درس تتويج تشارلز: “الحاكم خادم الشعب”

مدة القراءة 8 د

كرّر الملك ريتشارد الثالث القسَم نفسه الذي أقسم به أجداده أمام كنيسة ويستمنستر طوال 700 عام مع بدء الملكية عام 802 ميلادي، حينما قال: “لقد جئت كي أخدم وليس كي أُخدَم”.
العبارة بليغة جامعة صادقة تترجم بالضبط جوهر وطبيعة ملك البلاد في ظلّ نظام ملكي برلماني فيه عُرف سياسي متوازن وكأنّه دستور منضبط عادل على الرغم من أنّه غير مدوَّن ولا مكتوب.
عرفت بريطانيا النظام الملكي وعرفت أول حكومة تنفيذية عام 1721 برئاسة روبرت والبول الذي “تمّ نفيه وإقالته بواسطة الملك”.
أقرّ العرف السياسي البريطاني أن يتولّى الملك وعائلته المباشرة مختلف المهامّ الرسمية والاحتفالية والدبلوماسية وتمثيل الدولة في الداخل والخارج. ومن سلطات الملك منح مناصب الشرف وتعيين رئيس الوزراء. ويشغل الملك أيضاً منصب القائد الأعلى للقوات المسلّحة.
يحمل الملك لقب “حامي الإيمان” و”حامي العقيدة”، إذ إنّ الملك هو الرأس الأعلى للكنيسة الإنجيلية.
يحكم الملك حتى الوفاة. وفي تاريخ آل وندسور، أي منذ حكم الملكة فيكتوريا، كان التنازل الطوعي الوحيد هو تنازل الملك إدوارد الثامن عن العرش بموجب قانون خاص صادر عن البرلمان عام 1936.

في بريطانيا ذاتها توجد قوى ترى أنّ النظام الملكي قد تجاوزه الزمن، وأن لا معنى له الآن، وأنّه قد حان الأوان كي تتحوّل البلاد إلى نظام جمهوري

يتمّ الاتفاق على المصروفات الملكية الرسمية بما يعرف باسم شركة crown estate، أي محفظة الممتلكات الملكية. وتتكفّل الدولة بصيانة العقارات الملكية، وتبلغ قيمة المحفظة العقارية 7.3 مليارات جنيه إسترليني حسب إحصاء عام 2011، ويتمّ الاحتفاظ بهذا المبلغ في حساب لا يمكن التصرّف به لأيّ إنفاق شخصي.
سلطات الملك في بريطانيا مع أهميّتها وعمقها التاريخي تبقى مقيّدة بقواعد وأعراف النظام الملكي البرلماني الدستوري.

حسّ إليزابيت الشعبي
ظهرت عبقريّة الملكية البريطانية في حسن إدارة الملكة إليزابيت الثانية التي كانت ذات حسّ شعبي تستشرف منه مدى رضا مواطنيها في البلاد ودول الكومنولث.
ربّما تكون أعظم حالات الذكاء السياسي حينما انخفضت شعبية الملكة أثناء جنازة الأميرة ديانا. واستطاعت الملكة أن تُحدث حالة تحوّل شعبي من السخط إلى الرضا حينما خرجت للمرّة الأولى إلى أسوار قصر باكنغهام لتستقبل مرور جثمانها وانحنت للمرّة الأولى أمام جثمان الأميرة وألقت كلمة تاريخية امتصّت بها الغضب الشعبي. الملكة بروتوكولياً يتمّ الانحناء لها ولا تنحني لأحد كائناً من كان.
كان تشرشل أهمّ رؤساء الحكومات في عهد الملكة إليزابيت. يقول إنّ الملكية مسؤولية ثقيلة تحتاج إلى حجم أسطوري من الحكمة، بالإضافة إلى حاسّة استشعار لنبض مشاعر ورغبات كلّ طبقات الشعب.
من هنا كان تحديد مهمّة الملك هو الخدمة العامّة، وتوجيه مهمّة الملك أو الملكة هو خدمة الشعب والكومنولث.
هذا التوصيف حمله 101 حاكم في تاريخ بريطانيا.

ما جدوى “الملكية”؟
تطرح عمليّة تتويج تشارلز الثالث على أوسع نطاق سؤالاً يفرض نفسه على منظومة الكومنولث البالغ عدد أعضائها 56 تمثّل 16 كياناً، وعلى مَلَكيّات العالم في العصر الحديث، يتعلّق بأهمّية وجدوى وفاعلية الملَكيات في ظلّ تقدّم وتطوّر الأفكار والمعارف والعلوم والأنظمة السياسية.
في بريطانيا ذاتها توجد قوى ترى أنّ النظام الملكي قد تجاوزه الزمن، وأن لا معنى له الآن، وأنّه قد حان الأوان كي تتحوّل البلاد إلى نظام جمهوري يتمّ فيه انتقال وتداول السلطة بشكل مدني علماني.
هؤلاء يقولون إنّه لا معنى أن يميَّز رجل أو امرأة أو عائلة بمميّزات من القداسة (رأس الكنيسة) وقوّة السلطة (رمز السلطة وقيادة القوات وسلطة إعلان الحرب وتغيير الحكومات) وسلطة الإعفاء الوحيد من الضرائب وحقّ الثروة في امتلاك العقارات والأراضي والمزارع والمجوهرات الملكية وتوريث السلطة من داخل عائلة آل وندسور حصرياً دون غيرها.
بالمقابل هناك قطاعات واسعة تؤمن إيماناً راسخاً بأنّ الملكية حافظت على مرّ التاريخ على سهولة تداول السلطة والانحياز إلى الانتخابات البرلمانية ونتائجها وعلى توحّد الشعب وراء رمز السلطة والحربين العالميتين الأولى والثانية وحرب الفوكلاند.
يؤمن هؤلاء بأنّ تقاليد الملكية البريطانية هي رمز مميّز وعظيم لمكانة خاصة وصلت إليها العائلة المالكة البريطانية، وهي أمر يدعو إلى الفخر والاعتزاز لأنّها رمز لثبات واستقرار الدولة على الرغم من عواصف التغيير الحادّ الناتج عن اتجاهات حكومات محافظة في اليمين أو أخرى عمّالية متشدّدة في اليسار.
يبقى النظام الملكي هو ضمان الاستقرار.

ماذا عن “الحُكم” في الإسلام؟
كان الإسلام واضحاً في أنّ المُلك لله وحده وأن لا قداسة للحاكم. فله الكلمة كوليّ أمر وعليه الاستماع إلى الشورى، لكنّ الشورى ليست ملزمة له.
يرى الإسلام أنّ المال مال الله، ونحن مستحلفون فيه في الأرض، وأنّ مال المسلمين هو ملكية عامّة، وأنّ على الحاكم الحفاظ عليه وعدم التصرّف به كملكيّة خاصة.
وكما طلب أسقف كانتربري من الملك تشارلز أن يكون سيفه، أي سيف الحكم، لتحقيق العدل ونصرة الضعفاء، فإنّ الإسلام لم يميّز أحداً من طبقات أو رتب الناس إلا بالتقوى بصرف النظر عن العائلة أو القبيلة أو الثروة أو الجنس أو المنطقة.
خير الناس أنفعهم للناس وخيركم خيرة لأهله.
الشرع الإسلامي واضح تماماً، فإنّ الله وحده لا شريك له، وهو ملك السماوات، وهو ملك الملوك لا ينازعه أحد، فـ”الله ملك السماوات والأرض”، وهو ما يناقض مقولة دنيوية لأبي موسى الأشعري: “إِنَّ الإِمْرَةَ مَا اؤْتُمِرَ فِيهَا وَإِنَّ الْمُلْكَ مَا غُلِبَ عَلَيْهِ بالسيف”.
لقد عاصرت إصرار الملك فهد بن عبد العزيز رحمه الله في مجلس كبار العلماء على أن يعيد لقب خادم الحرمين الشريفين إلى مكانة ملك البلاد في السعودية.
في حوار صريح مع وزير إعلامه حينئذ الفريد علي الشاعر رحمه الله، قال فهد بن عبد العزيز: “الملك هو لقب حصري لله سبحانه وتعالى، ونحن قد شرّفنا الله بما لم يتشرّف به غيرنا، وهو خدمة الحرمين الشريفين، وهو تكليف لا يعلوه تكليف وشرف عظيم لا يعلوه شرف”.
أذكر أنّي سألت مازحاً الأمير فيصل بن فهد بن عبد العزيز عن معنى وظيفة “أمير”.
ردّ الأمير فيصل بجدّية: “هذا لقب لا فضل للإنسان فيه تلتحق به لحظة ميلادك حتى وفاتك، لكنّ الأهميّة أن تُثبت دائماً أنّك جدير بحمله”.
عاد وقال مازحاً: أنتم موش في مصر بتسمّوا الراجل الطيّب الخدوم بأنّه راجل “أمير”؟
عاد وأضاف: “الأمير هو الطيّب الخدوم للناس”.
أن تخدم الناس ليس أن يخدمك الناس، تلك هي المسألة، سواء كانت ملَكية تقليدية أو ملَكية برلمانية أو دستورية شرقية أو غربية تاريخية أو حديثة. المهمّ هو كيف يرى الحاكم دوره.
هناك جمهوريّات، وليس ملَكيّات، كانت جمهوريّات خوف واستبداد وفساد وتسلّط وقمع وظلم.

ليست المسألة تسمية نظام الحكم أو تسمية الحاكم (ملك، أمير، شيخ، رئيس، مستشار)، لكن كيف يرى توصيف وظيفته؟ هل هو حاكم قاهر لشعبه أو حاكم بالعدل لخدمة شعبه؟

يحمل الملك لقب “حامي الإيمان” و”حامي العقيدة”، إذ إنّ الملك هو الرأس الأعلى للكنيسة الإنجيلية

“قوّة” الرضى الشعبي.. لا الرصاص
المسألة هي: هل يرى الحاكم أنّه يملك الأرض ومن عليها وكلّ البلاد والعباد مسخّرون لإرادته ورغبته ومصالحه؟ أم أنّه جاء لخدمة مواطنيه ومصير بقائه أو رحيله مرتبط بمدى رضائهم وحدهم دون سواهم؟
قوّة الرضا الشعبي وليست قوّة العصا والرصاصة هي شبكة الأمان الحامية للحاكم في أيّ زمان ومكان ومهما كانت تسميته.
مراسم تتويج الملك تشارلز الثالث سوف تتعدّى كونها مسألة بروتوكولية، لأنّها ستفتح باب الجدل العالمي في ما يتّصل بوظيفة الحاكم وأهمية النظام الملكي في هذا العصر.
أذكر أنّني سألت الملك حسين بن طلال رحمه الله عن فهمه لوظيفته كملك، متعمّداً طرح السؤال على هذه الهيئة لأنّه مصطلح اختاره هو بنفسه في كتاب يُعتبر شبه سيرة ذاتية بعنوان “مهنتي كملك”.
قال الملك حسين: “في الأردن الملكية مسؤولية جسيمة لثلاثة أسباب:
1- دقّة الموقع الجغرافي بين البعث العراقي في بغداد والبعث السوري في دمشق وإسرائيل في تل أبيب.
2- التركيبة السكانية الحسّاسة بين مكوّن أردني وآخر فلسطيني.
3- ندرة الموارد الطبيعية وأوّلها المياه وصعوبة الوضع الاقتصادي”.
من هنا فإنّ وظيفة الحاكم، بصرف النظر عن الزمان والمكان وعن النظام أو العرف السياسي أو عن اللقب: رئيس، ملك، شيخ، مستشار، أمير… المهمّ أن تفعل كما جاء في عبارات تتويج الملك تشارلز الثالث: “استخدِم سيفك هذا للعدل والرحمة وعِش كي تخدم ولا تُخدم”.

إقرأ أيضاً: تشارلز ملكاً وديانا “ملكة” القلوب

هناك من فهم أنّ الحاكم خادم لشعبه، ومن فهم عكس ذلك خرج منه، وربّما تذكرون عبارة العقيد معمّر القذّافي الخالدة: “أنا زعيم دولي وعميد الحكّام العرب وملك ملوك إفريقيا وأهمّ المسؤولين، ووضعي الدولي لا يسمح لي أن أنزل إلى مستوى أدنى”.
صاحب هذه العبارة انتهت حياته بشكل تراجيدي مختبئاً في ماسورة معدّة للصرف الصحّي.
اللهمّ لا هزء ولا شماتة.
“اللهمّ مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممّن تشاء وتُعزّ من تشاء وتُذلّ من تشاء”، صدق الله العظيم.

 

لمتابعة الكاتب على تويتر: Adeeb_Emad@

مواضيع ذات صلة

الصراع على سوريا -2

ليست عابرة اجتماعات لجنة الاتّصال الوزارية العربية التي عقدت في مدينة العقبة الأردنية في 14 كانون الأوّل بشأن التطوّرات في سوريا، بعد سقوط نظام بشار…

جنبلاط والشّرع: رفيقا سلاح… منذ 100 عام

دمشق في 26 كانون الثاني 2005، كنت مراسلاً لجريدة “البلد” اللبنانية أغطّي حواراً بين وليد جنبلاط وطلّاب الجامعة اليسوعية في بيروت. كان حواراً باللغة الفرنسية،…

ترامب يحيي تاريخ السّلطنة العثمانيّة

تقوم معظم الدول التي تتأثّر مصالحها مع تغييرات السياسة الأميركية بالتعاقد مع شركات اللوبيات التي لها تأثير في واشنطن، لمعرفة نوايا وتوجّهات الإدارة الأميركية الجديدة….

الأردن: 5 أسباب للقلق “السّوريّ”

“الأردن هو التالي”، مقولة سرت في بعض الأوساط، بعد سقوط نظام بشار الأسد وانهيار الحكم البعثيّ في سوريا. فلماذا سرت هذه المقولة؟ وهل من دواعٍ…