قد يكون أسوأ ما يواجهه لبنان اليوم هو تقدّم الرأي على الحقيقة. أنظروا إلى شاشات التلفزة. فهي تبدأ نشرات الأخبار بالرأي وليس بالخبر. الخبر يأتي لاحقاً، وقد لا يأتي. الرأي أوّلاً وأساساً. وهذه قاعدة عكسية في فلسفة الإعلام. اكتسب الإعلام اسمه وأهميّته من أنّه أساس ثقافة المعرفة. ولذلك تقوم القاعدة الأولى في علم الإعلام على “قدسيّة الخبر وحرّية الرأي”. فقَدَ الخبر قدسيّته في بعض الإعلام التلفزيوني اللبناني منذ سنوات. أصبحت النشرات الإخبارية منصّات لإطلاق المواقف وإصدار الأحكام. أمّا الخبر فيأتي لاحقاً. وقد لا يأتي على الإطلاق.
أدّى ذلك إلى تعزيز ثقافة تقدُّم الرأي على الحقيقة، وهو أمر يروّج لثقافة الأحكام المسبقة أو الأحكام الجاهزة والمعلّبة. فالرأي وجهة نظر، ووجهة النظر ليست بالضرورة الحقيقة.
يعطّل ترويج هذا الأسلوب من الإعلام العمل العقليّ التحليليّ للوقائع. إنّ تغييب الوقائع أو تأخيرها وتقديم الآراء والاستنتاجات وإصدار الأحكام المسبقة تجرّد الإعلام من كونه “صانع المعرفة”. ذلك أنّه بالمعرفة يكون الرأي العامّ هو القائد وصاحب الموقف. ومن دونها يصبح أسير الأحكام المسبقة ومتأثّراً بها وتابعاً لها، فيفقد بذلك دوره في مجتمع ديمقراطي حرّ. وهو أسوأ وأخطر ما يواجهه المجتمع اللبناني في تعامله مع الأزمة الانهياريّة التي يمرّ بها اليوم.
الآراء المعلّبة الجاهزة أو المجهّزة تشدّ بوصلة المواقف بالاتجاه المعاكس. وحدها المعرفة المبنيّة على إعلام صادق، أمين ومترفّع وشفّاف، قادرة على بلورة آراء موضوعية وبنّاءة تشكّل أساساً لإقامة صرح الحقيقة على نسبيّتها. ليس صحيحاً أنّ الإعلام رسالة في حدّ ذاته. الصحيح أنّه أداة معرفية لإنارة العقول عبر توصيل المعارف ونقل الوقائع والإضاءة على الزوايا المغلقة.
يتغنّى اللبنانيون عن حقّ بأنّ وطنهم هو وطن الرسالة، رسالة العيش معاً، أو العيش المشترك. والرسالة لا تكون من دون رسول، ولذلك ماذا يبقى من هذه الرسالة إذا تخلّى عنها الرسول؟
من هنا أهميّة الفصل بين الخبر والرأي، وتقديم الخبر على الرأي. ومن هنا أيضاً تبلوُر المبدأ العام حول قدسيّة الخبر وحرّية الرأي. فالخبر حقّ عامّ. أمّا الرأي فحقّ فرديّ وشخصيّ. الحقّ العامّ مقدّس. أمّا الرأي فإنّه اجتهاد فرديّ. وكلّ اجتهاد مفتوح على الخطأ والصواب. وفي الحسابات الأخيرة تتحوّل الحقيقة إلى وجهة نظر. وفي مجتمع الثماني عشرة طائفة تتحوّل وجهة النظر إلى ثماني عشرة حقيقة!!
من أسوأ ما يواجهه المجتمع اللبناني أيضاً الهجرة، وخاصة هجرة العقول وليس الأيدي العاملة فقط. عندما احتلّت القوات النازية فرنسا، سيطرت هذه القوات على شمال البلاد وأخضعت جنوبها لحكومة فيشي المتعاونة معها. يومها فُتحت أبواب الهجرة على مصراعيها، غير أنّ مثقّفاً فرنسياً كبيراً (ماتيس) طرح السؤال التالي: إذا كان كلّ عالِم ومفكّر ومثقّف فرنسي يغادر البلاد، فماذا يبقى من فرنسا؟ الآن نقول: ماذا يبقى من لبنان؟ الفساد الذي أغرق لبنان في دوّامة الانهيار ليس أسوأ من الاحتلال النازي. وإذا كان كلّ عالِم ومفكّر ومثقّف لبناني يغادر البلاد اليوم، فماذا يبقى من لبنان؟
يتغنّى اللبنانيون عن حقّ بأنّ وطنهم هو وطن الرسالة، رسالة العيش معاً، أو العيش المشترك. والرسالة لا تكون من دون رسول، ولذلك ماذا يبقى من هذه الرسالة إذا تخلّى عنها الرسول؟
في ظلّ الهيمنة السورية الطويلة، لم يكن الهدف احتلال لبنان، بل إخضاع شعبه لحمله على قبول منطق التبعية والدونيّة
إنّ التخلّي عن الرسالة بالهجرة ظاهرة سيّئة. ولكنّ أسوأ منها ظاهرة الانغلاق على الذات التي هي إلغاء للآخر وقطع لحبال الودّ والمشتركات الوطنية معه. إنّ الترويج الإعلامي لثقافة الازورار عن الآخر ورفضه واستحالة التعايش معه لم يعد مجرّد وجهة نظر، لكنّه أصبح توجيهاً منهجيّاً لتحويل لبنان إلى أيّ شيء آخر غير لبنان.
في ظلّ الهيمنة السورية الطويلة، لم يكن الهدف احتلال لبنان، بل إخضاع شعبه لحمله على قبول منطق التبعية والدونيّة.
في ظلّ الاحتلال الإسرائيلي القصير، لم يكن الهدف إلغاء لبنان دولةً وكياناً، بل كان الهدف حمل شعبه على التخلّي عن رسالته التي تتناقض مع جوهر الكيان الإسرائيلي الإلغائي للآخر المختلف، وهي الرسالة التي يكون لبنان بها أو لا يكون.
خلال الاحتلال الإسرائيلي وجدتُ نفسي أردّد قول الأديبة الفرنسية سيمون دي بوفوار أثناء الاحتلال النازي للعاصمة الفرنسية في حزيران 1940. يومها قالت: “إنّ كلّ همّي هو أن لا يقبض عليّ النازيون كالفأر في باريس المحتلّة”.
إقرأ أيضاً: لسنا محكومين بـ “الهزيمة”
لم يُقبض عليّ كالفأر، ولا كالأسد. ولكنّ الإسرائيليين دمّروا بيتي وأحرقوه بقذائف فوسفورية إسرائيلية عندما كنتُ مهاجراً من لبنان إلى لبنان (من بيروت إلى أنطلياس).
اليوم ترتفع آراء إعلامية توحي بأنّني قد أحتاج إلى تأشيرة إذا انتقلتُ من بيروت إلى أنطلياس.. حتى لو لم يكن انتقال هجرة. لم يسقط عليّ هذا الإيحاء من فوق. خرج من منصّات إعلامية تدعو أو تروّج لمنطق تحويل لبنان إلى لبنانات يجمع بينها “تخاصم مشترك” ومبدأ “لكم وطنكم ولي وطني”.
رحم الله البابا يوحنّا بولس الثاني.