لبنان كلّه يبحث عن رئيس.. أين الخطأ؟

مدة القراءة 8 د

يطلق الأميركيون اسم “الثلاثاء الكبير” على أحد أيّام الثلاثاء من شهرَي شباط وآذار في العام الذي يسبق الانتخابات الرئاسية. وهو يوم يشهد الانتخابات المفصلية داخل الحزبين الديمقراطي والجمهوري لاختيار مرشّح الحزب لرئاسة الولايات المتحدة الأميركية.
في الاقتباس اللبناني للتجربة الأميركية اليومُ هو “الأربعاء الكبير” الذي سيحدّد مصير المرشّحَين من المحورَين وسيجيب على سؤال يبحث عن أجوبة: هل يستمرّ سليمان فرنجية وجهاد أزعور بالترشّح للمعركة الرئاسية أم يفتح هذا اليوم باب البحث عن خيار آخر؟

 

يخوض لبنان بقواه السياسية النافذة صراعاً مريراً لإيصال المرشّح المفضّل لديها إلى قصر بعبدا، وذلك منذ ما قبل انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون في 30 تشرين الأول من العام الماضي. يتصارعون على هويّة الرئيس ومواصفاته، فيما الجمهورية مُثخنة بالجراح بسبب الانتهاكات الجسيمة لوثيقة الوفاق الوطني (اتفاق الطائف) كما لموادّ الدستور، لا سيّما ما يرتبط بصلاحيات رئيس الجمهورية ودور الحكومة في عصر ما بعد الطائف، حتى لا يكاد يبقى أثر للإصلاحات التي أوقفت الحرب المديدة ووحّدت البلاد. يتلهّون بالشكل ويتغافلون عن جوهر المشكلة. فلا الرئيس رئيس، ولا الحكومة حكومة، ولا الدولة قائمة إلا كما يشبه الأشباح!

بدلاً من التصارع على شخصية رئيس الجمهورية الذي لا يملك الصلاحيات التنفيذية بعد اتفاق الطائف، على القوى السياسية الالتفات إلى تطبيق اتفاق الطائف، الذي أرسى التوازن بين السلطات وبين المواقع

في الوقائع الجارية منذ سبعة أشهر، يتشكّل المشهد السياسي أخيراً بين سياديّين وممانعين، بالعنوان العامّ، ومع تنويعات كثيرة. وكلّ معسكر يخوض معركته الوجودية على رئاسة الجمهورية، وينسى الجميع أنّ الحلّ السياسي موجود في مندرجات اتفاق الطائف لعام 1989. فأنصار المرشّح التقاطعيّ جهاد أزعور، كما مؤيّدو مرشّح خطّ الممانعة سليمان فرنجية، يتحرّكون ويتصرّفون، كأنّنا في نظام رئاسي لا برلماني، وكأنّ الدستور الحالي المعدّل عام 1990 يُنيط الصلاحيات الإجرائية برئيس الجمهورية دون سواه من أشخاص السلطة التنفيذية، أو مجلس الوزراء مجتمعاً. يبدو ذلك جليّاً، من التصريحات المتناقضة والمتضاربة على طول الخطّ. فالحزب لا يريد رئيساً يطعن المقاومة، وأمّا المعارضة فتريد رئيساً يُعيد لبنان إلى رحاب المجتمع الدولي، وينقذ البلاد من الأزمتين الاقتصادية والاجتماعية. لكنّ رئيس الجمهورية بحسب الدستور لا يملك صلاحيّات مطلقة. فلا هو قادر على طعن المقاومة ولا على إنقاذ لبنان، بالقدر نفسه. والسلطة التنفيذية هي المُناط بها، رسم السياسات العامّة، وهي بيد الحكومة بكامل مكوّناتها. وأيّ رئيس حكومة محكوم حتماً بالتوازنات داخل مجلس الوزراء، فلا يملك بدوره صلاحيّات مطلقة تسمح له بالانقضاض على طرف سياسي ما، أو صياغة حلّ اقتصادي ما، من دون التوافق مع القوى السياسية الممثّلة في الحكومة كما في البرلمان. فلماذا التناحر على رئيس الجمهوريّة؟                                             

جبران يتفاوض بالنار
علينا البحث في الدوافع العميقة لكلّ معسكر على حدة، في محاولة لمعرفة الأسباب التي تجعل معركة الرئاسة مصيرية إلى هذه الدرجة، وخطيرة إلى حدّ التهديد بإجراءات غير ديمقراطية، مثل تعطيل جلسات الانتخاب إلى أن يصل المرشّح المفضّل ومهما طال الوقت، أو فكّ الشراكة الوطنية فتنحاز كلّ طائفة إلى جغرافيّتها الخاصّة.
ترى القوى المسيحية السيادية، والتيار الوطني الحرّ معها ضمناً هذه المرّة من باب التقاطع على مرشّح رئيس، أنّ انتخاب رئيس متحرّر نسبياً من هيمنة الثنائي الشيعي هو الفرصة الأخيرة لإنقاذ الدولة والنظام من الانهيار الشامل والكامل. بالطبع، يتميّز موقف النائب جبران باسيل بأنّه في صدد التفاوض بالنار مع حليفه السابق، فما يُهمّه بالدرجة الأولى، هو موقعه الثابت في السلطة الحقيقية، التي لا تقبع حصراً في موقع رئاسة الجمهورية، على الرغم من الفذلكات الدستورية في عهد الرئيس السابق ميشال عون، التي جعلت النظام اللبناني شبه رئاسي كما كان قبل الحرب الأهلية. فإن لم يكن باسيل مرشّحاً أوّل لرئاسة الجمهورية، فعلى الأقلّ، هو ناخب أوّل، بوصفه صاحب التكتّل النيابي المسيحي الأكبر (لبنان القوي)، بالتحالف مع كتلة الطاشناق، وبدعم من الحزب. وإن كان لا بدّ من وصول سليمان فرنجية، فلا بدّ بالمقابل، من إمساك التيار بمفاتيح الإدارة، وهي مدار السلطة الحقيقية التي يسعى إليها كلّ حزب. في هذا المضمار، معركة باسيل مصيرية في التيار وخارجه بعد خروج ميشال عون من القصر. لكن هل هي كذلك، للأحزاب والقوى المسيحية الأخرى؟ ما الذي يعنيه سيادياً وصول جهاد أزعور، الخبير المالي والاقتصادي إلى الموقع الماروني الأرفع؟ هل مشروعه سيادي بمعنى مجابهة الحزب؟ لو كان كذلك، فهو مرشّح تحدٍّ للثنائي الشيعي، ولن يصلوا إلى مبتغاهم، علماً أنّ أوراق اللعبة موزّعة ومبعثرة بحيث لا يمكن لأحد أن يستأثر بالشوط.

 لماذا يصرّ الحزب ومعه حركة أمل، على إيصال المرشّح سليمان فرنجية، مع أنّ الغالبية الساحقة من النواب المسيحيين تعارضه، وتعترض عليه كلّ الكتل المسيحية؟

لماذا اصرّار الثنائي على فرنجية؟
بالمقابل، لماذا يصرّ الحزب ومعه حركة أمل، على إيصال المرشّح سليمان فرنجية، مع أنّ الغالبية الساحقة من النواب المسيحيين تعارضه، وتعترض عليه كلّ الكتل المسيحية؟ ألم يصبح فرنجية بذلك مرشّح تحدٍّ للقوى المسيحية؟ فكيف يصل دون التوافق العامّ عليه، وهو أمرٌ بات غير ممكن بعد التقاطع بين كتل نيابية متنوّعة طائفياً على مرشّحٍ غيره؟ وما الذي يحقّقه مرشّح الممانعة في هذه المرحلة السياسية، غير الذي كان ينفّذه مرشّحا الممانعة السابقين إميل لحّود وميشال عون من سياسات تمالئ المقاومة، وتتحدّى ما أرساه اتفاق الطائف لجهة صلاحيات رئيس الجمهورية؟ ألم تتبدّل ظروف الصدام المحلّي والإقليمي، لا سيما بعد التسوية الرئاسية بين التيار الوطني الحرّ وتيار المستقبل عام 2016، وعقب اتفاق بكين بين المملكة العربية السعودية والجمهورية الإسلامية في إيران في آذار الماضي؟ هل المشكلة في أنّ موقع رئيس الجمهورية ثابت على مدى ستّ سنوات، وأقوى حكومة سياسياً وشعبياً لا تتجاوز ولايتها سنتين، وموقع رئيس الحكومة متغيّر؟ فلماذا عدّل النواب الدستور عام 1990، إنفاذاً لاتفاق الطائف، فتغيّر دور رئيس الجمهورية، من حاكم شبه مطلق في الجمهورية اللبنانية إلى حَكَم بين الطوائف والقوى السياسية، ومن شخصية طرفيّة هي محور المشكلات والأزمات إلى شخصيّة وسطيّة مركزية؟ لقد تغيّرت طبيعة الشخص الذي يحتلّ كرسيّ الرئاسة ستّ سنوات، من كونه القوي مارونياً أو الأقوى مسيحياً إلى الشخص الأكثر عقلانية، ونقطة التوازن في النظام. وبحسب تعبير الخبير الدستوري الوزير السابق خالد قبّاني الذي كان له دور في صياغة اتفاق الطائف وتعديلاته، وفي ابتكار الدور الجديد لرئيس الجمهورية، فإنّ ساكن قصر بعبدا بعد اتفاق الطائف: “هو رأس الدولة ورمز وحدة الوطن. تحوّل رئيس الجمهورية من فريق في الصراع إلى رمز وحدة الوطن. هو مرجعية وطنية لا طائفية ولا حزبية. ممنوع أن يكون رئيس الجمهورية إلى جانب حزب أو فريق في الصراع السياسي. عليه أن يكون محايداً لأنّه في نظام برلماني، وكلّ يوم يقع اختلاف بين مجلس النواب والحكومة. وكلّ يوم تختلف فيه القوى السياسية. هذا نظام ديمقراطي حرّ، فمن يضبط النزاع؟ يقول الدستور إنّ رئيس الجمهورية هو صاحب المقام الأسمى. هو حَكَم في الصراع بقوّة الدستور الذي أعطاه الرمزية، وأعطاه الصلاحيّات”. إن كانت ولاية رئيس الجمهورية طويلة نسبياً، فلم لا يجري تقصيرها لتصبح أربع سنوات بدلاً من ستّ؟ وليصل إلى قصر بعبدا، من يجمع الأصوات اللازمة.

إقرأ أيضاً: هل نريد العيش معاً في لبنان؟

استرجاع دور الحكومة ورئيسها
بدلاً من التصارع على شخصية رئيس الجمهورية الذي لا يملك الصلاحيات التنفيذية بعد اتفاق الطائف، على القوى السياسية الالتفات إلى تطبيق اتفاق الطائف، الذي أرسى التوازن بين السلطات وبين المواقع، وفي أقلّ تقدير، ما يتعلّق منه بالعلاقة بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة. والهدف هو تسهيل انتخاب رئيس الجمهورية متى حاز الأكثرية النيابية دون اللجوء إلى تعطيل الجلسات، لأنّه لا جدوى منه، سوى إضاعة الوقت وتبديد الفرص. وبدلاً من ذلك، استرجاع الدور الحقيقي لمجلس الوزراء الذي هو المرآة العاكسة لموازين القوى في البرلمان، حيث لا غالب ولا مغلوب. وفي نظام سياسي يتّسم بهذه الخاصيّة التوافقية، لا خوف من أيّ رئيس للجمهورية، أو أيّ رئيس للحكومة، إلا إن كان الثنائي الشيعي، يرغب حقّاً بنسف اتفاق الطائف، والعودة إلى النظام القديم، لأنّ الإمساك برجل واحد يملك كلّ الصلاحيات التنفيذية أجدى من التورّط في لعبة تضادّ المصالح داخل حكومة يملك كلّ وزير فيها حقّ التوقيع على أيّ مرسوم ذي علاقة بوزارته، ويملك تالياً قدرة التعطيل بقدر ما له من صلاحيات.

 

لمتابعة الكاتب على تويتر: HishamAlaywan64@

مواضيع ذات صلة

الصراع على سوريا -2

ليست عابرة اجتماعات لجنة الاتّصال الوزارية العربية التي عقدت في مدينة العقبة الأردنية في 14 كانون الأوّل بشأن التطوّرات في سوريا، بعد سقوط نظام بشار…

جنبلاط والشّرع: رفيقا سلاح… منذ 100 عام

دمشق في 26 كانون الثاني 2005، كنت مراسلاً لجريدة “البلد” اللبنانية أغطّي حواراً بين وليد جنبلاط وطلّاب الجامعة اليسوعية في بيروت. كان حواراً باللغة الفرنسية،…

ترامب يحيي تاريخ السّلطنة العثمانيّة

تقوم معظم الدول التي تتأثّر مصالحها مع تغييرات السياسة الأميركية بالتعاقد مع شركات اللوبيات التي لها تأثير في واشنطن، لمعرفة نوايا وتوجّهات الإدارة الأميركية الجديدة….

الأردن: 5 أسباب للقلق “السّوريّ”

“الأردن هو التالي”، مقولة سرت في بعض الأوساط، بعد سقوط نظام بشار الأسد وانهيار الحكم البعثيّ في سوريا. فلماذا سرت هذه المقولة؟ وهل من دواعٍ…