تختزل الوضع اللبناني بين حين وآخر أسئلة بسيطة من نوع: لماذا لا يحقّ للبنان خوض تجربة أن يكون شخصٌ مثل جهاد أزعور، يعرف البلد والمنطقة والعالم، رئيساً للجمهوريّة؟
يكشف مثل هذا النوع من الأسئلة العمق الحقيقي، وهو عمق لا حدود له، للأزمة اللبنانية ذات الطابع الوجودي. إنّها أزمة يبدو مؤسفاً أنّ معظم القيادات المسيحيّة لا تدرك أبعادها.
تعطي فكرة عن الجهل بأبعاد الأزمة تصرّفاتٌ لنوابٍ موارنة، من الذين يتظاهرون بأنّهم من مؤيّدي جهاد أزعور. يقدّم هؤلاء أوراق اعتمادهم للحزب، بطريقة أو بأخرى، على أمل أن يرضى عنهم ويوصلهم إلى قصر بعبدا، تماماً كما فعل مع ميشال عون.
تجاوزت أزمة لبنان مسألة انتخاب رئيس للجمهوريّة لبلد يقرّر فيه الحزب منع أيّ تحقيق دولي في جريمة تفجير مرفأ بيروت كما يقرّر متى يناسبه استخدام توقيع رئيس الجمهوريّة لترسيم الحدود بين لبنان وإسرائيل
أمران يجب تذكرهما
ينسى هؤلاء أمرين. أوّلهما أنّ ميشال عون لم يصل إلى قصر بعبدا إلّا بعد خضوعه لامتحانات مستمرّة طوال عشر سنوات، وذلك منذ توقيعه وثيقة مار مخايل مع حسن نصرالله في السادس من شباط 2006. كان من بين تلك الامتحانات تغطية “التيار العوني” لحرب صيف 2006 وصولاً إلى تبرير اغتيال اللواء وسام الحسن، مروراً بموقف مخزٍ اتّخذه قائد سابق للجيش من اغتيال عنصر في الحزب الضابط الطيّار سامر حنّا بسبب تحليقه في طائرة هليكوبتر في منطقة لبنانيّة تحت سيطرة الحزب. من بين الأحداث الأخرى التي أثبت فيها ميشال عون وصهره جبران باسيل جدارتهما تأييد أحداث 7 أيار 2008، وهي أحداث تعني بين ما تعنيه وضع يد الحزب على بيروت وتهميش أهل السُّنّة فيها وإخضاع الدروز في الجبل.
أمّا الأمر الثاني الذي ينساه هؤلاء النواب الموارنة، وينساه معهم نوّاب سُنّة ومسيحيون، بينهم من يسمّون أنفسهم تغييريّين، فيتمثّل في أن لا مكان للمواقف الرمادية لدى التعاطي مع موضوع رئاسة الجمهوريّة. يعود ذلك إلى أنّ الحزب، ومن خلفه إيران، يسعى إلى فرض أمر واقع عبر معادلة واضحة. تقول المعادلة إنّه لا رئيس جديداً للجمهورية اللبنانيّة من دون موافقة الحزب. بكلام أوضح، سيتوجّب على الموارنة والمسيحيين عموماً، في حال كانوا يريدون الاحتفاظ بموقع رئيس الجمهوريّة، دفع ثمن ذلك. الثمن هو تفويض إيران اختيار الشخص الذي تعتبره مناسباً لهذا الموقع. مطلوب شخص يرضخ لسلاح الحزب ولا يتساءل عن جدواه ووظيفته!
من المفيد دائماً العودة إلى تسلسل الأحداث منذ الاجتياح الأميركي للعراق وتسليمه على صحن من فضّة إلى إيران في ربيع عام 2003. وفّرت إدارة جورج بوش الابن حياة ثانية للمشروع التوسّعي الإيراني الذي يُعتبر الحزب جزءاً لا يتجزّأ منه. لم يكن التخلّص من رفيق الحريري صدفة في 14 شباط 2005. لم تكن حرب صيف 2006 التي انتهت بانتصار للحزب على لبنان واللبنانيين حدثاً عابراً. لم يكن انتخاب ميشال عون، صاحب الخبرة الطويلة في تهجير المسيحيين من لبنان، رئيساً للجمهوريّة بمنزلة احترام للدستور ومجرّد ممارسة للّعبة الديمقراطيّة… بعد إغلاق مجلس النواب سنتين وخمسة أشهر بالتمام والكمال.
من غيَّر طبيعة المجتمع اللبناني وطبيعة لبنان عن طريق عزله عن محيطه العربي، عن سابق تصوّر وتصميم، لن يتوقّف عند منع انتخاب رئيس للجمهوريّة يليق بلبنان واللبنانيين من كلّ الطوائف والمذاهب والمناطق والطبقات الاجتماعيّة. شئنا أم أبينا، غيَّر الحزب طبيعة المجتمع الشيعي. وانطلق من نجاحه في ذلك إلى تهميش المسيحيين وترويض السُّنّة بعد جعله الدروز لا يفكّرون إلّا في كيفيّة المحافظة على موقع لهم في البلد.
هيمنة الحزب تختصر أزمة لبنان
تجاوزت أزمة لبنان مسألة انتخاب رئيس للجمهوريّة لبلد يقرّر فيه الحزب منع أيّ تحقيق دولي في جريمة تفجير مرفأ بيروت كما يقرّر متى يناسبه استخدام توقيع رئيس الجمهوريّة لترسيم الحدود بين لبنان وإسرائيل ومتى يُجري، في توقيت معيّن مدروس جيّداً، مناورة عسكرية في عرمتى على مسافة قريبة من منطقة عمليات القوّة الدولية في جنوب لبنان.
في ظلّ الموقف الإيراني الواضح الذي يؤكّد أنّ لبنان ورقة تستخدمها “الجمهوريّة الإسلاميّة” في لعبة التجاذبات مع “الشيطان الأكبر” الأميركي و”الشيطان الأصغر” الإسرائيلي، لا توجد أيّ فرصة أمام لبنان للخروج من أزمته في ظلّ وجود سلاح الحزب من جهة، واكتفاء معظم الموارنة وقسم لا بأس به من السُّنّة بتقاطعات موسمية وتحالفات عابرة لا ترتقي إلى استيعاب حقيقي لِما هو على المحكّ في بلدهم من جهة أخرى. يبدو هذا الواقع أهمّ حليف للحزب ولسيطرة إيران الكاملة على البلد، وبين أهمّ الأسباب وراء التجاهل العربي للبنان. يعرف الحزب أنّ هذا التقاطع، بين شبه أغلبية مسيحية وأكثرية لبنانية فيها دروز وسُنّة، أمر غير قابل للاستمرار. هذا ما يراهن عليه لتقطيع الوقت وتمرير المرحلة والانقضاض مجدّداً على موازين القوى الناشئة في الداخل اللبناني.
إقرأ أيضاً: لبنان كلّه يبحث عن رئيس.. أين الخطأ؟
نجحت “الجمهوريّة الإسلاميّة”، بعد ثلاثة أشهر وبضعة أيّام على صدور البيان السعودي – الصيني – الإيراني، في فصل ملفّ العلاقات بين طهران والرياض عن الملفّات الإقليمية الأخرى مثل العراق وسوريا ولبنان، على وجه التحديد. لم يحصل تطوّر يذكر، حتّى في ما يخصّ الملفّ اليمني حيث عاد الحوثيون إلى التصعيد ورفع سقف مطالبهم…
ليست انتخابات رئاسة الجمهوريّة اللبنانية سوى مرآة لصورة يرفض كثيرون في البلد الاعتراف بوجودها. كلّ ما هو مطلوب، بموجب هذه الصورة، استسلام اللبنانيين أمام واقع وضع “الجمهوريّة الإسلاميّة” في إيران يدها على موقع رئاسة الجمهوريّة في لبنان. البقيّة تفاصيل، خصوصاً أنّه لم يعد من حقّ اللبنانيين التفكير في الإتيان بشخص مثل جهاد أزعور يستطيع، وإن في حدود معيّنة، إنقاذ ما يمكن إنقاذه عبر إصلاحات اقتصاديّة وسياسيّة في بلد لا مستقبل له في ظلّ وجود سلاح الحزب في كلّ مرفق من مرافقه…
لمتابعة الكاتب على تويتر: khairallahkhai5@