من آيات القلق السنّيّ في لبنان ذلك الاحتفاء المبالَغ به بانتصارات فريق “الرياضي” في كرة السلّة. وكأنّه نصر في غزوات حربيّة وليس في بطولات رياضية.
دائماً ما كان الرياضي “قضيّة سنّيّة” في بيروت ولبنان. لكنّ المقارنة بين الاحتفالات في السنوات السابقة، وما يحصل في السنوات الأخيرة، تُظهر أنّ الخوف الوجودي عند المسيحيّين في زمن الوصاية السورية، الذي قادهم الى اعتبار كرة السلّة متنفّسهم وفضاءهم الخاص، انتقل اليوم إلى السُّنّة.
فكما تكتّل المسيحيّون ساسةً ونُخباً وجمهوراً خلف نادي الحكمة بين منتصف التسعينيّات والسنوات الأولى من مطلع الألفية الثانية للتعبير عن تلك الهواجس، صار ساسة السُّنّة ونُخبهم وجمهورهم يتسابقون للاحتفال بانتصارات نادي “الرياضي” أكثر من جمهوره الحقيقي. فهو بالنسبة إليهم ذاك البطل في زمن الخيبات المتواصلة. وبالمثل أيضاً الاحتفالات التي عمّت شوارع بيروت وطرابلس وصيدا احتفاءً بفوز الرئيس التركي رجب طيّب إردوغان بولاية رئاسيّة ثانية، والتي لم تكن إلّا تعبيراً عن القلق السنّيّ، على الرغم من أنّ الكثير من السُّنّة يعتبرون إردوغان حامي الهويّة الإسلامية في مواجهة “الإسلاموفوبيا” العالمية.
من آيات القلق السنّيّ في لبنان ذلك الاحتفاء المبالَغ به بانتصارات فريق “الرياضي” في كرة السلّة. وكأنّه نصر في غزوات حربيّة وليس في بطولات رياضية
المشهدية الاحتفالية السنّيّة بالأمس تعيدنا بالذاكرة إلى احتفالات شبيهة عقب انتصار قوى 14 آذار في انتخابات عام 2005، كانت تعبيراً عن قلق سنّيّ عميق أحدثه اغتيال رفيق الحريري. ومثلها أيضاً الاحتفالات عقب انتخابات 2009، التي كانت ردّاً على “غزوة” 7 أيّار 2008.
بيد أنّ الخيبة السنّيّة التي تجترّ نفسها منذ الانقلاب على حكومة سعد الحريري عام 2011 جعلت السُّنّة غير مُبالين بانتخابات 2018 ولا انتخابات 2022، اللتين لم تشهدا مظاهر احتفالية شعبية على الرغم من الأمل بالتغيير الذي وُلد من رحم 17 تشرين 2019. ذلك أنّهم أمّة جُرح كبرياؤها كثيراً فصارت تبحث في مشارق الأرض ومغاربها عن بطل يبدّد قلقها.
قلق جمعيّ وفرديّ
يمكن تلمّس القلق الفردي أيضاً عند السُّنّة في غياب البعض عن استذكار مفتي الجمهوريّة حسن خالد في ذكرى استشهاده بعكس ما جرت العادة، وذلك عائد إلى القناعة التي تشكّلت لديهم بأنّ النظام السوري لم يعُد إلى الجامعة العربية فقط، بل إلى لبنان أيضاً، وأنّه لن يمرّ وقت طويل حتّى يعود قصر المهاجرين في دمشق موئلاً للساسة اللبنانيّين.
دفعت هذه القناعة بالكثير من رجال الدين والمغرّدين والناشطين إلى القيام بهجوم استباقي يعكس مدى الشعور بالقلق من إمكانية وضع مصير السُّنّة في يد النظام السوري مرّة جديدة أو “سورنة السُّنّة”، ولا سيّما مع عودة ظهور بعض النماذج والودائع الأسديّة في الساحة السنّيّة بالذّات، والحملات الإعلامية التي تحاول إقناع الرأي العامّ بأنّ “الأسد راجع”.
يمكن رؤية هذا القلق أيضاً في امتناع النوّاب والوزراء السُّنّة عن إبداء الرأي في الاستعراض العسكري الذي أقامه الحزب على الحدود مع فلسطين المحتلّة، ما خلا النائب أشرف ريفي الذي أحرق كلّ مراكبه مع الحزب منذ زمن بهدف بناء شعبية له، والتراجع عن ذلك يُعدّ بمنزلة انتحار سياسي له. وذلك بعكس ما هو الحال عند المسيحيّين الذين أبدوا موقفاً رافضاً شبه جامع من ساحة النجمة.
أمّا على الصعيد الجمعيّ فكلّ مظاهر التعبير عند السُّنّة تُبرز هذا القلق، بدءاً من قضية تأخير التوقيت الصيفي، التي كادت تتحوّل إلى صراع أهليّ سنّيّ – مسيحي. فمع أنّ ردّة الفعل المسيحيّة الحادّة كانت موجّهة إلى الثنائي الشيعي، وتستبطن رسالة أبعد من قضيّة التوقيت بكثير، إلّا أنّ الجمهور السنّيّ أخذ القضية بصدره، وطغى الانفعال على ردّات فعله في تعبير واضح عن مدى القلق الوجودي الذي يعتمر في دواخله. في حين أنّ ردّة الفعل الشعبية عند الشيعة كانت محدودة جدّاً ليس لأنّ الرئيس نبيه برّي والحزب أرادا ذلك فحسب، بل ببساطة لأنّهم غير قلقين، فالنظام والدولة بأسرها معهم. وآخر هذه المظاهر هو ما حصل على الشاطئ الصيداوي، الذي بيّن أنّ القلق السنّيّ بلغ مديات غير مسبوقة، ووصل حدّ محاولة اختراع حيّز خاصّ للسُّنّة ولثقافتهم والدفاع عنه. نحن لا نتحدّث هنا عن المجموعة التي نزلت إلى الشارع للتصدّي للتظاهرة النسويّة، بل عن تشكّل ما يمكن اعتباره رأياً عامّاً سنّيّاً يدافع عن “الخصوصيّة السنّيّة”. وهذا التعبير عدا عن كونه أقلّويّاً لم يعرفه السُّنّة قبل ذلك أبداً، فدائماً ما كان الآخرون يتخوّفون من تأثيرهم على خصوصيّتهم وثقافتهم وليس العكس.
يمكن تلمّس القلق الفردي عند السُّنّة في غياب البعض عن استذكار مفتي الجمهوريّة حسن خالد في ذكرى استشهاده بعكس ما جرت العادة
قمّة جدّة.. وعودة الأسد
تابع سُنّة لبنان وقائع القمّة العربية بقلق بالغ، وهم يرَوْن الرئيس السوري بشّار الأسد يجلس وسط القادة والزعماء العرب. الكثير من ساستهم ونخبهم فضّل الركون إلى الصمت. في حين عمد القليل ممّن أدلوا بتعليقات إلى التركيز على الرؤية السعودية 2030 التي يقودها وليّ عهد المملكة الأمير محمد بن سلمان، وتهرّبوا من الحديث عن النظام السوري.
انسحاب جماعيّ
في واقع الحال ليس هذا القلق وليد هذه التحوّلات بقدْر ما هو شعور عام يتصاعد بحدّة عند السُّنّة في السنوات الأخيرة على وقع توالي الانكسارات والخيبات، والفراغ الزعاماتيّ والسياسي السنّيّ، والذي ما عاد يمكن تجاهله أو توريته، فالصراع على الرئاسة بات واضحاً أنّه محصور بين الثنائي الشيعي والثلاثي المسيحي الماروني، وأمّا السُّنّة فهم خارجه تماماً. فلا زوّار منهم لباريس، وهم آخر من يُزار من الموفدين العرب والأجانب.
حتّى هذه الزيارات يغلب عليها الطابع البروتوكولي ومراعاة التوازنات الطائفية اللبنانية. لن نجد موقفاً واحداً لأيّ سياسي أو نائب سنّيّ من غير أصدقاء الحزب يمكن البناء عليه. فلا هم مع ولا ضدّ أيّ من الخيارات المطروحة. يبدو الأمر في ظاهره إيجابي، لكنّه في مضمونه يعبّر عن قلق عميق. أبعد من قضية الرئاسة، ما هو موقف السُّنّة من الخيارات المطروحة لتغيير النظام التي تُبحث في عدّة دوائر محليّة ودوليّة؟
ربّ قائل إنّ السُّنّة هم مع اتّفاق الطائف، وهذا صحيح. لكنّه عندما طُرح على بساط البحث ما تحرّكوا للدفاع عنه إلّا بعد تدخّل السعودية لاستنهاض همَمِهم الفاترة، إذ بدا السُّنّة وكأنّهم في حالة انسحاب جماعي من الشأن العامّ، سواء في السياسة أو الاقتصاد أو الاجتماع أو الثقافة أو التعليم.
إقرأ أيضاً: النوّاب السُّنّة: بيت بمنازل كثيرة
يقول الروائي الجزائري واسيني الأعرج: “الهويّات التي لا تجد تعبيرها الوطني والقومي تصبح قلقة، مرتبكة، في حالة استنفار دائم وانتظارات شديدة الحيرة والخطورة، وتميل نحو الرؤى الضيّقة، وعرضة لمختلف الانزلاقات. وقد تصمت مؤقّتاً محتضنة غليانها، أو تحتجّ سلميّاً للتذكير بوجودها، أو بعنف عندما لا يتمّ الإصغاء لحاجاتها الثقافية والتاريخية”. والقلق السنّيّ هو مزيج من نوعيْن: واحد فردي يتمثّل بالخوف على المستقبل السياسي الفردي من أيّ خطوة لا توزَن بميزان الصائغ. والآخر جمعيّ يتمثّل بالخوف على مستقبل السُّنّة بشكل عام في النظام والمعادلات السياسية الجديدة، ولا سيّما بعد التحوّلات الأخيرة.