لا تعرف الديانات الإبراهيمية معجزات إلاّ للأنبياء! لكنّ المهمّات التي يكون على رئيس الجمهورية اللبنانية الجديد، وهذا إذا كان أو صار، تدخل كلّها في المعجزات، التي لا يملك القيام بها إلاّ رسولّ أو قدّيس. ميزة سليمان فرنجية الذي استمعنا إليه مساء الأحد بعد طول انتظارٍ أو غياب أنّه عريقٌ في العائلة السياسية، وفي الطبقة السياسية المتمترسة في المشهد السياسي اللبناني بعد الطائف. أمّا منافسه جهاد أزعور فليست له هاتان الميزتان، وقد جاء إلى وزارة المالية في حكومة الرئيس السنيورة الأولى بحكم التخصّص والتجربة في عالم المال والأعمال. وقد يظنّ المتطلّع إلى المشهد السياسي أنّ ذلك يمكن أن يكون ميزةً له، باعتبار أنّ غالبية الشعب اللبناني ومنذ العام 2019 على الأقل تريد التغيير، أو الخروج من أسر الطبقة السياسية. بيد أنّ ذلك ما شفع له حتى لدى “التغييريّين” الذين ما حسم معظمهم الأمر لصالحه، تارةً لأنّه شارك في حكومة السنيورة، وطوراً للاشتباه في علاقاته الخارجية، والسبب الثالث أنّ الكتل المسيحية التي تدعمه هي جزءٌ من الطبقة السياسية التي لا يحبّها التغييريون؛ وبالطبع لا يحبّها ولا يحبّه الثنائي الشيعي.
فرنجية وورقة الملاحظات
للمرّة الأولى يتكلّم الوزير السابق سليمان فرنجية وأمامه ورقة ملاحظات، وهذه واقعة ليست عادية في حالته، فهو يتحدّث وبتبسّط في العادة على البديهة أو ارتجالاً. لكنّ الورقة اللعينة لم تساعده كثيراً. فقد انصرف للهجوم على منافسه وعلى الذين لم يؤيّدوه. ومن أبرز ما يعلق في الذهن من كلامه القصير أنّه مع الدستور بما في ذلك اللامركزية الإدارية التي يحبّها المسيحيون، وأنّه سيتعاون مع رئيس الحكومة، وحريص على وحدة لبنان بخلاف خصومه الذين يريدون التقسيم، والمفاجئ أو غير المفاجئ أنّه عربي وخصومه ليسوا “عروبييّن” مثله. واللبنانيون لا يعرفون من عروبته إلاّ علاقته الخاصة أباً عن جدّ بالرئيس السوري. وما ذكر ميزاته الأخرى وأهمّها أنّ “المقاومة” تطمئن إليه. وما عاد اللبنانيون يذكرون” المقاومة” كثيراً، بل يذكرون “الثنائي الشيعي” الذي يتحكّم بالقرار السياسي والنيابي( فتح مجلس النواب أو إغلاقه). وقد صبر الحزب المسلَّح على جبران باسيل طويلاً، لكنه اختار دعم منافس فرنجية لعلةٍ في نفس يعقوب، فصارت كثرة من النواب المسيحيين على اختلاف كتلهم وعدم اتفاقها على شيء في السابق، مع جهاد أزعور.
انتخاب أزعور أو فرنجية معجزة الآن على الأقلّ. لكنّ اللبنانيين يحتاجون للإنقاذ إلى عدّة معجزات حتى في حالة انتخاب الرئيس
لماذا لم يتكلّم جهاد أزعور عن نواياه وبرنامجه، واكتفى بسمعته وخبرته؟ ألأنّه أراد أن لا يزعج أحداً ولا يضيع أصواتاً محتملة؟ أم لأنّه ما أراد تعظيم التوقّعات، وهو يعلم أنّ اللبنانيين ينتظرون منه كل شيء بعد أن لم يعُدْ لديهم شيء، بينما لا ينتظرون الكثير من فرنجية الذي يعرفونه باطناً وظاهراً.
على أي حال، كل هذه التخمينات لم تصح، أو أنها ما عادت صحيحة فقد أصدر الدكتور جهاد أزعور بياناً أخيراً، مدفوعاً ربما بكلام فرنجية. وهو بيانٌ متميزٌ بالفعل. لستُ في معرض التمدح، بل في معرض التحديد للمشكلات وآفاق الحلول. وما كان جهاد أزعور المرشح والإنسان والخبير الاقتصادي متشائماً بل يبشّ بيانه ويبث التفاؤل. المطلوب الإصلاح والإصلاح العاجل. والمطلوب تجديد تجربة لبنان الناجح. فأزعور ليس من عائلة سياسية، ولا كان حزبياً. لكنّ التجربة اللبنانية المنفتحة والأسرة الحريصة على التعليم، كل ذلك قاد للتعلم وللآفاق الرحبة وللسير في سبل التقدم العلمي والإنساني. لندع الانقسامات وراءنا ونسعى بالإصلاح والعقلانية للخروج من العزلة أو نختنق بالمجاعة وبالهجرة.
بيان أزعور بسيط وواضح ومؤثر في النخب، لكنّ هل يؤثر في النواب؟ لا أظن ذلك لشدة التحزب، أو للخواء الوطني والإنساني. وهناك استثناءان، الأول مع كتلة وليد جنبلاط التي امتلكت حرية الحركة نسبياً بسبب إطلاقية زعامة قيادتهم ضمن طائفتها، وقد اختار الزعيم الوقوف مع الجديد، رغم المخاوف والتحالفات المعهودة.
الاستثناء الآخر هو الاستثناء السنّيّ. فجمهورهم في معظمه ضدّ الثنائي بسبب تاريخ الآلام الطويل. لكنّ عشرةً منهم، أي أكثر من الثلث اختاروا تجاهل الماضي والحاضر ومعاناة الجمهور، ومضوا باتّجاه الثنائي، وتفرّق الآخرون شراذم للمصالح المستقرة، والأهواء الشخصية، فما ذهب باتجاه أزعور غير قلّة منهم!
كف عفريت
إنّما لماذا يصرُّ الثنائي عملياً على عدم انتخاب رئيسٍ الآن؟ لأنّ المنطقة كلها على كف عفريت، ولم ينحسم شيء بعد. فالاتفاق السعودي- الإيراني ما ظهرت آثاره، كما لم يُعرف إن كان للاهتمام بلبنان نصيبٌ فيه. والمشهد السوري مع عودة الاعتراف العربي، لم يتغير، رغم صمود النظام وبقائه. والملف النووي مع أميركا ما تزال المراوحة غالبةً عليه. والحكومة الإسرائيلية المتطرفة تريد الصدام ولا تقبل بالحلول الوسط، والاتفاق على الحدود البحرية ما أثر حتى الآن غازاً ولا بترولاً ولا يعد بشيئ في المدى القريب. وهكذا يصبح الصبر مفتاح الفرج، كما يقال، أو أنه لا يضطر الثنائي إلى تنازُلٍ لا ثمن له. أنا لا أصدّق أنّ الحزب خائفٌ على سلاحه من أزعور. ولا هو خائف على مصانع الكبتاغون أو قهر صندوق النقد الدولي. وإنما هو التماس الظروف الأفضل، ومَن صبر ظفر. الجديد على الحزب بالفعل، رغم التقدّم الإيراني المحسوس في سائر الملفات، أنّ هناك إجماعاً مسيحياً ضده. السنّة انكسروا وما عادوا بيضة قبّان، والمسيحيون مصرُّون وليس في مواجهة الحزب؛ بل وفي مواجهة فرنسا. هناك من يحذّرهم من العزلة، وهم يعتبرون أنّ خصمهم هو المعزول.
انتخاب أزعور أو فرنجية معجزة الآن على الأقلّ. لكنّ اللبنانيين يحتاجون للإنقاذ إلى عدّة معجزات حتى في حالة انتخاب الرئيس. من يحلّ الأزمة المالية والمعيشية، ومن يأتي بالكهرباء، ومن يعيد الأسواق إلى حيويتّها، ومن يتصدى لتأزمات اللجوء السوري، ومن يتصدى لإفراغ البلاد من شبابها؟ كلها أزمات متراكمة ومتراكبة ولا ضوء في آخر النفق. لا اعتماد إلاّ على الدولارات التي يحوّلها الشباب والكهول من ديار الهجرة والاغتراب.
إقرأ أيضاً: لبنان الرهينة: هل الحزب قَدَرٌ لا مَرَدَّ له؟
فرنجية ليست عنده مشكلة، فهذه حرفته، ولا أحد يسأله فشل أو نجح. لكنّني وسط هذه الظروف المستحيلة أحسب لجهاد أزعور شجاعته وطموحه ورؤيته الواضحة، لكنه مضطرٌّ أيضاً للصبر بانتظار المعجزة. إنما كما نعلم، ففي عالم اليوم أصبحت المعجزات نادرة، نُدرة المال في أيدي اللبنانيين! ولا حول ولا قوة إلاّ بالله.
لمتابعة الكاتب على تويتر: RidwanAlsayyid@