تركّزت زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الأخيرة للكيان الإسرائيلي وبعض دول المنطقة العربية (مصر والأردن) ولقاؤه رئيس السلطة الفلسطينية في رام الله، عقب الحرب التي شنّها الكيان الإسرائيلي في قطاع غزّة، على أربعة محاور أساسية:
1- المحور الأوّل: داخلي فرنسي.
2- المحور الثاني: أوروبي – دولي.
3- المحور الثالث: عربي – شرق أوسطي.
4- المحور الرابع: لبناني.
المحور الأوّل: داخليّ فرنسيّ
يحاول الرئيس الفرنسي أن يخلق مناخاً مؤاتياً في الداخل الفرنسي يخفّف عبره من تأثير الأحداث الدائرة في فلسطين المحتلّة على شرذمة المجتمع الفرنسي. يسعى كذلك لكي يحدّ من عصف الخلافات بين الأحزاب والمدارس السياسية الفرنسية على نجاعة السياسة الخارجية الفرنسية.
تشغل بال الرئاسة الفرنسية نقطة مهمّة جداً، وهي المحافظة على الوحدة الداخلية الفرنسية، مع تجنّب حصول الانقسامات العميقة والكبيرة والمؤثّرة داخل المكوّنات الفرنسية، حيث أضحى الاستقطاب السياسي في أشدّ حالاته وصوره ومشهديّاته.
يحاول الرئيس الفرنسي أن يخلق مناخاً مؤاتياً في الداخل الفرنسي يخفّف عبره من تأثير الأحداث الدائرة في فلسطين المحتلّة على شرذمة المجتمع الفرنسي
هذا وتعاني السياسة الفرنسية في عهد الرئيس الحالي من التسرّع في الخطوات والتعبيرات المعلّلة والمواكبة للأحداث. ترتدّ هذه الأمور عليها داخلياً. تساعد في انقسام المزاج الفرنسي. توحّد وتدخل المعارضة الفرنسية في مواجهة مع نفسها، ومع الإدارة الرئاسية أيضاً. وتدخل الحلفاء في حالة من التلبّك والارتباك. بات هنالك خوف من أن تحوّل الأحداث الدائرة في فلسطين المحتلّة بنية المجتمع الفرنسي إلى بيئة قابلة للانفجار، وهي التي تضمّ أكبر جاليتين فرنسيّتين (مسلمة ويهودية) في أوروبا.
كذلك فإنّ المبادرة الرئاسية الفرنسية بخصوص إنشاء التحالف الدولي ضدّ حركة حماس، وضعت فرنسا: داخلياً أمام انقسام واسع وعربياً أمام إحراج كبير. إذ لقيت هذه الفكرة قبولاً من اليمين التقليدي على الرغم من اعترافه بصعوبة تحويلها من مجرّد فكرة إلى حقيقة عملية. فيما انتقدها اليسار واليمين المتطرّف. وصرّح رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ بأنّها “فكرة جيدة، لكنّها صعبة المنال والتحقّق”.
لا يعدّ هذا المقترح الغامض بحسب رأي “حزب التجمّع الوطني الفرنسي” أكثر من سقطة دبلوماسية سرعان ما تبخّرت كرجع الصدى الصوتي في الفضاء، وانعكست سلباً على دور فرنسا الأوروبي والدولي، وساهمت في انخفاض معيار تأثيرها على المنطقة العربية. كذلك وضع الإدارة الرئاسية الفرنسية في تماسّ مع المجموعات السياسية الفاعلة على الساحة المحلية وأدخلها في منطقة من التجاذب مع إخوتها من الدول الأوروبية قبل العربية، حيث إنّه لم تُعرض عليهم هذه الفكرة وكانت لهم بمنزلة المفاجأة، وهو ما أدّى إلى حصول ارتباك سياسي في الوسط الفرنسي على اعتبار أنّه يجب أن يناقَش مع الأفرقاء الفرنسيين داخل أروقة المؤسسات الفرنسية الدستورية بالدرجة الأولى، ثمّ أمام المؤسّسات الأوروبية التنفيذية، وهو ما لم يحصل. فكانت دعسة ناقصة نالت أكثر من ملاءة العهد الرئاسي الفرنسي في عهد الرئيس ماكرون.
لا تعدو هذه الدعوة إلى تشكيل التحالف الدولي أكثر من كونها “فقاعة لفظية في السياسة الخارجية” سرعان ما تبدّدت بسرعة وفقدت صيغتها العملية. غير أنّها أوقعت عهد ماكرون الرئاسي في خانة عدم التأثير الإضافي، مع الانخفاض في معيار الحراكات الإيجابية النافعة على عكس ما يسعى.
المحور الثاني: أوروبيّ – دوليّ
يعتبر حراك الرئيس الفرنسي ماكرون في تعامله مع الأحداث جزءاً من النشاط الدولي والعالمي. ويجتهد فيه الرئيس من أجل ابتكار ما يساعد في وقف المعركة والولوج إلى حراك سياسي عملي، وفي حماية الانسجام الأوروبي المفقود نسبياً بين دول الاتحاد الأوروبي والمجتمع الأوروبي.
تعتبر هذه الزيارة جزءاً لا يتجزّأ من سلسلة حلقات “الدعم الأعمى” الدولي والأوروبي للكيان الإسرائيلي وحكومة الحرب التي يرأسها بنيامين نتانياهو. تأتي مكمّلة وغير منفصلة عن قافلة الرؤساء والقادة الغربيين الذين زاروا الكيان المحتلّ. علّقت عليها الإدارة الفرنسية نفسها والمجتمع العربي بالأخص بعض الآمال للاستفادة منها في تحقيق الأمور المفيدة العملانية، وخاصة على مستوى الأمور الإنسانية في إيصال المساعدة الضرورية للمدنيين العزّل وفرض هدنة إنسانية. حيث تكلّم عن ضرورة احترام المواثيق الدولية وقوانين الحروب التي تحرّم استهداف المدنيين، في إشارة إلى ضرورة الالتزام بالقوانين الدولية والإنسانية لجهة عدم التعرّض للمجتمعات المدنية وضرب المنشآت الحيوية من مدارس ومستشفيات وبنى تحتية. وهو ما لم يلقَ أيّ آذان صاغية من جانب الكيان الإسرائيلي.
تشغل بال الرئاسة الفرنسية نقطة مهمّة جداً، وهي المحافظة على الوحدة الداخلية الفرنسية، مع تجنّب حصول الانقسامات العميقة والكبيرة والمؤثّرة داخل المكوّنات الفرنسية، حيث أضحى الاستقطاب السياسي في أشدّ حالاته وصوره ومشهديّاته
أراد الحديث عن مبادرة وقف إطلاق نار فورية، وعن إنهاء العمليات العسكرية. حاول العمل على الإجراءات التي تضمن عدم تصعيد الصراع، وتسمح بالتالي بالولوج إلى منطقة التسوية واستكمالها في العمليات السياسية، حيث هدفت الزيارة الرئاسية الفرنسية إلى تحقيق أيّ أثر إيجابي، وأيّ مبادرة تساعد فرنسا في استعادة دورها وحضورها.
المحور الثالث: عربيّ – شرق أوسطيّ
يأمل تحسين الحضور والوجود الفرنسيَّين عربياً. يعمل على استعادة التأثير وإعادة التأثير. حيث تنشط الدوائر السياسية الفرنسية في العمل الجادّ على استرداد الدور الفرنسي كوسيط نزيه في القضايا الدولية والعربية، يحظى بالمقبولية والثقة، على الرغم من كلّ الانزلاقات التي مُنيت بها أخيراً.
تكثّف الإدارة الفرنسية حراكها في سبيل استرجاع توازنها الدبلوماسي. وقد شكّلت هذه الحرب فرصة غير متوقّعة، لتعمل على حلّها مع المنظومة الدولية، حيث تجتهد عبرها في عملية الإقناع بأنّها مرجعية متوافق عليها.
على الرغم من تأييد فرنسا التامّ ودعمها للكيان الإسرائيلي كغيرها من الدول الكبرى، تصرّ فرنسا بالتوازي على حقّ الفلسطينيين في دولتهم وأمنهم وحرّيتهم بحسب القوانين الدولية والقرارات والمبادرات الأممية التي تؤكّد ضرورة العودة إلى منطق حلّ الدولتين، وبنود قمّة بيروت العربية في عام 2002، ومبادرة الملك السعودي الراحل عبدلله “الأرض مقابل السلام ” ضمن حدود 1967. هذا بغضّ النظر عن الانزلاقات والزحطات المتكرّرة التي كان آخرها ما أدلى وصرّح به الرئيس الفرنسي ماكرون حول إمكانية خلق وتحويل التحالف الدولي ضدّ تنظيم داعش الإرهابي إلى تحالف دولي ضدّ حركة حماس، ثمّ القرار الفرنسي الذي منع التظاهرات الداعمة للشعب الفلسطيني، وقد تمّ إبطاله قانونياً في القضاء الفرنسي.
هكذا أتت هذه الزيارة لتسجيل الوجود الفرنسي أوّلاً، وتبرير الأفكار ووجهات النظر وربّما العودة عنها ثانياً، لا سيما أنّ الفكرة بقيت لفظاً صوتياً والتظاهرات عادت في فرنسا.
المحور الرابع: لبنانيّ
تكاد فرنسا تكون الدولة الوحيدة مع العرب التي تحاول المساعدة في تحصين الساحة المحلية اللبنانية ووحدتها الوطنية والمجتمعية، وحثّها على التركيز على الاستحقاقات التي تنفعها كدولة وفي مقدّمها رئاسة الجمهورية.
نشطت منذ بداية الأحداث في فلسطين المحتلّة الاتصالات والضغوطات. يظهر هذا السعي الحثيث عبر دبلوماسية الكواليس والوساطات العربية الإقليمية والدولية في محاولة لإبعاد لبنان عن أتون الحرب الدائرة، وهو ما تمّ تداوله في الجولة ضمن نقاش مباشر فرنسي مع الكيان الإسرائيلي والدول العربية، ومن خلال اتصالات مباشرة وغير مباشرة مع الجانب الإيراني. وكان الهدف إبقاء الحدود الجنوبية اللبنانية هادئة نسبياً، وأن لا تتخطّى المناوشات قواعد الاشتباك. وتجلّى هذا الدور من خلال الجهد الكبير، والتحذيرات والتنبيهات المبطّنة بقالب النصيحة.
مصدر رفيع في الرئاسة الفرنسية لـ “أساس”: هذه الأزمة فرصة مؤاتية في لبنان لتغليب مصلحة الدولة المؤسساتية والدستورية، لا سيما إنجاح تمرير الاستحقاقات المفيدة
ترتكز هذه الوساطة والمساعي الفرنسية والعربية والدولية على ثلاث نقاط أساسية:
1- حضّ القادة اللبنانيين على تحمّل مسؤوليّاتهم المؤسساتية اتجاه لبنان، وعدم نسيان الاستحقاقات الدستورية النافعة للدولة.
2- المساعدة الجدّية على إبقاء الجبهة اللبنانية على الحدود الجنوبية مع فلسطين المحتلّة هادئة والالتزام بالقرار 1701.
تعالج فرنسا هذه المساعي بوساطتها. تريد أن يكون لبنان بعيداً نسبياً عن الانغماس الفعلي في الحرب، وأن يكون جزءاً من الإجماع العربي والدولي المنضوي تحت راية المنظومة الأممية، وذلك من خلال التمنّي على لبنان:
1- عدم التفرّد والالتزام بقرارات الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية.
2- الضغط بقوّة مع الجانب الإيراني بهدف التواصل مع حليفه الحزب في لبنان وحثّه على إبقاء الجبهة الجنوبية بعيدة عن الحرب الكبرى.
3- متابعة التنسيق مع الدول العربية المنغمسة في حلّ هذا الصراع، وخاصة مصر والأردن والخليج العربي وفي مقدّمه المملكة العربية السعودية، للمحافظة على وضعية حالة قواعد الاشتباك على الحدود الجنوبية اللبنانية مع فلسطين المحتلّة والحرص على عدم تمدّد رقعتها ومساحتها قدر الإمكان.
الأولويّات اللبنانيّة لماكرون
اشتملت الجولة الرئاسية الفرنسية في المنطقة على ثلاث أولويات لبنانية:
1- أن يعاد الحديث في الأمور والأولويات اللبنانية، ومنها موضوع الاستحقاق الرئاسي، على الرغم من انشغال الأطراف بالأحداث الفلسطينية.
2- المحافظة في لبنان على الهدوءين، الداخلي والحدودي الجنوبي مع فلسطين المحتلّة.
3- تفكيك مبدأ وحدة الساحات أو لجمها وإسقاطها.
يتعامل كلّ من الرئيس الفرنسي ماكرون والإدارة الفرنسية ضمناً بمنطق الخصوصية التامّة مع الموضوع اللبناني. وقد كشف مصدر رفيع في الرئاسة الفرنسية لموقع “أساس” أنّ هذه الأزمة فرصة مؤاتية في لبنان لتغليب مصلحة الدولة المؤسساتية والدستورية، لا سيما إنجاح تمرير الاستحقاقات المفيدة، وفي مقدّمها انتخاب رئيس الجمهورية وتشكيل الحكومة وملء الشغور في قيادات وإدارات ومراكز الدولة العليا.
ترى الدوائر الفرنسية أنّ هناك ضرورة وإلزامية للاستثمار الصحيح والتقيّد بالدستور والقوانين الدولية، لما في ذلك من خير للبنان عبر قيام دولته وتحصين وجوده في خضمّ الجوّ القاتم والباعث على عدم اليقين.
ما تزال زيارة المبعوث الرئاسي الفرنسي للبنان جان إيف لودريان قائمة وحاضرة، لكنّها غير محدّدة التاريخ بسبب الظروف. وكان الاستحقاق الرئاسي حاضراً في جولة الرئيس ماكرون وإن لم يخصّه بمحطة بيروتية، حتى إنّه حضر في زيارة وزيرة الخارجية الفرنسية كاترين كولونا الأسبوع الماضي لبيروت بطريقة مغايرة ومرنة وبينيّة، وإن لم يكن المبعوث الرئاسي لودريان مرافقاً لها، وذلك بعد تخلّي فرنسا عن انحيازها للمرشّح سليمان فرنجية.
إقرأ أيضاً: فرنسا: بحث الحلول يبدأ بإدانة “حماس” وتحييدها
الأولوية هنا هي لحماية لبنان وإرجاعه إلى مكانه الدستوري ومساعدته على الشفاء من أزماته وشغوره. لذا ترى الرئاسة الفرنسية أنّ الترياق والدواء يكمنان في عودة التوافق الداخلي اللبناني والالتزام بمقرّرات البيان الثلاثي وبنود اللجنة الخماسية، إضافة إلى الضغوط الكبيرة النشطة عبر دبلوماسية الكواليس التشابكية دولياً عربياً وإقليمياً الهادفة إلى عزل لبنان عن الصراع نسبياً والإبقاء على استقراره المقبول ضمن قواعد الاشتباك المعروفة.
هل تنجح إدارة الرئيس ماكرون في هذه المساعي والوساطة؟ وهل تظلّ الجبهة الجنوبية مع فلسطين المحتلّة هادئة ضمن قواعد الاشتباك فقط؟ وهل تبقى ساحته المحلية محصّنة؟ هل هنالك من إمكانية لتمرير الاستحقاقات الدستورية؟
لا توجد ضمانة في جعبة أحد.