورية، يحسم معارك كثيرة خارج الميدان. التنسيق القائم بين الجيش والمقاومة، وحرّية الحركة التي يفسح لها المجال في الجنوب، يشيان بالكثير.

ثمّة أطراف عديدة، غير الحزب، فلسطينية ولبنانية، أطلقت صواريخ من أقصى الجنوب في اتجاه إسرائيل. لم يحرّك الجيش ساكناً. موقف كهذا، في معركة مصيرية وحاسمة كهذه، لا بدّ أن يشكّل جسراً للعماد جوزف عون إلى الكرسي الأول.

عليه، يراهن المرشّحون الموارنة البارزون على نتائج المعركة. يسعى جبران باسيل علّ وعسى. وينسّق العماد عون على أمل… بينما يلتزم سليمان فرنجية موقفه القديم الجديد، وأوراقه كلّها في محور غزّة. وحده سمير جعجع يصرّ على إجراء موعد الانتخابات الحزبية في “القوات اللبنانية”. يعطيها اهتماماً لم تنَله الرئاسة الشاغرة ولا حتى الدعوة إلى الحوار مع الآخر، أيّ آخر، حتى لو كان من “أهل البيت” الماروني. يجد متّسعاً من الوقت لاستقبال طلاب اليسوعية بعد فوزهم بالانتخابات الطالبية مغنّياً معهم للآخرين “باي باي يا حلوين”.

سمير جعجع يريد الآن تنفيذ القرار 1701. يُهمل عن قصد أو بغيره أنّ هذا القرار سقط مُنذ صار هناك “أهالي” في الجنوب يحدّدون مسار وحركة قوات الطوارىء الدولية العاملة في الجنوب “اليونيفيل”.

إقرأ أيضاً: الموارنة وفلسطين… الماضي الذي لا يمضي

يُقيم خلف أسوار قلعة معراب. يبذل جهوداً حثيثة لتظهير تماثل موقفه مع موقف عربي لم يتبلور بعد. يطلق سيل تصريحاته عن “حظّ” لإنقاذ لبنان من دخول الحرب. لبنان هذا دخل الحرب منذ أن أطلق الحزب من الضاحية الجنوبية لبيروت “وحدة الساحات”، ومنذ أن استضاف قادةً عسكريين وسياسيين وفلسطينيين من حركتَي “حماس” و”الجهاد الإسلامي”.

قبل كلّ هذا حصل أن سلّم الجميع فعليّاً بالاحتلال الإيراني السياسي. آنذاك سكت الجميع على أنّ قرار الحرب والسلم بيد الحزب وذهبوا إلى سياسات محلّية ضيّقة سقفها الأعلى الحصص في الإدارة. قلّة من الاجتماع السياسي الوطني العامّ تتمسّك بالدولة وبقرارها تحت سقف الدستور ووثيقة الوفاق الوطني بإصلاحاتها الدستورية. لكن من يقابلها يجنح مجدّداً إلى المعازل الطائفية والمذهبية.

في الحلقة الثالثة غداً:

المنطقة تتبدّل …”الموارنة في مهبّ الأقصى”

لمتابعة الكاتب على تويتر: jezzini_ayman@

مواضيع ذات صلة

قمّة الرّياض: القضيّة الفلسطينيّة تخلع ثوبها الإيرانيّ

 تستخدم السعودية قدراً غير مسبوق من أوراق الثقل الدولي لفرض “إقامة الدولة الفلسطينية” عنواناً لا يمكن تجاوزه من قبل الإدارة الأميركية المقبلة، حتى قبل أن…

نهج سليم عياش المُفترض التّخلّص منه!

من جريمة اغتيال رفيق الحريري في 2005 إلى جريمة ربط مصير لبنان بحرب غزّة في 2023، لم يكن سليم عياش سوى رمز من رموز كثيرة…

لبنان بين ولاية الفقيه وولاية النّبيه

فضّل “الحزب” وحدة ساحات “ولاية الفقيه”، على وحدانية الشراكة اللبنانية الوطنية. ذهب إلى غزة عبر إسناد متهوّر، فأعلن الكيان الإسرائيلي ضدّه حرباً كاملة الأوصاف. إنّه…

الأكراد في الشّرق الأوسط: “المايسترو” بهشلي برعاية إردوغان (1/2)

قال “أبو القومية التركية” المفكّر ضياء غوك ألب في عام 1920 إنّ التركي الذي لا يحبّ الأكراد ليس تركيّاً، وإنّ الكردي الذي لا يحبّ الأتراك…