الداخل إلى سفارة روسيا، سيُفاجأ ببساطة الإجراءات الأمنية. لا يشبه الأمر أبداً دخولَ سفارة إيران مثلاً، أو أميركا. الإجراءات الأمنية هنا بسيطة. يمكن لعابر على كورنيش المزرعة أن يتسلّق شجرة فيصير داخل السفارة. وهذا دليل على “راحة البال” لدى الروس، في بيروت. في هذه المنطقة، ذات التاريخ الأرثوذكسي البعيد، والهويّة الشيوعية العتيقة، و”عاصمة الثورة الفلسطينية”… بين أرثوذكس بيروت وسنّتها وشيعتها، “يرتاح” الروس في “منطقة محايدة” طائفياً، لكن واضحة سياسياً.
الرّئاسة واللجوء السّوريّ
يبدأُ الكلام مع السّفير الروسي ألكسندر روداكوف من ملفّ الرّئاسة. هذا الرجل الهادىء، الذي يتحدّث بصوت خفيض، بين الأثاث “القيصري” داخل السفارة، يرشّ في بداية الحديث بهارات دبلوماسية ضرورية لطبخة “السياسة” الآتية: نهج بلاده الدبلوماسيّ هو نفسه دائماً: “ندعم الحوار” بين جميع السياسيين اللبنانيين، والتوصّل إلى توافق بينهم، “هذا السبيل الوحيد لضمان حلّ دائم وسلميّ للمأزق السّياسي الحالي”.
بالنسبة إليه من غير المناسب أن يقدّم الدبلوماسيون الأجانب المشورة لدولة ذات سيادة حول كيفية إجراء انتخاباتها. لكن في الوقتِ نفسه يكشفُ عن أملهِ في أن تُجرى الانتخابات في أقرب وقت ممكن.
نهرب معه إلى ملفّ اللاجئين السّوريين. يوافق ويقول إنّ بلاده تدرك تماماً الأثرَ السلبي لأزمة اللجوء السّوريّ على لبنان: “لكنّها لا تقف مكتوفة الأيدي”. في 2018، قدّمت بلاده اقتراحاً لتنظيم عودتهم إلى وطنهم. حكومة لبنان رحّبت بالخطة: “لكنّ واشنطن والدول التابعة لها في أوروبا فعلت كلّ ما في وسعها لمواجهة جهودنا”.
ترتبطُ روسيا والمملكة العربيّة السّعوديّة بشراكة استراتيجيّة لا تبدأ في سوق الطّاقة، ولا تنتهي بالاتفاقيّات الثّنائيّة بين البلديْن
هنا يبدأ العراك. يهاجم أميركا والغرب كلّه ويتساءل: “هل أحتاج إلى قول المزيد حول من يريد بالفعل حلّ الأزمة المستمرّة ومن ينحني إلى الوراء لمنع السوريين من العودة بأمان إلى ديارهم؟”.
بنظر موسكو، فإنّ الغرب يتلاعَب بحياة الملايين من السّوريين، وينظر إليها على أنّها ليست سوى أداة لتطلّعاته الجيوسياسية.
روسيا والحزب
ثمّ يُفنّدُ علاقة بلاده بالحزب على اعتباره “قوّةً سياسيّة مُهمّة مُمثَّلةً في الحكومة ومجلس النّوّاب”. بحسب روداكوف فإنّ هذا التشكيل “قوّة سياسيّة لها جذور اجتماعيّة واقتصاديّة وشعبية”.
لا تنظر موسكو إلى دورِ الحزبِ محليّاً فقط، بل كلاعب رئيسيّ على المستوى الإقليميّ في ما سمّاه روداكوف “المعركة المُستمرّة ضدّ “الإرهابيين” بما في ذلك تنظيم داعش”.
يعترفُ الدّبلوماسيّ الرّوسيّ المُخضرم بـ”الجدل الدّاخليّ حول سلاح الحزب”، لكنّه في الوقت عينه يقول إنّ طبيعة الحزبِ أنّه “مقاومة” ضدّ الاحتلال الإسرائيلي، ولا يزال متمسّكاً بهذه الأجندة حتى يومنا هذا.
بل ويذهبُ أبعد من ذلك: “الإمكانات العسكرية للحزبِ عامل ردعٍ حاسمٍ ضدّ الإجراءات الإسرائيليّة الأحاديّة الجانب.” هنا تظنّ أنّك تجالس أحد قيادات الحزب. الموقف حاسم وحازم، فروسيا حليفة الحزب، في الداخل والخارج. ويختمُ بالقول إنّ حلّ مسألة السّلاح بنبغي أن تكون عبر السّياسة الدّفاعيّة للبنان، وليسَ عبر الضّغوط الخارجيّة.
علاقة موسكو وبيروت
هنا يستعيد البيان الشّهير لوزارة الخارجيّة اللبنانيّة الذي صدَر بعد ساعات من بدءِ القتال بين روسيا وأوكرانيا، ودعا الجيش الرّوسيّ إلى “الانسحابِ فوراً من الأراضي الأوكرانيّة”، مُعتبراً أنّ البيان هذا صدرَ “تحت الإكراه”. ويتابع غاضباً: “من المعروف أنّ الغرب يجبر الدول ذات السّيادة على تغيير مواقفها، وتحويلها ضدّ شركائها”. ثمّ يهدأ. يقول إنّ بلاده “تجاوزت هذا الأمر”، ويؤكّد أنّ موسكو تُواصل “تكثيف علاقاتها مع وزارة الخارجيّة اللبنانيّة”، ويتابع: “نتعاون بشكل مثمر في عدد من الأشكال الثنائية والمتعدّدة الأطراف. تتلاقى آراؤنا حول العديد من القضايا الإقليمية والدولية. الشعب اللبناني لديه فهم كافٍ لتصرّفات روسيا على السّاحة الدولية. إنّهم يتشاطرون معنا الكثير من قيمنا التقليديّة ويقدّرون عناصر العدالة والصّدق التي نقدّمها إلى الساحة الدولية.”
سوريا: روسيا مع القرار 2254
من لبنان ننتقل إلى سوريا. وهو ملفّ يعرفه روداكوف جيّداً. فهو عمل في سفارة بلاده لدى دمشق بين 1997 و2001، ليعودَ إليها بين 2003 إلى 2008. كما أنّه تولّى لـ3 سنوات بدءاً من 2017 منصبَ نائب مدير دائرة الشّرق الأوسط في وزارة الخارجيّة الرّوسيّة. هو إذاً خبير في الشأن السوري. لكن قبل أن يبدأ حديثَه المُفصّل، يؤكّد أنّ قرار مجلس الأمن رقم 2254 لا يزال قائماً من مُنطلقِ أنّ للسّوريين الحقّ في تقرير مستقبلهم، وضرورة احترام العمليّة السّياسيّة التي يقودها وينفّذها السوريون أنفسهم بدعم من الأمم المتحدة. برأيه “العمليّة السّياسيّة المُعقّدة وعودة اللاجئين” ستتيسّر، خصوصاً بعد إعادة سوريا إلى الجامعة العربيّة.
يكشف هنا عن دور بلاده في تطبيع العلاقات بين سوريا والدّول العربيّة وعودة الأسد إلى جامعة الدول العربية، وبين دمشق وأنقرة أيضاً: “لن أخوضَ في التفاصيل، لكن في آذار الماضي، قبل وقت قصير من القمّة العربيّة، استقبَلت موسكو كُلّاً من وزير الخارجيّة السّعودي الأمير فيصل بن فرحان والرئيس السوري بشّار الأسد في غضون أسبوع واحد. أعتقد أنّ هذا يقول الكثير عن دورنا هنا”.
يكرّر الدّبلوماسيّ الرّوسيّ أنّ واشنطن “تبذل جهوداً مُدمّرة في هذا الإطار”، باعتبارها “أكثر دولة عاثت في البلاد خراباً وموتاً وألماً”، ويذكّر بأدوارها في فيتنام ويوغوسلافيا والعراق وليبيا وسوريا…
ينتقد سياسة واشنطن في المنطقة، ويتّهم الأميركيين بأنّهم “ببساطة لا يحتاجون إلى شرق أوسط مزدهر. تعتمد السياسة الخارجية الأميركيّة على استمرار الصّراع في المنطقة. الولايات المتحدة منافقة إلى حدّ بغيض. ليس لديهم الحقّ في التّدخّل في شؤون الشّرق الأوسط، ومع ذلك يقول مسؤولوهم إنّ سوريا “لا تستحقّ” إعادة قبولها في الأسرة العربية”.
انتقاده سياسة الغرب لا سقفَ له: “لا يستطيعون التخلّي عن ماضيهم الاستعماري. الوجود العسكريّ غير الشّرعيّ للولايات المتحدة في سوريا، وعقوباتها الأحاديّة الجانب ضدّ دمشق المفروضة في التفاف على مجلس الأمن، كلاهما عامل خطر يحدّ من معدّلات حدوث هذا التطبيع”.
لا يغفل روداكوف عن انتقاد قرار إدارة الرّئيس الأميركيّ السّابق دونالد ترامب بالاعتراف بالسّيادة الإسرائيليّة على الجولان السّوريّ
الغضب من زيلينسكي
ترتبطُ روسيا والمملكة العربيّة السّعوديّة بشراكة استراتيجيّة لا تبدأ في سوق الطّاقة، ولا تنتهي بالاتفاقيّات الثّنائيّة بين البلديْن. بعد القمّة العربيّة، سُجِّلَ اتصالٌ مُطوّلٌ بين وليّ العهد السّعوديّ الأمير محمّد بن سلمان والرّئيس الرّوسيّ فلاديمير بوتين.
بعد الاتصال أعلنت المملكة ودولٌ أخرى في مُنظّمة “أوبك بلاس” تخفيضاً إضافيّاً للإنتاج، وهذا يُظهُر متانة العلاقة والتنسيق بين الرّياض وموسكو.
لكن كيف تنظر موسكو إلى مشاركة الرّئيس الأوكرانيّ فولوديمير زيلينسكي في قمّة جدّة؟
إنّه “استفزاز آخر نيابة عن نظام كييف “النازي الجديد غير الشّرعيّ”. يعتبر أنّ خطاب زيلينسكي أمام قادة الدّول الأعضاء “معادٍ لروسيا بشكل صريح”، و”محاولة يرثى لها لتعطيل العلاقات بين روسيا والدّول العربيّة، التي تتقاسم تقليدياً رابطة قويّة من الصداقة والتعاون”.
اتّهم الرّئيس الأوكراني باستغلال “قضايا وهميّة” في شبه جزيرة القرم: “بالطبع، هذا لا معنى له، وهو سخرية خالصة. ليس لدى زيلينسكي أيّ حقّ أخلاقيّ في التحدّث عن المسائل الدينيّة والطائفيّة عندما يكون هناك قمع مستمرّ ضدّ الكنيسة الأرثوذكسيّة الأوكرانية، بطريركية موسكو، في بلاده، حيثُ تُداهم الشرطة الأوكرانية الأديرة، ويتعرّض رجال الدين للهجوم الجسدي. لمدّة 8 سنوات، كان نظام كييف منخرطاً في إبادة شعبه تحت رعاية الغرب. ومن الواضح أنّ الغربَ اختارَ غضّ النّظر عن هذه الانتهاكات”.
القضيّة الفلسطينيّة والمبادرة العربيّة
نصل إلى رام الله.
رأسَ روداكوف بعثة بلاده الدّبلوماسيّة لدى السّلطة الفلسطينيّة لـ7 أعوامٍ منذ 2010 في رام الله. يعرفُ الملفّ الفلسطينيّ جيّداً. يعتبرُ بلاده واحدة من القوى الرئيسيّة المُساهِمَة في عمليّة السّلام في الشّرقِ الأوْسَط. لكنّ تغييب الجهود الروسية “من قِبَل وسائل الإعلام الغربيّة لا يعني على الإطلاق غياب هذه الجهود في حدّ ذاتها حقيقةً”.
ينتقدُ الدّور الأميركيّ “الأحاديّ” في هذا الملفّ، ويتّهم واشنطن بـ”خصخصة الأزمة ومحاولة حلّها منفردة، لكنّ التّاريخ يؤكّد أنّ التّصرّفات الأحاديّة الجانب في حلّ النّزاعات المُعقّدة كانت فاشلة”.
“الحياد ليسَ المُصطَلح الصّحيح لوصف السّياسةِ الأميركيّة في المنطقة”. وموقف واشنطن من عددٍ من القضايا “غير متوازن وأهدافه تخدم أجندة البيت الأبيض. لذلك أدرك العرب والإسرائيليّون والأغلبية السّاحقة من القوى الأخرى أنّ الاعتماد على الولايات المتحدة محفوفٌ بالمخاطر”.
يُكرّرُ موقف بلاده الدّاعم لحلّ “الدّولتيْن”، وأنّها على اتصال وثيق مع جميع أطراف الصّراع وتواصِل جهود الوساطة مع شركائها الإقليميّين. ولقد اقترح الكرملين عقد اجتماع دولي في موسكو كوسيلة لإعادة الزّخم في المفاوضات.
من ناحية أخرى، لا تزال روسيا ملتزمة باستعادة الوحدة الفلسطينية وحلّ الصّراع على أساس عدد من الأطر القانونية المعترف بها بشكل مشترك. ويشمل ذلك مبادرة السلام العربية، فضلاً عن قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن ذات الصلة.
إقرأ أيضاً: بيمان جبلّي لـ”أساس”: لم نبحث ملفّ لبنان مع السّعوديّة
لا يغفل روداكوف عن انتقاد قرار إدارة الرّئيس الأميركيّ السّابق دونالد ترامب بالاعتراف بالسّيادة الإسرائيليّة على الجولان السّوريّ: “هذه الخدع تشير إلى مدى عدم احترام الولايات المتحدة القانون الدّوليّ. وباعترافهم بسيادة إسرائيل على الجولان، أظهروا مرّة أخرى تجاهلهم التامّ لقرارات مجلس الأمن وغيرها من المبادئ المعترف بها عالمياً والمتعلّقة بالقضية الفلسطينية”.
يختم بالحديث عن الاحتجاجات المُستمرّة في إسرائيل ضدّ قرارات رئيس الوزراء بنيامين نتانياهو. يستغرب كيف أنّ الغرب متحفّظ أو صامت بشأن الاحتجاجات: “لو كان هذا هو الحال بالنسبة لأيّ من البلدان التي تصفها واشنطن بأنّها “أنظمة استبدادية”، روسيا وإيران وسوريا وبيلاروسيا، سيكون الخطاب مختلفاً تماماً. لن نتوقّف عن سماع دعوات الاستقالة والدعم الصريح للانقلابات. إنّ المعايير المزدوجة هي حقّاً السمة المميّزة للسياسة الغربية المعاصرة”.
نخرج من السفارة، وتطنّ في آذاننا جملته عن الحزب: “الحزب عامل ردعٍ حاسمٍ ضدّ الإجراءات الإسرائيليّة الأحاديّة الجانب”.
لمتابعة الكاتب على تويتر: IbrahimRihan2@