هل يحكم ترامب أميركا من وراء القضبان؟

2023-06-12

هل يحكم ترامب أميركا من وراء القضبان؟

ما زالت الولايات المتحدة تقارب “استثناء” في تاريخها السياسي أدّى إلى انتخاب غير متوقّع لدونالد ترامب رئيساً للبلاد عام 2016. لم يُعرف عن الرجل قبل ذلك تاريخٌ في العمل السياسي إلا من تصريحات عشوائية كانت تهدف أساساً إلى إثارة الجدل وجذب المشاهدين في البرامج التلفزيونية وتعظيم نجوميّته. لم يشغل ترامب أيّ منصب سياسي، ولا حتى عمدة بلديّة صغيرة، ولم يُعرف عنه أيّ ثقافة في السياسة والتاريخ تستشرف الصفعة التي تلقّاها خصومه جميعاً الجمهوريون قبل الديمقراطيين.
استطاع رجل العقارات الكبير أن يخطف قلوب الناخبين من شرائح ودوائر ومستويات متعدّدة ومتناقضة. راح فقراء البلد يصوّتون لواحد من أكبر أغنيائه وراحت كتل بيضاء متديّنة محافظة تصفّق بشدّة لواحد من أشدّ سياسيّي أميركا شعبويّة. حتى إنّ أحزاب اليمين المتطرّف العريقة في أوروبا رأت في ترامب زعيماً روحياً وأملاً وجودياً في إنجاح ما فشلت في تسويقه منذ عقود.

ضرر عودة ترامب
الواضح أنّ مؤسّسات الولايات المتحدة (وربّما الحزب الجمهوري نفسه) تضيرها احتمالات عودة ترامب إلى البيت الأبيض في انتخابات 2024، ليس فقط لأنّه واجهة لتيار سياسي أيديولوجي عتيق في تاريخ البلاد خُيّل اندثاره بعد الحرب الأهلية (1861-1865)، بل لأنّ الولايات المتحدة نفسها تفقد توازنها ومكانتها داخل المشهد الدولي إذا ما عاد لحكمها رئيس غريزي في قراراته وعشوائي في توجّهاته وانفعالي في ردّ فعله وبدائي في قراءته للخرائط الجيوستراتيجية.
لا يعني هذا أبداً أنّ الـ 37 تهمة الموجّهة إليه في مسألة احتفاظه بوثائق سرّية هي افتراء مخطَّط. غير أنّ إمكانية نجاح النظام القضائي في الولايات المتحدة، بحِرفيّته ونزاهته وتعقُّد ضبطه من قبل السلطة التنفيذية، في إدانته، قد تكون سبباً موضوعياً لـ “عرقلة” طريقه نحو واشنطن والبيت الأبيض بالذات. ونتحدّث عن “عرقلة”، ذلك أنّ الدستور الأميركي لا يمنع مواطناً مُداناً من الترشّح للانتخابات الرئاسية. ولئن يمكن لتلك الإدانة أن تأخذ منه بعضاً من أصوات الناخبين، لكنّها أيضاً قد تكون حافزاً ومنتجاً لأصوات جديدة. 

أتى ترامب من خارج الحزب الجمهوري فاستطاع الإطاحة مع ذلك بكلّ منافسيه الجمهوريين ليستسلم الحزب للأمر الواقع ويوكل إليه مهمّة تمثيله في نزاله الانتخابي الرئاسي ضدّ مرشّحة الديمقراطيين هيلاري كلينتون

حَكَمَ ترامب أميركا كما لم يحكم رئيس من قبله. أدار البلد وفق مزاج يوميّ لا علاقة له بالفريق السياسي للحكم وبما تعمل عليه مؤسّسات الدولة حول الرئيس. جرى أنّ الوزراء داخل إدارته كانوا يراقبون حسابه على تويتر لتفقُّد استمرارهم في مناصبهم متطيّرين من تغريدة تطيح بهم. أفتى ترامب في شؤون المال والاقتصاد، وهو أمر يمكن أن يكون مفهوماً من قِبل رجل أتى من قطاع الأعمال. لكنّه أفتى أيضاً، على نحو خطير، في شؤون العسكر والأمن والصحّة، وعلى نحو أشدّ خطورة في ملفّات علاقة واشنطن مع العالم.
تتحدّث الاتّهامات عن نقله آلاف من الوثائق والمستندات، وبعضها سرّيّ جداً، وهو نفسه لم يرفع عنها السرّية حين كان رئيساً. ووفق وزارة العدل فإنّ ترامب حين غادر البيت الأبيض في كانون الأول 2021، “تأبّط” صناديق كاملة من الملفّات السرّية من البنتاغون ووكالة الاستخبارات المركزية “سي آي إيه” ووكالة الأمن القومي وغيرها من وكالات الاستخبارات. فلماذا يفعل ذلك؟
وُضعت الوثائق بشكل غير آمن في منزله في مارالاغو في فلوريدا الذي استضاف فيه مناسبات اجتماعية كبيرة شارك فيها عشرات آلاف الضيوف، بحسب لائحة الاتّهام المقدَّمة إلى محكمة فيدرالية في فلوريدا. وأظهر تلك الوثائق، ولا سيما المتعلّقة بالقوّة النووية لبلاده وبلاد حليفة، لأشخاص غير مخوّلين الاطّلاع على وثائق بهذه الأهمية ويهدّد الكشف عنها الأمن القومي الأميركي. لم تلمّح لائحة الاتّهام إلى أهداف تجسّسية أو عمالة لجهة أجنبية وراء ما ارتكبه ترامب، لكن لا شيء يمنع أن تذهب التحقيقات مذهباً بعيداً في هذا الصدد.
أتى ترامب من خارج الحزب الجمهوري فاستطاع الإطاحة مع ذلك بكلّ منافسيه الجمهوريين ليستسلم الحزب للأمر الواقع ويوكل إليه مهمّة تمثيله في نزاله الانتخابي الرئاسي ضدّ مرشّحة الديمقراطيين هيلاري كلينتون. استخدم عُدّة متطرّفة عنصرية شعبوية سوقيّة لا تستحي من السخرية من صاحب إعاقة ولا تنمّق الكلام في الحديث عن الهجرة والأجانب ولا تتردّد في الوعد بفرض “خوّات” على بلدان العالم والتوقّف نهائياً عن الإنفاق على أمم بعيدة من جيب دافع الضرائب الأميركي.

ترامب وخطيئة انتخاب أوباما
استطاع الرجل أن يزيل ما رآه “خطيئة” حين انتخب الأميركيون عام 2008 باراك أوباما، أوّل رئيس من أصول إفريقية، لقيادة بلدهم، ثمّ أعادوا عام 2012 “ارتكاب هذه المعصية” لولاية ثانية. وبدا مفارقة أن يؤكّد الأميركيون خيارهم لولايتين لصالح “الرجل الأسود”، ثمّ يذهبون عام 2016 لانتخاب رئيس وُصف بأنّه “الأكثر بياضاً” في تاريخ رؤساء الولايات المتحدة. غير أنّ تعويم ظاهرة ترامب لم تكن ذات دينامية داخلية فقط، بل إنّ شبهات كثيرة راجت بشأن تدخّل مكثّف للقراصنة الروس لإطلاق حملات حذقة داخل وسائل الإعلام الاجتماعي ضدّ المرشّحة الديمقراطية ولصالح المرشّح الجمهوري.

ارتبطت رئاسة ترامب بضجيج بشأن علاقات غير سويّة مع الخارج. أثبت تحقيق المستشار الخاص روبرت مولر في عامَي 2017-2019 أنّ روسيا تدخّلت في الانتخابات لصالح حملة ترامب. نفى ترامب هذا الأمر، إلا أنّه اضطرّ إلى التسليم بحصوله اتّساقاً مع تقارير كلّ أجهزة الأمن في البلاد، لكنّه رفض، مع ذلك، وجود علاقة بين السعي الروسي وفوزه في تلك الانتخابات. لكنّ الرجل راح بعيداً في “إعجابه” بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى درجة أنّ قمّة جمعتهما في هلسنكي في 16 تموز 2018 بقيت طيّ الكتمان في واشنطن ولم تعرف أميركا شيئاً كثيراً عمّا دار بين الرجلين. استنتجت صحافة واشنطن ضعف ترامب أمام بوتين وتساءل بعضها: هل وضع بوتين ترامب في جيبه؟
في عهد ترامب ساءت علاقات واشنطن مع الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي وكثير من الدول الحليفة (كندا والمكسيك الجارتين مثالاً). رفض مصافحة المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل ونسج علاقات متوتّرة مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وفرض على الأوروبيين تعريفات جمركية على منوال ما يفرضه على دول معادية، وهدّد بالانسحاب من “الناتو”، وراح مستشاره ستيف بانون، رائد اليمين الشعبوي، يجول في أوروبا محرّضاً يمينها المتطرّف من دون حرج. 
في هذا العهد بالذات أصبح ترامب صديقاً حميماً لزعيم كوريا الشمالية كيم جونغ أون الذي التقاه ثلاث مرّات. بدا أيضاً نصيراً استثنائياً للسعودية ودول الخليج، لكنّه لم يحرّك ساكناً حين تعرّضت منشآت أرامكو في 14 أيلول 2019 لقصف صاروخي ذي روائح إيرانية. قال حينها “عليهم أن يدافعوا عن أنفسهم”. في عهده انسحبت واشنطن من الاتفاق النووي فوصل تخصيب اليورانيوم في إيران إلى نسبة 60 في المئة بعدما قيّده الاتفاق وجعله لا يتجاوز 3.67 في المئة. وفي نهاية عهده نشر ترامب تغريدات حرّضت أنصاره على اجتياح الكونغرس، فكاد البلد يعود إلى الحرب الأهلية من جديد. 

إقرأ أيضاً: ترامب رئيساً لأميركا من داخل الزنزانة

تأتي محاكمة ترامب، غير المسبوقة لرئيس أميركي سابق، في ظلّ تحوّلات دولية هائلة تلعب الولايات المتحدة دوراً محورياً داخلها. أعاد الرئيس الأميركي جو بايدن ترميم ما “ارتكبه” سلفه، فأعاد اللحمة مع الناتو وأوروبا وأعاد الوصل مع الحلفاء في أقصى آسيا ومع الحلفاء في الدوائر القريبة، وهو ما أعاد الروح إلى المنظومة الغربية وإلى حلف شمال الأطلسي الذي كان ماكرون قد وصفه في تشرين الثاني 2019 بأنّه في “موت سريري”. تأتي المحاكمة في ظلّ حرب ساخنة ضدّ روسيا في أوكرانيا وأخرى باردة ضدّ الصين في ميادين العالم، بما فيها داخل منطقة المحيطين الهادئ والهندي. 
وفق هذه الخلفيّات سيكون لمسألة احتفاظ ترامب بالوثائق السرّية وقع ثقيل داخل محكمة تتوعّده بما قد يصل إلى السجن لمدّة 20 عاماً. الحدث يتجاوز مسائل السياسة الداخلية إلى ما يمكن أن يرقى إلى أكبر فضيحة تهدّد الأمن الأميركي يرتكبها رئيس كان مالئ الدنيا وشاغل الناس في أميركا والعالم لأربع سنوات، وما زال، وقد يسيل حبر كثير بشأن الرجل وأميركا خلال الأشهر التي تفصلنا عن رئاسيّات 2024.

 

لمتابعة الكاتب على تويتر: mohamadkawas@

مواضيع ذات صلة

هكذا وصلت إسرائيل إلى “البايجرز” واللاسلكيّ

في 7 أيلول الجاري، كان قائد “المنطقة الوسطى” في الجيش الأميركي الجنرال إريك كوريللا في إسرائيل. في اليوم التالي، تمّت عملية مصياف. أكبر عملية إسرائيلية…

من يملك شجاعة الاعتراف “بالهزيمة” التقنيّة؟

.. علينا جميعاً وفي مقدَّمنا الأمين العام للحزب السيد حسن نصر الله أن نمتلك الشجاعة والجسارة للقول إنّ العدوّ الإسرائيلي هزمنا تقنياً ويتفوّق علينا في…

المرشد في استحضار التّاريخ دون المستقبل

“غد بظهر الغيب واليوم لي     وكم يخيب الظنّ بالمقبل ولست بالغافل حتى أرى         جمال دنياي ولا أجتلي لبست ثوب العيش لم أستشِر    وحرت فيه بين…

لبنان… الرأي قبل شجاعة الشجعان

لم يكد دخان ونار التفجيرات الصغيرة في أجهزة النداء القديمة، المعروفة باسم “بيجر” يهدآن، حتى اندلعت موجة نارية جديدة، مستهدفة هذه المرة أجهزة الجوال، وغيرها…