اتّجهت أعين العالم أخيراً إلى سماء موسكو. ويبدو أنّ الأنظار ستبقى مشدودة إليها لفترة طويلة بعدما خرقت المسيّرات الثلاث أجواء الكرملين وفتحت ثغرات سياسية وأمنيّة داخل نظام بوتين.
قصّة عمرها قرابة 35 عاماً تعود إلى الذاكرة بدلالاتها. ففي أيار 1987، جرؤ الطيار الهاوي الألماني المراهق ماتياس روست على الهبوط بطائرته الصغيرة في الساحة الحمراء المجاورة للكرملين آتياً من العاصمة الفنلندية هلسنكي. صرّح أنّ رحلته التي عجزت الدفاعات السوفيتية عن رصدها، كانت تهدف “إلى تقليل التوتّر والشكّ بين طرفَي الحرب الباردة”، إلا أنّ هبوطه في وسط موسكو كشف ضعف نظام الدفاع الجوي المفترض أنّه لا يمكن اختراقه. قادت هذه الحركة إلى إقالة كبار الضباط، بمن فيهم وزير الدفاع المارشال سيرغي سوكولوف، وسمحت لغورباتشوف بتنفيذ ما سمّي إصلاحات الغلاسنوست والبريسترويكا (وإقالة العديد من المسؤولين العسكريين المعارضين لسياساته).
أيضاً كشف هبوط طائرة ماتياس روست عورات داخل الاتحاد السوفيتي ترافقت مع التقهقر في أفغانستان وعجز النظام عن مجاراة الغرب في التسلّح وحرب النجوم وانهيار الشكل الاقتصادي للمُلكيّة العامّة لوسائل الإنتاج المتعارض مع المُلكيّة الفردية، فكان هذا الهبوط مع كلّ هذه الوقائع إيذاناً بنهاية النظام السوفيتي وانتهاء الحرب الباردة وسقوط ما يعنيه جدار برلين.
اتّجهت أعين العالم أخيراً إلى سماء موسكو. ويبدو أنّ الأنظار ستبقى مشدودة إليها لفترة طويلة بعدما خرقت المسيّرات الثلاث أجواء الكرملين وفتحت ثغرات سياسية وأمنيّة داخل نظام بوتين
سماء موسكو: اغتيال بوتين؟
يحاكي هذا الحدث التاريخي من جوانب عديدة ما حصل في سماء موسكو قبل أيام. من المؤكّد أنّ المسيّرات الأخيرة لم تكن تستهدف اغتيال بوتين في الكرملين، بل كانت رسائل مبطّنة أكثر منها عملية ناجحة وفعّالة لقتل الرئيس الروسي، وذلك للأسباب التالية:
– المسيّرات كانت من الحجم الصغير جداً وتسير بـ4 مراوح وتباع في المتاجر.
– لا تقوى هذه المسيّرات على الطيران من الحدود الأوكرانية وصولاً إلى موسكو (المسافة أكثر من 760 كلم جوّاً).
– لا تستطيع هذه المسيّرات أن تحمل عبوة تزن أكثر من نصف كيلوغرام من المتفجّرات وإلّا سقطت من جرّاء حمولتها.
– لم تصطدم هذه المسيّرات بأيّ مبنى بل تمّ تفجيرها فوق تجمّع المباني.
– اثنتان من المسيّرات انفجرتا فوق مبنى مجلس الشيوخ لا فوق مبنى رئاسة الجمهورية حيث يعمل بوتين وينام، وأمّا الثالثة فسقطت قبل وصولها إلى محيط الكرملين.
– لم يكن بوتين حينها في مجمّع الكرملين، وهو ما يعني أنّ الرصد والمراقبة غير متوفرين للفاعل.
يحاول نظام موسكو الإيهام بأنّ ما حصل هو محاولة لاغتيال بوتين (ربّما لهذا الزعم نصيب من النقاش)، لكنّ سلسلة عمليات سابقة حصلت تشير إلى خرق وتضعضع في قلب روسيا
انطلاقاً من النقطة الأخيرة، تشير الدلالات والوقائع إلى أنّ الفاعل كان قريباً على أرض موسكو ويوجّه المسيّرات ليلاً. ما أراده الفاعل كان التأثير المعنوي أكثر من الفاعلية المادّية الملموسة. حاول الجهاز الرئاسي لبوتين الاستفادة من عملية المسيّرات لتقوية شعبية الرئيس، وللسماح بإجراء تعبئة جديدة يرفضها الروس الذين يسألون عن مدى جدوى وصول عشرات آلاف “توابيت الزنك” المحمّلة بأبنائهم.
حراك مضادّ لبوتين في روسيا
مع عدم التوصّل إلى كشف الفاعل، إلا أنّ مجموعة أحداث قد تشير إلى وجود حراك مضادّ في الداخل. يحاول نظام موسكو الإيهام بأنّ ما حصل هو محاولة لاغتيال بوتين (ربّما لهذا الزعم نصيب من النقاش)، لكنّ سلسلة عمليات سابقة حصلت تشير إلى خرق وتضعضع في قلب روسيا، ومنها:
– التحقيقات القضائية والأمنيّة الروسية أعلنت أنّ من اغتال داريا دوغين ابنة منظّر الكرملين ألكسندر دوغين القومي الروسي المتشدّد في موسكو هم من الروس.
– من اغتال فلادلين تاتارسكي في مقهى في سان بطرسبرغ، هم روس أيضاً وفق التحقيقات، واتّهم القضاء مجموعات من المعارضة الداخلية وحمّلها مسؤولية عدّة اغتيالات وتفجيرات وعمليات تخريب. وتمّ نشر مقاطع فيديو تُظهر المعارِضة داريا تريبوفا تدسّ العبوة الناسفة داخل “ستريت بار” حيث أسفر الحادث عن مقتل تاتارسكي وجرح 32 شخصاً.
– بعد تفجير جسر القرم الرابط بين شبه الجزيرة والبرّ الرئيسي، تبيّن أنّ مجموعة روسيّة، بينها سائق الشاحنة سمير يوسوبوف من مدينة كراسنودار الروسية، هي وراء العملية.
– يواصل نظام موسكو تنفيذ اعتقالات واسعة في الداخل، وتطال إلى جانب المعارضين قيادات حزبية وقادة رأي وإعلام ومجتمع مدني.
– على صعيد داخلي (غير معارض)، تعاني روسيا من “قساوة” ملاحظات رئيس الشيشان قديروف الموجّهة ضدّ قيادة الجيش الروسي في أوكرانيا.
– تعاني موسكو من انتقادات قائد ميليشيا فاغنر يفغيني بريغوجين الذي هاجم مراراً وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو ورئيس الأركان والقادة العسكريين، ووصل إلى التهديد بسحب قواته من باخموت حيث تكبّدت آلاف القتلى.
إقرأ أيضاً: قائد فاغنر: الطبّاخ الذي صار أقوى جنرالات روسيا
إذاً ليست حرب موسكو على كييف وحدها السبب في الحاصل، بل إنّ تخطّي روسيا الحدود الدولية باتجاه أوروبا الغربية وخرقها القانون الدولي والقانون الإنساني شجّعا قوى الداخل في الاتحاد الروسي على كشف الغطاء عن التناقضات القومية والإثنية والفئوية. هذه التناقضات الداخلية ليست جديدة، بل معشّشة في التركيبة، وقد فشل بطش ستالين والتشايكا وKGB والنظام السوفيتي ككلّ، ثمّ يلتسين وبوتين، في إخماد صراعاتها. أدّت هذه الإشكاليات يوماً إلى حربَيْ الشيشان الأولى والثانية وإلى اجتياح أبخازيا وجورجيا وقمع مقاطعات الحكم الذاتي ورفض قراراتها الوحيدة الجانب، وصولاً إلى المطالبة بضمّ أراضي دولة أوكرانيا المستقلّة واحتلال شبه جزيرة القرم ثمّ منطقتَي لوغانسك ودونباس، واستمرار الحرب من دون أفق قريب لإنهائها.
الخلاصة أنّ العدوّ ليس دوماً متربّصاً في الخارج، فأغلب الأحيان قد يكون في الداخل، وربّما يكون على الفراش نفسه، فيُسمّى “عدوّ الفراش”.