خليّة شيوعيّي المزارع النسائيّة.. وتوريث العقيدة للأبناء

مدة القراءة 7 د

تروي هذه السلسلة من الحلقات سيرة تحوّلات ما كان يسمّى “ساحل النصارى” في القرن التاسع عشر وبدايات العشرين. وسُمّي تسمية إدارية محايدة، وهي ساحل المتن الجنوبي، بعد نشوء الدولة اللبنانية الحديثة، قبل أن يصير ضاحية بيروت الجنوبية. وبعد تسميته “النوّارة” أثناء “انتفاضة” 6 شباط 1984، سُمّي الضاحية، بلا صفة ولا إضافة، أو ضاحية حزب الله ومعقله ومربّعه الأمني وبيئته اللصيقة أو الحاضنة.

تصف حلقات هذه الرواية العمران والحياة والعلاقات الاجتماعية في قرى ساحل المتن الجنوبي (الشيّاح، الغبيري، حارة حريك، المريجة، وبرج البراجنة) قبل اندثار مجتمعها الزراعي، أو الريفي البلدي والعائلي المستقرّ، وتحوُّلها إلى أحياء مكتظّة بمهاجرين من أرياف الجنوب والبقاع، وكذلك تحوُّل تلك القرى إلى مجتمع ضواحٍ لبيروت منذ خمسينيات القرن العشرين وفي أزمنة الحروب الأهلية (1975- 1990) وبعدها.

المادّة الرئيسية لهذه الحلقات هي عشرات شهادات شفهيّة رواها أشخاص من سكّان تلك القرى الساحلية ومن أحياء ضاحية بيروت الجنوبية. وقد أنشأتُ من تلك الشهادات وسواها من المصادر رواية سوسيولوجية تسجيليّة عن تحوّلات المجتمع وأنماط العمران والعيش في ساحل المتن الجنوبي.

هنا الحلقة الرابعة عن قدامى الشيوعيّين في سقي حارة حريك أو مزارعها.

القوّة البدنية والعضلية كانت من شيم الرفاق الشيوعيين، إلى جانب تحدّرهم من عائلات فقيرة في أرياف مسيحية طرفيّة

شيوعيّة عائليّة ومزارع

في صالون بيته الجديد بمنصوريّة المتن، روى ميخائيل عون (1935 – 2019) مقتطفات من سِيَر الشيوعيين الذين نزلوا في سقي حارة حريك، أي مزارعها، منذ مطالع ثلاثينيات القرن العشرين:

– حنّا الزرقا، كان من طلائعهم قبل والد الراوي ميخائيل عون. وكان الزرقا عامل مطبعة، ومن جيل الشيوعي والنقابي المعروف حتى السبعينيّات في بيروت، مصطفى العريس. ونزل الزرقا في السقي وافداً من منطقة جزّين. وعلى هدْيِه وطريقه نشأ أولاده جورج وجوزف والياس، فانتموا إلى حزبه الشيوعي.

– جان عبّود، وفَد من قرية عين كفاع في بلاد جبيل إلى السقي، قبل انتقاله وعائلته منه بعد سنوات للإقامة في بلدة الحدث القريبة. وأولاده بدورهم انتموا إلى حزب والدهم.

– سركيس سعادة، جاء في الأربعينيات من قرية جاج في بلاد جبيل أيضاً، فنزل في السقي حيث عمل دهّاناً وانتمى إلى حزب الرفاق، فتبعه في هذا أبناؤه نسيب وجوزف ونوال التي انضوت في فرقة فتيات الحزب الشيوعي ونسائه في حارة حريك الخمسينيات والستّينيات.

– داوود الأسمر، كان جندياً في الجيش اللبناني. وفي مطلع الخمسينيات نزل في السقي، قادماً من قرية كفرحونة القريبة من جزّين، فتزوّج امرأة من عائلة سليم الشيعية في حارة حريك، وكان شيوعياً في عداد خليّة سرّية في الجيش اللبناني، قبل تقاعده من الخدمة العسكرية.

– إسبر البيطار (1925 – 1993)، كان من أعضاء الخليّة الشيوعية السرّية في الجيش. نزل ومعه أخوه في السقي مطلع الخمسينيات، قادمَيْن من بلدة عندقت العكّارية الشمالية. أخوه الشيوعي تزوّج شقيقة ميخائيل عون التي انضمّت إلى الخليّة النسائية الشيوعية، شأن زوجة البيطار، وهي من آل شديد. وروى البيطار سيرته لرفيقه محمد دكروب الذي كتبها تحت عنوان “مذكّرات أبو فريد: صفحات من تاريخ المقاومة الوطنية والانتفاضة ضدّ كميل شمعون (1958)”، وصدرت عن دار الفارابي في بيروت عام 2011.

تشي هذه المذكّرات بأنّ القوّة البدنية والعضلية كانت من شيم أولئك الرفاق الشيوعيين، إلى جانب تحدّرهم من عائلات فقيرة في أرياف مسيحية طرفيّة. فالبيطار مثلاً كان مدرّباً في مدرسة القتال البدني في الجيش اللبناني. وعلى هذا النهج تولّى التدريب في مركز الحزب الشيوعي في الطريق الجديدة أثناء “ثورة” 1958، فأحيا مباراة للمصارعة الحرّة في ملعب مدرسة البرّ والإحسان الرسمية.

روى عون أنّ كثرة الشيوعيين في سقي حارة حريك، وكانوا مسيحيين في غالبيّتهم الساحقة، كانت تثير حفيظة أهالي حارة حريك الضيعة أو البلدة وسكّانها، فكانوا ينفرون منهم ويخافونهم، فيقولون إنّهم ملحدون كفرة

– علي غربية، الطبيب الشيعي وزوج حورية غربية، وابنه الطبيب أحمد غربية كانو أيضاً من الرفاق الشيوعيين في سقي حارة حريك. وفَد غربية الأب من النبطية مطلع ستّينيات القرن العشرين، وشيّد بناية إلى جانب بناية ميخائيل عون وأهله.

– الخليّة النسائيّة، انضوت فيها زوجات الشيوعيين وبناتهم. ومنهم نوال سعادة، جورية غريبة، سلوى الأسمر التي حصلت على دكتوراه في الطبّ من إحدى جامعات الاتحاد السوفيتي.

تبيّن هذه الشذرات من سِيَر شيوعيّي حارة حريك أنّهم نزلوا جميعاً في سقيها الزراعي. وكانت الروابط العائلية والأسرية المباشرة نواة لُحمتهم. إضافة إلى أنّ الأبناء كانوا يرِثون عقيدتهم وانتماءهم الحزبي عن آبائهم.

عودة إلى المنابت

روى ميخائيل عون، وارث الشيوعية عن والده، أنّ أيّاً من هذه العائلات الشيوعية النازلة في سقي حارة حريك بين ثلاثينيات القرن العشرين وستّينياته، لم تنقل سجلّ قيد نفوسها الإداري والانتخابي من الدائرة المسجّلة فيها والمنطقة التي وفدت منها، إلى دائرة نفوس موطنها الجديد في حارة حريك.

وحدها عائلة ميخائيل عون من العائلات الشيوعية فعلت ذلك. أمّا عائلات الرفاق الأخرى، فقد يكون بقاء سجلّ قيد نفوسها في منابتها الأولى، من عوامل استسهالها مغادرة موطن إقامتها الجديد، إلى ديار تلك المنابت قبل بدايات الحرب الأهلية سنة 1975، التي أدّت أخيراً إلى جلاء المسيحيين تماماً من حارة حريك إلى مناطق الصفاء الطائفي المسيحي، حيث باشروا أو استأنفوا حياتهم هناك من جديد.

أمّا والد الراوي ميخائيل عون وقريبه نعيم عون (والد الجنرال والرئيس ميشال عون) وأخوه وأبناؤهم، فتقطّعت صلاتهم بديارهم ومنابتهم الأصلية واندثرت بعد نقلهم قيد نفوسهم إلى سجلّ حارة حريك التي استمرّ ميخائيل عون وأهله مقيمين فيها حتى أواسط ثمانينيات القرن العشرين.

انتُخب ابن ميخائيل، سمير عون، رئيس بلدية في العشريّة الأولى من الألفية الثالثة، حينما لم يبقَ في حارة حريك مسيحيّ واحد. فحتى سمير عون كان يقيم خارج الحارة، ويأتي إلى مكتبه في مبنى بلديّتها في أوقات الدوام الرسمي.

شيوعيّو الأمس

انتسب ميخائيل عون إلى الحزب الشيوعي في تموز 1952. ونقلاً عن والده روى أنّ خليّة شيوعية قديمة كانت في الثلاثينيات ناشطة في نواة الشيّاح السكنية، لجهة عين الرمّانة القريبة من سقي حارة حريك. وهناك كان منزل إميل الشمالي، الذي ورث شيوعيّته عن والده فؤاد الشمالي الأمين العامّ الأوّل للحزب الشيوعي اللبناني، بعد انفصاله عن الحزب الشيوعي السوري.

إقرأ أيضاً: مزارع حارة حريك.. وميشال عون يحطّم ملحمة والده

كان من أعضاء خليّة أو فرقة الشيّاح شابّ من آل صفير، وآخَر من عائلة علامة الشيعية في الشيّاح، أي الغبيري لاحقاً بعد انفصالها بلديّاً عن الشيّاح. وتعرّف الراوي عون إليهما في طفولته، حين بدأ تعلّمه في مدرسة الشيّاح الرسمية التي كان الشابّان طالبين شيوعيَّين ناشطين ويتأهّبان لإنهاء سنتهما الدراسية الأخيرة فيها.
كان توزيع جريدة الحزب وبياناته على أبواب المعامل من نشاطات شيوعيّي الخمسينيات في ساحل المتن الجنوبي. فإلى معمل جبر في سقي حارة حريك، وبعض مصانع النسيج في الحدث والحازمية، كان معمل غندور في الشيّاح مقابل معمل “الريحة” (العطور) الذي كان يملكه فرنسيون ولا يتجاوز عدد عمّاله الثمانية، وتُنقل إليه قشور الرمّان وزهر العنبر من الحدث وحارة حريك لتصنيع العطور فيه.
روى عون أنّ كثرة الشيوعيين في سقي حارة حريك، وكانوا مسيحيين في غالبيّتهم الساحقة، كانت تثير حفيظة أهالي حارة حريك الضيعة أو البلدة وسكّانها، فكانوا ينفرون منهم ويخافونهم، فيقولون إنّهم ملحدون كفرة ويسعون إلى تأميم الأملاك الخاصّة. ومن أصحاب هذه الأقاويل امرأة وزوجها الفقير من آل عون (قريبة ميشال عون، الجنرال لاحقاً). وهما كانا يحذّران الناس من دخول منزل قريبهما الشيوعي سعيد عون، قائلَين لهم إنّه سوف يؤمّم أملاكهم. فما كان من والد الراوي إلا أن قال للمرأة الفقيرة ساخراً: ماذا لديك من الأملاك يا (…) كي تخافي عليها من التأميم؟!

أمّا الراوي ميخائيل الذي كان وأمثاله من الشيوعيين ينشطون في كتابة الشعارات ليلاً على جدران منازل حارة حريك في أيام من الستّينيات، فقد خرج مختار الحارة مرّة من بيته ورآه يكتب على أحد جدرانه: “ارفعوا أيديكم عن كوريا”، فصرخ به المختار قائلاً: “أنا رفعت يدي عن كوريا، فارفع أنت يديك عن بيتي”.

مواضيع ذات صلة

سجون داعش… متحف افتراضيّ لحكايا الجرائم

قبل كلّ هذه الموجة العسكرية الجديدة في سوريا، وعودة “جبهة النصرة” المولودة من رحم تنظيم “داعش”، باسمها الجديد: “هيئة تحرير الشام”، وقبل التطوّرات الأخيرة التي…

مهرجان BAFF يضيء على “روح” لبنان… في لحظة موت

يقدّم مهرجان BAFF هذا العام، الذي انطلق اليوم الإثنين، عدداً من الأفلام التي تحيّي “طرابلس عاصمة الثقافة العربية” و”أسرار مملكة بيبلوس” و”المكتبة الشرقية إن حكت”…

بيروت تتنفّس الصّعداء: سينما… وبوح النّازحين

بدأت الحياة الثقافية تتنفّس الصعداء في لبنان وإن بخجل، بعد شلل قسري تامّ منذ أواخر أيلول الماضي وتوسّع الحرب الإسرائيلية على لبنان وتخطّيها الحدود إلى…

فيلم “أرزة”: بارقة أمل لبنانيّة… من مصر إلى الأوسكار

أينما يحلّ فيلم “أرزة” اللبناني (إخراج ميرا شعيب وتأليف فيصل سام شعيب ولؤي خريش وإنتاج علي العربي) يمنح المشاهد، وخصوصاً اللبنانيين، الكثير من الأمل. فعدا…