قبل عشر سنوات من اليوم، بدأت أزمة الصحافة الورقية تتصاعد في أنحاء العالم، مع تقدّم مواقع التواصل الاجتماعي، وبروز منصّات الإعلام البديل، وتزايد الرغبة في “المشاهدة” بدل القراءة، في مختلف أنحاء العالم.
التهمت الأزمة صحفاً كبيرة تخلّصت من نسخها الورقية وذهبت إلى الممرّ الإلكتروني الإلزامي، وصحف كبيرة تحت سيف التهديد… لكن ما كان بعيداً عن الخيال، هو سرعة دخول الصحافة الورقية إلى “المتحف”، باعتبارها “فرجة” نذهب ونخبر أولادنا عن أنّها كانت ذات يوم شيئاً “يومياً في حياتنا.
ما كنّا نتخيّل أنفسنا نتفرّج على الجرائد وهي معلّقة على الجدران، باعتبارها تراثاً عتيقاً يعبق برائحة الورق وحبر السياسة والثورة والأزمات المتلاحقة والتسويات والكوميديا السوداء… وبأسماء علقت في الذاكرة وساهمت في رسم المشهد في لبنان والعالم العربي والمهجر منذ أكثر من مئتَي عام.
لكنّ هذا ما يحدث فعلاً في معرض “بدايات الصحافة العربية”، في متحف نابو في منطقة الهري، الذي تمّ افتتاحه يوم السبت الماضي، ويستمرّ حتّى 16 أيلول، مقدِّماً نماذج من الصحف العربية تعود لفترة ما بين القرن التاسع عشر حتى منتصف القرن العشرين، ليشكّل سجلّاً تاريخياً لبدايات الصحافة العربية في المشرق وشمال إفريقيا والمهجر.
الأغرب في ملاحظات المتجوّلين في أنحاء “المتحف” هو أنّ معظم الجرائد اللبنانية “استعارت” أسماءها من جرائد سبق أن صدرت في مدن سورية، منها حماه وحلب وحمص، قبل أكثر من 110 أعوام، مثل “الشعب” و”النهار” و”الشرق”، قبل أن تتحوّل إلى أبرز جرائد لبنان والعالم العربي في منتصف القرن الفائت، قبل 70 عاماً تقريباً.
400 صحيفة
شعور غريب ينتاب الصحافي أمام هذه المشاهد، إذ يمرّ بك الزمن، أو ربّما تمرّ أنت به، لتحاكي أرشيفاً عظيماً من 400 صحيفة من مجموعة الباحث بدر الحاج (أحد مؤسّسي متحف نابو) ومجموعات خاصّة أخرى. تُفاجأ بكمّ الصحف الموجودة، فتفرح بها وبإنجازٍ نوعيّ جمعَهَا كلّها في مكان واحد، لكنّك في الوقت نفسه تتعثّر بذكرياتك، وربّما تحزن قليلاً على أمجادٍ من الصعب أن تعود. إذاً هي فرحة الوصول إلى أرشيف ذهبيّ وغصّة خسارته في آن، وهو ما يمنح المعرض بعداً عاطفياً سيفسّره كلّ شخص انطلاقاً من تجربته الشخصية مع الصحف.
الرسالة من المعرض، كما يفسّرها مؤسّس متحف نابو جواد عدرا لـ”أساس”، هي “إحياء روح الثقافة والتعمّق بها، وتسليط الضوء على شخصيات أسّست لإرث ومجد عظيمَين”. وهو يدعو “لاستذكار جهود كبيرة أطلقت ثورة ثقافية عابرة للزمان والمكان، والاستلهام من مسيرتها لخدمة لبنان والمنطقة والأجيال المقبلة… فبيروت عاصمة الإعلام العربي لعام 2023، وكان من المهمّ لدينا أن يشمل المعرض كلّ الدول العربية”.
ما يميّز المعرض، برأي عدرا، هو أنّه يسمح لنا برؤية التاريخ بالصور والوقائع، وشموليّته التي تجعل منه المعرض الأوّل من نوعه في المنطقة، إذ يضمّ نماذج فريدة ومحدودة من جميع الدول العربية ومن صحافة المهجر، ويعيد إلى الذاكرة شخصيات (ناشرين) ناضلت وتعبت لتنتشل بلادها من الظلمة إلى النور.
أصل الحكاية
بدأت الحكاية (حكاية الصحافة العربية) في مصر في عام 1799 مع صحيفة “الحوادث اليومية”، وهي أوّل صحيفة صدرت في القاهرة، وأنشأها نابليون الأول عندما كان قائداً للجيوش الفرنسية في وادي النيل.
وانتظرت المنطقة 29 عاماً حتّى 1828 لتصدر صحيفة “الوقائع المصرية” في عهد خديوي مصر محمد علي. كانت تصدر باللغتين العثمانية والعربية في البداية، ثمّ تحوّلت إلى العربية في وقت لاحق.
لاحقاً أصدر الشاعر السوري رزق الله حسون أوّل جريدة باللغة العربية في 1855، وقد حملت اسم “مرآة الأحوال”. لكنّها توقّفت عن الصدور بسبب نقدها الشديد للسياسة العثمانية.
أمّا أوّل صحيفة باللغة العربية صدرت في بيروت فكانت “حديقة الأخبار” التي انطلقت في عام 1858 على يد مؤسّسها خليل الخوري، وكانت تنطق باسم الوالي التركي.
يظهِر المعرض كثافة الإصدارات في النصف الثاني من القرن التاسع عشر في مصر ولبنان وفلسطين والعراق والحجاز، ويعرض مختارات من الصحافة المهجريّة التي كانت أيضاً غزيرة في أوروبا وأميركا الشمالية والجنوبية، ومختارات نُشرت في الصين والهند وتشيلي وماليزيا وإندونيسيا وغيرها من الدول، حيث ترك ناشرون عرباً بصماتهم.
خلال الرحلة في معرض “بدايات الصحافة العربية” نمرّ بـ”الأخبار” و”النهار” و”العروة الوثقى” و”البيان” و”الزهوة” و”الحياة” و”لسان الحال” و”الجنّة” و”الأهرام” و”الحجاز” و”الجامعة” و”الوفاق” و”السائح” و”مرآة الدنيا” و”الجريدة” و”النصر” و”الشرق العربي” و”الأرجنتين” و”سوريا المتحدة” و”حضارة السودان” و”كوكب إفريقيه” و”العصر الجديد” و”القدس” و”الشعب” و”المغرب”… وغيرها الكثير الكثير من أسماء الصحف والدوريّات والمجلّات التي تنوّعت بين علمية وأدبية وسياسية وإعلانية وفنّية… والتي استغرق جمعها كلها في مكان واحد ما يقارب 40 عاماً.
“احذروا الطبل فهو بالمرصاد”
يتنقّل العابر بين الأسماء والعناوين، فيجد بعضها مضحكاً وبعضها الآخر مبكياً. إذ كانت الصحف والمجلّات تعبّر عن آراءٍ سياسية متضاربة، بعضها عثماني الولاء، وبعضها يؤيّد السياسة البريطانية أو الفرنسية، أو يدعو إلى التحرّر والتغيير والاستقلال ومحاربة العثمانيين. إذاً هي جولة بين أزمات حكم وأطماع متشابهة ما زالت مستمرّة حتى يومنا هذا ولو بأشكال مختلفة.
على سبيل المثال لا الحصر جريدة “الشعب” تعرّف عن نفسها بأنّها “جريدة جامعة أُنشئت لخدمة الشعب الشوفيّ”. في عددها الصادر في عين زحلتا في 5 كانون الأول سنة 1912 على صفحتها الأولى مقال بعنوان: “هل تحتلّ فرنسا سوريا.. وهل يشمل الاحتلال لبنان؟”. وهي “نبوءة” ققبل بدء الحرب العالمية.
في “العصا لمن عصى”، وتعرّف عن نفسها بأنّها “جريدة هزلية جدّية عربية تركية”، في عددها الصادر في 29 آب 1912 نجد مقالاً عن الانتخابات يوبّخ الشعب على خياراته ويدعوه إلى اختيار من يمثّله بشكل أفضل: “إنّ أعظم ذنب يرتكبه الشعب هو أن يخدَع هذه المرّة أيضاً ويهب قوّته للأغنياء… ومتى قضوا منه وطرهم وصرفوا قوّته فيما يعود عليهم وحدهم بالنفع والفائدة، قلبوا له ظهر المجنّ وتعالوا عن الاحتكاك به، والنظر بما فيه خيره وما عهدنا بالانتخابات الماضية ببعيد”.
كذلك تُظهِر مقتنيات المعرض هامش الحرّية الكبير في ذلك الوقت وحسّ الانتقاد الساخر الذي أدّى إلى إصدار صحف هزلية ساخرة نفتقدها اليوم، ومن أبرزها نذكر: العصا لمن عصى، الحمارة، المسامير، الدبّوس، السعدان، العفريت، السفور، حط بالخرج، جحا، الكشكول، والطبل التي كان شعارها: احذروا الطبل فهو بالمرصاد، وغيرها….
روّاد النهضة العربيّة
في زاوية أخرى من المعرض تستوقفك صور لروّاد النهضة العربية ومجموعة مميّزة من مؤسّسي الصحف الرؤيويّين الذين كانوا وراء النهضة العربية الحديثة من خليل الخوري إلى الدكتور خليل سعادة، ومن بطرس البستاني إلى ناصيف اليازجي وعبد الرحمن الكواكبي ورفاعة الطهطاوي وداوود باشا وسواهم.
تتوقّف أيضاً عند صحيفة “السائح” التي أصدرت عدداً مميّزاً تحت عنوان “السائح الممتاز” في نيويورك، وكتب فيها كتّاب عظماء مثل ميخائيل نعيمة، جبران خليل جبران، إيليا أبو ماضي ونسيب عريضة.. وعند صحيفة “المفيد” (جريدة وطنية علمية سياسية) التي أصدرها عبد الغني العريسي من بيروت في شباط 1909، للتعبير عن إرادة التغيير والتحرّر على الرغم من الرقابة العثمانية وقتذاك، وأوقفتها السلطات عدّة مرات إلى أن أصدر جمال باشا، حاكم سوريا في الحرب العالمية الأولى، حكماً بإعدام العريسي.
[PHOTO]
من جهة أخرى، لعبت النساء دوراً رياديّاً في بدايات الصحافة العربية، فكانت الشاعرة السورية مريانا مراش أوّل امرأة تكتب في الصحافة العربية، فنرى مقالاتها في “الجنان” و”لسان الحال” في بيروت. ونرى هند نوفل بين روّاد النهضة، وهي اللبنانية التي أسّست أوّل مجلة نسائية في العالم العربي، وحملت عنوان “الفتاة” في 1892. ومن صحف المهجر “المارونية الفتاة” التي صدرت في الصين عام 1908، وكان شعارها “مجد لبنان أعطي لها”، أي للفتاة المارونية. وكانت هذه الصحيفة من دعاة تحرّر المرأة.
إقرأ أيضاً: بيروت: ازدهرت في قرن النكبات… وانفجرت بعده
تخرج من متحف نابو مثقلاً بالتاريخ: 225 عاماً على أول صحيفة عربية، مئات المنشورات واكبت الأحداث وأثّرت بها، شخصيات صنعت جزءاً من التاريخ وكتبت الجزء الآخر، صحف أطفأتها الحروب وصحف أطفأها القمع، وآخرها أطفأتها الأزمات المادّية وموجات التكنولوجيا، وصحف ما زالت تحارب ورقياً أو إلكترونياً من أجل الإرث نفسه… فحتى لو انتهى الورق، لن يجفّ الحبر. وكلماتنا اليوم ربّما ستراها الأجيال المقبلة في متحف للصحافة الإلكترونية بعد مئات السنين… فمن يعلم؟!