احتلّت الولايات المتحدة أفغانستان قبل أن تحتلّ العراق. ما صرنا نعرفه عن أحوال العراق قد لا نعرف ربعه عن أحوال أفغانستان. غير أنّنا نعرف أنّ الولايات المتحدة خسرت في أفغانستان أضعاف ما خسرته في العراق. بغضّ النظر عن رأينا في حركة طالبان فقد كلّفت المقاومة الأفغانية الولايات المتحدة ثمناً باهظاً.
بعد عشرين سنة كان الهروب الأميركي اعترافاً بهزيمة منكرة. ما الذي فعله الاحتلال بالأفغان ومن أجلهم؟
عادت حركة طالبان إلى الحكم. استردّت ما فقدته. يُقال “كما لو أنّ شيئاً لم يكن”، وهو قول غير صحيح. لقد دمّرت تقديرات الأميركيين بلداً خرجوا منه مهزومين من غير أن يتركوا لهم فيه أثراً سوى الخراب. هل صار العبث بحياة الشعوب اختصاصاً أميركياً؟
منذ فيتنام في سبعينيات القرن الماضي والعار يلاحق الولايات المتحدة. يركّز البعض على هزيمتها العسكرية. لكنّ تلك الهزيمة هي جزء من العار وليست العار كلّه. الجزء الأكبر من ذلك العار إنّما يكمن في أنّ الولايات المتحدة احتلّت بلداً لم يكن في حالة حرب معها وخرّبت مدنه وقتلت ناسه من أجل أن تجرّب قنابل النابالم، هديّتها إلى البشريّة. وليس في الإمكان أن تُمحى شهادة ضرب قنبلتين نوويتين على مدينتي اليابان، هيروشيما وناكازاكي، على بشاعة السلوك الأميركي وانحطاطه من الذاكرة البشرية. ما حدث في أفغانستان ومن بعدها في العراق هو تطبيق حرفيّ لما يمكن أن يقدّمه العقل السياسي الأميركي من حلول للمشكلات التي تواجهه أو التي يخترعها من أجل أن يقوم بنشاطه العدواني الذي لا يمكن في أيّة حال من الأحوال أن يكون نافعاً. هرب الأميركيون من هزيمتهم في نيويورك ليخوضوا حرباً خاسرة، استمرّت عشرين سنة، دفع ثمنها شعبٌ التهمت الحروب الجزء الأكبر من تاريخه.
احتلّت الولايات المتحدة أفغانستان قبل أن تحتلّ العراق. ما صرنا نعرفه عن أحوال العراق قد لا نعرف ربعه عن أحوال أفغانستان
طالبان التي لم تتغيّر
لا يفكّر الأميركيون بعارهم في أفغانستان. مثلما لا يفكّرون أنّهم بعد كلّ ما ارتكبوه من جرائم أعادوا لطالبان سلطتها الظلامية المطلقة. في البدء حاولوا خداع العالم بأنّ طالبان العائدة هي غير طالبان التي هربت إلى الجبال. بعد ذلك صمتوا. صارت الأخبار تأتي من أفغانستان كئيبة، وبالأخصّ على مستوى التعامل مع النساء.
لم تتخلَّ الحركة المتشدّدة عن شروطها في الحكم. فهي تعتبر تلك الشروط جوهر رسالتها. في حقيقة الأمر لم يفعل الأميركيون عبر عشرين سنة من الاحتلال سوى أنّهم زخرفوا الواقع الأفغاني بصور ألصقوها عنوة من غير أن تلتحم ببنية المجتمع الثقافية. كلّ شيء فعلوه هناك لم يكن سوى تزويق خارجيّ سرعان ما قامت حركة طالبان بإزالته لتعود قندهار رمزاً لظلام أبديّ لن تخترقه الشمس.
ضحكت الولايات المتحدة على الأفغان الذين كانت غالبيّتهم تنتظر متى تصير قادرة على الضحك على الدولة العظمى التي تعرف أنّها ستكون في مأمن من العقاب. وهنا تكمن واحدة من أعظم مآسي عصرنا. فإذا كانت حركة طالبان قد طلبت مساعدات تتمكّن من خلالها من إعادة إعمار ما خرّبته الحرب فإنّها لا تجرؤ على المطالبة بتعويضات تضع الولايات المتحدة في مكانها الحقيقي، بما هي دولة معتدية مهزومة، كانت قد ارتكبت جرائم ضدّ الإنسانية.
مَن يحاكم الرئيس الأسبق جورج بوش الابن على ما ارتكبه من جرائم؟
ليذهب الأفغان إلى الجحيم فهم أمّة مستضعَفة.
ماذا عن الأميركيين الذين كان عليهم أن يدافعوا عن كرامتهم ويعرّضوا رئيسهم للمساءلة بسبب حربه العبثيّة؟
إقرأ أيضاً: انشغل العالم بأوكرانيا.. فذهبت الصين إلى أفغانستان
سقط ألوف الجنود الأميركيين قتلى وتعرّض آلاف آخرون للإعاقة الجسدية والنفسية الدائمة وأُهدرت ثلاثة تريليونات دولار وذهبت سمعة الجيش الأميركي إلى الحضيض من أجل لا شيء. بعد عشرين سنة من الصراع عاد الأمر كما كان عليه قبل الغزو. حركة طالبان التي اُعتبرت مسؤولة عمّا حدث في نيويورك حين أخفت أسامة بن لادن عادت إلى الحكم بشروطها من غير أن تخضع لشروط أحد.
عشرون سنة ينبغي أن تُمحى من التاريخ وتُنسى كما لو أنّها ورقة تُطوى. كأنّها لا شيء. قُتل من الأفغان مَن قُتل وتشرّد مَن تشرّد. فتكت الحرب بمدنيّين لن يذكرهم أحد. فلا هم من أتباع طالبان ولا هم من مناصري الاحتلال. أمّا حامد كرزاي الذي وضعه الأميركيون رئيساً فإنّه فرّ بأمواله بعدما انتهت اللعبة.
يا لسوء حظّ الشعوب. ما حدث لم يكن سوى لعبة كلّفتها تاريخاً من الدمار الذي لا يقف عنده المتحاربون كثيراً ما دام كلّ شيء قد عاد إلى مكانه. لا أحد يسأل عن الأفغان.
*كاتب عراقي