30 مليون حبّة كبتاغون ضُبطت في فيينا. ما يوازي قيمة مليار يورو في إيطاليا. أكثر منها في أكثر من دولة إفريقيّة. هي حرب مخدّرات مفتوحة على الحدود الأردنية: عشرات ملايين الحبوب في لبنان ومنه تُهرَّب في الرمّان والبرتقال والمعدّات الصناعية. وشاحنات كاملة تنتقل من الحدود إلى المرافق اللبنانية بأمان واطمئنان.
المصدر واحد: سوريا. والوجهة واحدة: الخليج العربي، مهما تعدّدت محطّات العبور والانتقال، حتّى صار الكبتاغون بنداً ثابتاً في أيّ محادثات عربية مع النظام السوري.
بصراحة تلامس الوقاحة، نقلت وكالة رويترز في 10 أيار الجاري عن وزراء شاركوا في اجتماعات عمّان، التي خُصّصت لبحث المسألة السورية وعودة دمشق إلى جامعة الدول العربية، أنّه “تمّ عرض 4 مليارات دولار على نظام الأسد، مقابل وقف تهريب الكبتاغون”.
في اليوم التالي كان وزير الخارجية الأردني يكشف علناً أنّ اتفاقاً تمّ مع النظام، وأنّ عمليات عسكرية ستنفَّذ، حتى داخل سوريا، لاستئصال مافيات الكبتاغون. فيما كانت مواقع المعارضة السورية تضجّ بصور أشخاص من حلقات النظام الضيّقة، عائلياً وحزبياًّ، قالت إنّه تمّت تصفيتهم خلال الأسبوعين الماضيين، وهم من كبار المهرّبين.
بعدئذٍ شارك الأسد في قمّة جدّة.
إذاً إنّها تجارة رسمية، وشبه معلنة، ومادّة مقايضة وبازار في المال والسياسة وما بينهما.
التقارير الدولية عن الموضوع تملأ موسوعات. ورد آخرها في 20 الجاري في تحقيقٍ لصحيفة “لوموند” الفرنسية يرسم مساراً مصوّراً يوجز تحوُّل عقار الكبتاغون إلى مخدِّر وانتقال صناعته من جنوب شرق أوروبا إلى منطقة الشرق الأوسط ليصبح مصدراً رئيسياً لاقتصاد النظام السوري وأعوانه وورقة ابتزاز بيده لإعادة تطبيع علاقاته مع الدول العربية.
*******************************
“يوم الجمعة 19 أيار 2023، في القمّة العربية الـ32، طوت الدول العربية صفحة نحو 12 سنة من المواجهة مع نظام بشار الأسد، من خلال إعادة سوريا إلى الجامعة العربية، بعدما كان قد تمّ استبعاده في عام 2011 بسبب القمع المميت للانتفاضة الشعبية في بلاده، وبعدما تسبّبت الحرب الأهلية، التي ما تزال مستمرّة في محافظة إدلب في شمال غرب البلاد، بمقتل ما لا يقلّ عن نصف مليون شخص، بالإضافة إلى ملايين اللاجئين والنازحين السوريين.
تُعتبر نهاية هذه العزلة على الساحة العربية نجاحاً دبلوماسياً كبيراً للرئيس بشار الأسد. لكنّ أحد الشروط المفروضة على إعادته إلى الحضن العربي، هو وقف الاتّجار في الكبتاغون، هذا المخدّر الصناعي المنتشر بين شباب الخليج والذي تفجّر إنتاجه في أعقاب الحرب في سوريا.
منذ استعادة نظام الأسد سيطرته على الأرض، بدعم من القوات الجوّية الروسية وأعوانه الشيعة (من إيرانيين ولبنانيين وعراقيين وأفغان)، أصبحت هذه التجارة المربحة تحت سيطرة آل الأسد، وتُقدّر قيمتها بعدّة مليارات من الدولارات، وتُعتبر الآن آليّة رئيسية لتمويل نظام دمشق، وتساهم في ترسيخ اقتصاد دمّرته أكثر من عشر سنوات من الحرب وضربته العقوبات الدولية.
في نهاية عام 2022، سنّت واشنطن “قانون الكبتاغون”، الذي يهدف إلى مكافحة انتشار المخدّرات والاتّجار بها وتخزينها من قبل نظام الأسد. وصدرت أولى العقوبات ضدّ بشار الأسد وشقيقه ماهر واثنين من أبناء عمومتهما. بالنسبة لدول المنطقة، وخاصة الملكيّات النفطية التي يتمّ تهريب الكبتاغون إليها، ودول العبور، مثل الأردن، وأخيراً العراق، أصبح تهريب المخدّرات السورية مصدراً رئيسياً لانعدام الأمن. في حين أصبح بالنسبة لدمشق وسيلة ضغط للحصول على تدفّق الاستثمارات من دول الخليج الغنيّة.
رحلة الكبتاغون من وصفة صيدلانيّة إلى ورقة ابتزاز
1961-1986: من دواء إلى مخدّر
يُعتبر الكبتاغون في الأصل، وهو الاسم التجاري لعقار يعتمد على مادة الفينيتيلين، دواءً صناعياً من عائلة الأمفيتامينات. أنتجته منذ عام 1961 شركة أدوية في فرانكفورت، وتمّ إعطاؤه للمرضى على شكل أقراص لعلاج اضطرابات فرط النشاط، صعوبة التركيز (الخدار) والاكتئاب، من خلال وصفة طبية. نظراً لخطر الإدمان، صنّف مكتب الأمم المتحدة المعنيّ بالمخدّرات والجريمة مادّة الفينيتيلين مخدِّراً في عام 1986. وخرج الكبتاغون من الخدمة التجارية، فتكاثر تهريبه بموادّ مختلفة لكن ذات تأثيرات بهيجة مماثلة.
1987-2007: بدايات الانتقال من أوروبا
يتركّز معظم الإنتاج السرّي لتصنيع الكبتاغون في جنوب شرق أوروبا. حدّد الإنتربول المختبرات السرّية في دول البلقان وبلغاريا وتركيا. انتقل التصنيع بعد ذلك إلى سوريا والأردن، وأغرق الإنتاج شبه الجزيرة العربية المستهلكة بشدّة له. في بداية العقد الأوّل من القرن الحادي والعشرين، حظي “كوكايين الفقراء”، المسمّى أيضاً “أبا الهلالين” بسبب الشعار أو الرسم المختوم على الحبوب، بشعبية كبيرة لدى شباب الخليج من سكّان المدن والأثرياء.
2007-2011: تحوُّل الشرق الأوسط إلى مركز له
في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، انضمّت بلغاريا إلى الاتحاد الأوروبي وتمّ تفكيك خطّ تصنيع المخدّر في دول البلقان، فانتقل الإنتاج إلى الشرق الأوسط، وخاصة لبنان، حيث يسيطر حزب الله على تهريب الكبتاغون وعلى الحشيش المنتج في سهل البقاع. تعمل الميليشيا الشيعية على تطوير وحدات إنتاج الكبتاغون المتنقّلة في مواقع استراتيجية بالقرب من الساحل والحدود السورية اللبنانية، وتستفيد من صلاتها بالسلطات الإيرانية والسورية لتوسيع هذه الأنشطة المربحة.
2011-2018: الكبتاغون مورد اقتصاديّ للحرب السوريّة
في عام 2011، اندلعت الحرب في سوريا، وأصبح الاتّجار وتهريب الكبتاغون أحد موارد الجماعات المتمرّدة المسلّحة والجهادية، كما القوات الموالية في دمشق. يستهلكه المقاتلون لتأثيره المحفّز. وبات إنتاج الكبتاغون في هذا البلد، الذي يُعتبر القطب الصيدلاني الثاني في المنطقة قبل النزاع، والذي بات يحمل لقب “جمهورية الكبتاغون”، محصور التصنيع في المناطق التي يسيطر عليها النظام.
2018-2022: سوريا دولة المخدّرات
كان عام 2018 نقطة تحوُّل في سوريا. أصبحت عشيرة الأسد، التي استعادت السيطرة على معظم الأراضي، تهيمن على تجارة الكبتاغون وتهريبه. وكانت الفرقة الرابعة في الجيش بقيادة ماهر الأسد، شقيق الرئيس، تشرف على المعامل المصنّعة وتسيطر على طرق العبور كما على ميناء اللاذقية. في اقتصاد متعثّر مستنزِف للدماء، يعاني من الفساد، وتُفرض عليه عقوبات دولية، أصبح الكبتاغون المصدر الرئيسي للنظام من العملة الأجنبية. مع انهيار الناتج المحلّي الإجمالي السوري من 67 مليار دولار (61 مليار يورو) قبل الصراع إلى 17 ملياراً في عام 2020، بلغت قيمة 173 مليون قرص من الكبتاغون التي تمّ الاستيلاء عليها في ذلك العام من سوريا، نحو 3.5 مليارات دولار.
2023: الكبتاغون ورقة ابتزاز من أجل التطبيع
يتمّ اليوم توزيع الكبتاغون السوري انطلاقاً من الموانئ اللبنانية والسورية أو الصحاري الأردنية والعراقية. تتضاعف المضبوطات في الموانئ الإيطالية واليونانية، لكن أيضاً في مناطق بعيدة مثل آسيا. شنّ الأردن، وهو بلد عبور يواجه زيادة في استهلاك هذا المخدّر، عدّة مداهمات ضدّ المهرّبين على حدوده مع سوريا. في 8 أيار استهدفت غارتان مختبراً وبارون مخدّرات من سوريا، هو مرعي الرمثان، بالقرب من درعا. وبات الكبتاغون في صميم المفاوضات داخل جامعة الدول العربية. فإذا أرادت دمشق تطبيع علاقاتها مع الدول العربية، فعليها أن تقضي على الاتّجار بهذا المخدّر. تريد دول الخليج أن تجعل استثماراتها في إعادة إعمار سوريا مشروطة بوقف هذا التهريب.
لقراءة النص الأصلي اضغط هنا
*نفى عبد الرحمن الراشد، الكاتب السعودي الأوّل، خبر دفع دول الخليج 4 مليارات دولار إلى النظام السوري لوقف تهريب الكبتاغون.
راجع مقاله في “الشرق الأوسط” بتاريخ 23-5-2023.