يرتبط اسم أوكرانيا بالمظلوميّة. فالحرب هجّرت خمسة ملايين من سكّانها، ودمّرت عدّة مدن، وأحرقت مزارع الحبوب التي كانت تغذّي شعوب دول عديدة في العالم. لكنّ لأوكرانيا وجهاً آخر أصابه الضرر من الحرب، إلا أنّه لم يُدمَّر، وهو وجه “الجريمة المنظّمة”.
قبل الحرب كانت أوكرانيا مركز إدارة شبكات التهريب العالمية. وكانت جسراً من وإلى روسيا عبر المناطق الشرقية التي احتلّتها القوات الروسية في عام 2014. فمدينة أوديسا مثلاً على البحر الأسود كانت المركز الرئيس لتهريب الممنوعات في العالم، على اختلاف أنواعها وأصنافها.
بصورة خاصّة كانت أوكرانيا مركز الترانزيت لتجارة الهيرويين من أفغانستان عبر البلقان والقوقاز. وقبل انفجار الحرب كانت تُعتبر الدولة الرابعة في أوروبا من حيث حجم كميّات المادّة المخدّرة والفتّاكة المصادَرة منها.
يرتبط اسم أوكرانيا بالمظلوميّة. فالحرب هجّرت خمسة ملايين من سكّانها، ودمّرت عدّة مدن، وأحرقت مزارع الحبوب التي كانت تغذّي شعوب دول عديدة في العالم
عاصمة صناعة المخدّرات وتهريبا
كان الكوكايين يأتي من بعض دول أميركا الجنوبية إلى أوديسا، ومنها عبر الطرق البحرية في البحر الأسود إلى مصادر الاستهلاك في أوروبا شرقاً وغرباً. حتى السلاح كان يُهرَّب عبر أوكرانيا أيضاً إلى دول في آسيا وإفريقيا تنشب فيها حروب داخلية إقليمية. وقد تخصّص مرفأ ميكولوييف الأوكراني بهذه التجارة. وفي عام 2020 تبوّأت أوكرانيا المرتبة الأولى عالمياً في تهريب السجائر والمخدّرات (أمفيتامين). وفي العام الماضي وحده تمّ تدمير 67 مصنعاً محلّياً لإنتاج هذه المادّة المخدّرة (أسوأ وأخطر من الكبتاغون). وهي أعلى نسبة في عدد مصانع المخدّرات المدمّرة في أيّ دولة في العالم، حسب إحصاءات الأمم المتحدة.
في ضوء تجارة المحرّمات (أو الممنوعات) هذه كان طبيعياً أن يعمّ الفساد الدولة ومؤسّساتها. وهذا ما حدث فعلاً. إذ انتقل التنافس بين عصابات التهريب الدولية إلى تنافس على السلطة المحلّية. فارتفاع نسبة الحصص من عمليّات التهريب أدّى إلى اضطرابات سياسية داخلية. لكن في عام 2019 جرت انتخابات أسفرت عن فوز رئيس جديد لأوكرانيا من خارج المنظومة السياسية الفاسدة أو المتورّطة، وهو فولوديمير زيلينسكي. وكان مشهوراً لأنّه كان ممثّلاً مسرحيّاً فكاهيّاً. كانت مهمّته الأولى والأساسية بعد انتخابه، محاربة عصابات التهريب ووضع إصلاحات لوقف أعمال المافيا المحلّية وارتباطاتها الخارجية.
قبل انتخابه كانت أوكرانيا تحتلّ المرتبة الـ34 من أصل 193 دولة في لائحة أعدّتها الأمم المتحدة عن الدول التي ينخر فيها الفساد وتعشعش الجريمة الدولية المنظّمة في مرافقها ومؤسّساتها.
تتّهم أوكرانيا السلطات الروسية بأنّها تستخدم بعض المهرّبين ليكونوا عيوناً استخبارية لها، وأدوات لتهريب موادّ وأدوات تحظر الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي تصديرها إلى روسيا، مثل الإلكترونيات المتطوّرة وأجهزتها الدقيقة
غير أنّ الحرب التي شنّتها روسيا عليها، غيّرت كلّ شيء. وأهمّ ما غيّرته هو طرق التهريب. لم تعد هذه الطرق تمرّ بأوكرانيا. فالمعلومات الدولية تقول إنّ تهريب الهيرويين مثلاً أصبح يمرّ الآن عبر الحدود التركية-الإيرانية، وإنّ تهريب السجائر والحشيش أصبح يمرّ عبر ليتوانيا. واستناداً إلى معلومات البوليس الدولي (الإنتربول)، صادرت السلطات في أستونيا في الربع الأوّل من العام الماضي (2022) حوالي 3.5 أطنان من الكوكايين في مرفأ “موغا” وحده. ويقدّر ثمن هذه المخدّرات بحوالي نصف مليار يورو.
حتى في روسيا ذاتها، تمكّنت السلطات من مصادرة 700 كيلو من الكوكايين في العاصمة موسكو.
زيلينسكي “بطل” مكافحة “التهريب”
أقفل الرئيس الأوكراني زيلينسكي الطرق أمام المتورّطين في الدولة بأعمال التهريب. وجاءت الحرب لتساعده على ذلك. إلا أنّ الإغراءات الماليّة التي تقدّمها شبكات التهريب الدولية لا تُقاوَم دائماً. اعترف بذلك الرئيس نفسه علناً عندما اضطرّ إلى طرد تسعة مسؤولين كبار في حكومته (أربعة برتبة نائب وزير وخمسة محافظين) لثبوت تورّطهم أو استمرار تورّطهم في أعمال عصابات التهريب الدولية. فالدولة الأوكرانية تفرض غرامات مالية مرتفعة لإطلاق سراح المعتقلين من المهرّبين تراوح بين 5,500 دولار و610,000 دولار للشخص الواحد. وفي العام الماضي وحده جرى اعتقال ثمّ إطلاق سراح ثمانية آلاف عميل محلّي من عملاء عصابات التهريب التي كان مسؤولون في حكومة زيلينسكي متورّطين فيها.
لقد حدّد البنك الدولي حاجة أوكرانيا إلى مبلغ 410 مليار دولار لإعادة بناء ما هدّمته الحرب، منها 69 ملياراً لبناء مجمّعات سكنية. وقد بدأت المافيا الدولية شراء العقارات منذ الآن بأسعار لا تُذكر بانتظار إعادة بيعها عندما تبدأ مرحلة إعادة الإعمار. ومن هنا كان تورّط المسؤولين في حكومة الرئيس زيلينسكي. فالعمل المافياوي لا يقتصر على العمل الفوري المتمثّل بتهريب المخدّرات والممنوعات فحسب، بل يخطّط للمستقبل أيضاً.
إقرأ أيضاً: تزييف بغداد… بعد ترييفها
تتّهم أوكرانيا السلطات الروسية بأنّها تستخدم بعض المهرّبين ليكونوا عيوناً استخبارية لها، وأدوات لتهريب موادّ وأدوات تحظر الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي تصديرها إلى روسيا، مثل الإلكترونيات المتطوّرة وأجهزتها الدقيقة.
قبل الحرب كانت أوكرانيا تُعتبر “جنّة المجرمين”. لم تحوّلها الحرب إلى “جهنّم المجرمين”. صحيح أنّ الأحوال تغيّرت، لكنّ الأشغال استمرّت. فالحرب لم توقف عمليات التهريب، بل رفعت تكاليفها. وأخطر ما في ارتفاع هذه التكاليف أنّ السلاح الذي يُقدَّم اليوم بسخاء لأوكرانيا لتعزيز جبهتها العسكرية، بدأ يتسرّب عبر عصابات المافيا إلى الخارج المفتوح شرقاً على الداخل الروسي، وغرباً على العمق الأوروبي.