لماذا حصل اتفاق بكين؟ وما الذي دفع طهران لإعادة حساباتها على مستوى المنطقة للذهاب نحو السياسة مع الرّياض حصراً؟ وهل كان لبنان على طاولة الاتفاق في بكّين؟
رئيس هيئة الإذاعة والتلفزيون في إيران بيمان جبلّي، في جلسة مع إعلاميين لبنانيين خلال زيارته إلى بيروت قبل أيّام. أكّد في حديث جانبيّ مع”أساس” أنّ إيران والمملكة العربيّة السّعوديّة لم تبحثا الملفّ اللبنانيّ في المُحادثات التي عُقِدَت بين الجانبيْن قبل وأثناء توقيع اتفاق استئناف العلاقات قبل شهريْن في العاصمة الصّينيّة، بكّين.
لماذا اتفاق بكّين؟
بَلغَ الاصطفاف السّياسيّ والإقليميّ في أحيانٍ كثيرة انقساماً أيديولوجيّاً هدفه السّيطرة على الإقليم. لكن تبيّن عقم هذا الأمر بعدما أظهرَت المُكابرات عُقمَ الحروب بالواسطة، إضافةً إلى عبثيّة الحرب المُباشرة.
هذه قناعةٌ إيرانيّةٌ بلغتها وعبّرَت عنها في اتفاقها مع المملكة العربيّة السّعوديّة برعايةٍ صينيّة، على ما قال جبلّي المُقرّب من المُرشد الأعلى عليّ خامنئي.
كُلّ دولةٍ بحسبِ قناعة طهران اليوم لديها سياستها الدّفاعيّة، لكنّ كلّ ذلكَ هو الجزء المُكمّل لا الأصل. فالأساس هو المشاريع الاقتصاديّة وخطط التّنمية والشّراكة التّجاريّة. ويحصل التأسيس لذلكَ بالسّياسة لا بالحروب ولا بزعزعة الاستقرارات المُتبادلة، لأنّ عدم الاستقرار استنفد كلّ الموارد ولم يكُن عملاً حميداً، ويشكّل رسالة حادّة تُضاعف الإخلال بالسّلم الإقليميّ وحتّى العالميّ، ولا سيّما أنّ المنطقة تقبض على ممرّات الجزء الوازن من موارد الطّاقة والتّجارة العالميّة.
أثار الحُكم على اتّفاقِ بكين ضجيجاً ضيّقَ الرّقعة سياسيّاً، لكنّه مُرتفع الصّوت عسكريّاً، وخصوصاً من إسرائيل التي ذهَبَت يميناً ويساراً لتجدَ “حليفاً” يُبرّر لها توجيه ضربةٍ للمُنشآت النّوويّة الإيرانيّة.
ردّدَ مسؤولون إيرانيّون كثيرون في السّابق أنّ لبنان دخلَ المدار الإيرانيّ، لكنّ جبلّي قال صراحة إنّ بلاده لن تتدخّل في الشأن الرّئاسيّ لأنّه “شأن داخليّ”، ورفضَ التطرّق إلى طبيعة العلاقة بين بلاده والحزب
في هذا السياق زارَ جبلّي الذي يُعيّنه المُرشِد الأعلى علي خامنئي، تماماً كما يختار قائد الحرس الثّوريّ، بيروت الأسبوع الماضي والتقى الأمين العامّ لحزب الله حسن نصرالله ورئيس مجلس النّواب نبيه برّي، وبعض الشّخصيات التي لم يُكشف عنها.
العلاقة مع السّعوديّة: العودة إلى المجرى الطّبيعيّ
“المظلّة الصّينيّة” للاتّفاق بين المملكة والجمهوريّة الإسلاميّة “غيّرَت الخارطة السّياسيّة برمّتها”، وليسَ ما يتّصِلُ بالدّولتيْن حصراً، على ما أكّد جبلّي الذي قال إنّ الاتفاق صنعته عوامل عديدة بدأت مع الانسحاب الأميركيّ من المنطقة وانتهت بعقدِ الاتفاقيّة التي كانت “آخر عناقيد” تبدّل الخارطة في المنطقة.
لَفَت جبلّي إلى أنّ الصّين كلّلَت جولات التّقارُب التي بدأت في العاصمة العراقيّة بغداد، وإضافة إلى أهمّيّة عودة العلاقات إلى مجراها الطّبيعيّ بين البلديْن، كانت فيها “منافع كثيرة مُشتركة، بدأت تأثيراتها تظهر من خلال تنسيق عمليّات الحجّ لهذا العام بكلّ ارتياحٍ”. وكشفَ أنّ وفداً تجاريّاً سعوديّاً زارَ بعض المُحافظات الإيرانيّة أخيراً لدارسة إمكانيّة الاستثمار، وأنّ الكلام عن بدءِ تفعيل القنوات التّجاريّة بين البلديْن قد بدأ بالفِعل.
كانَت لـ”أساس” دردشة على الهامش مع جبلّي لسؤاله عن ملفّات الإقليم بين طهران والرّياض، فأجابَ أنّ الأولويّة في الرّياض وطهران هي لعودة العلاقات إلى مجاريها، وبعدها لا بدّ أنّه سيكون هناك حوارٌ عن الإقليم، بحسبِ ما أسرّ المسؤول الإيرانيّ الرّفيع.
في سياق حديثه حرص جبلّي على أن يقرن كلمة “الفارسيّ” مع كلّ ذكرٍ لـ”الخليج”، وأكّد أنّ سياسة بلادِهِ الخارجيّة تتركّز على “توسيع التّعاون التّجاريّ والاقتصاديّ مع الجيران عشرات المرّات أكثر ممّا هو عليه حاليّاً”، رافعاً مستوى خياله وخيال الحاضرين بالقول: “لنتخيّل أنّ هُناك علاقات تجاريّة بين إيران وجيرانها بنحو 20 مليار دولار حاليّاً”.
الولايات المُتحدة: نحنُ نريد وواشنطن لا تُريد
لئن استبعدَ جبلّي مُصطَلح “الشّيطان الأكبر” في معرض حديثه عن الولايات المُتحدة الأميركيّة، إلّا أنّه وبلاده لا يستبشران خيراً بسياسة واشنطن “التي لم ينقطع التّواصل غير المباشر معها يوماً”، خصوصاً في ما يتعلّق بمُعالجة الملفّ النّوويّ الإيرانيّ الذي انسحَب منه الرّئيس الأميركيّ السّابق دونالد ترامب.
استوقف الإعلاميَّ – الدّبلوماسيَّ الإيرانيَّ المُتمرّس جدّاً “استهدافُ” الإعلام الأميركيّ لبلاده، خصوصاً أنّ حجم العداء كان قد تراجع مع توقيع الاتفاق النّوويّ في 2015، وأضاف أنّ “إيران ليست هي من تركَ الطّاولة، بل ترامب هو من رفضَ الاتفاق النّوويّ الذي كانَ مُلائماً للمعايير الدّوليّة”.
تشير المعلومات إلى أنّ زيارة جبلّي تتعلّق بـ”تعزيز قنوات الإعلام الخارجيّ” في إطار تبدّل الخارطة السياسيّة في المنطقة
يرجع استغرابه هذا إلى أنّه مع وصول جو بايدن إلى البيت الأبيض أبدَت طهران كلّ إيجابيّة “للعودة إلى الاتفاق نفسه الذي لم يكُن يحفظ كلّ مصالح إيران.. بينما الطّرف الأميركيّ لم يقبل إلى الآن ويتمسّك بقراراته الظّالمة”.
قال إنّ الجهوزيّة الإيجابيّة الإيرانيّة أعلنتها حكومتا الرّئيس السّابق حسن روحاني، والرّئيس الحاليّ إبراهيم رئيسي، “لكنّ المُشكلة” عند واشنطن التي لم تقبل بالعودة الكاملة للاتفاق السّابق.
ولفَتَ إلى أنّ ما بين بلاده وسلطنة عُمان ليس “الوساطة” فقط، بل مصالح اقتصاديّة وتجاريّة وأمنيّة، وأنّ زيارة السّلطان هيثم بن طارق آل سعيد لإيران لا يُمكِن أن يُفهَم منها الوساطة فقط.
مصر: عودة العلاقات على الطّريق
أفرَد الرّئيس السّابق للدّائرة الإعلاميّة في مجلس الأمن القوميّ الإيرانيّ حيّزاً واسعاً للحديث عن مصر والعلاقة معها، فهي “دولة كبيرة ومهمّة ومؤثّرة في المنطقة”، وتجري مُحادثات لعودة العلاقات بين البلديْن، لكنّه في المُقابل أشار إلى أنّ قناعة بلاده هي أنّه إذا أرادت القاهرة عودة العلاقات، فليسَ عليها إلّا “تغيير اللافتة من مكتب رعاية المصالح في طهران إلى سفارة جمهوريّة مصر العربيّة”.
وشدّدَ في هذا السّياق على أنّ “انقطَاع العلاقات السّياسيّة بين البلديْن لم يحُل دون استمرار العلاقة الدّبلوماسيّة من خلال مكاتب رعاية المصالح لكلّ من الدّولتيْن في عاصمة الدولة الأخرى”.
أفغانستان: نُريدُ مصالحنا
ردّ السّفير الإيرانيّ السّابق في تونس على سؤال عن العلاقة بين بلاده وأفغانستان والتطوّرات الأمنيّة على الحدود بين البلديْن، معيداً ما حصلَ إلى “مُشكلة تتعلّق بضغط المياه الجارية في الأراضي الأفغانيّة إلى بلاده بحسب اتفاقيّة مُوقّعة بين طهران وكابول في 1982”.
ادّعى الجانب الأفغانيّ أنّ السّبب هو نقصُ المُتساقطات، وقال جبلّي إنّ إيران تتمسّك بضرورة إنجاز دراسة مُشتركةٍ للبلديْن للتّأكّد من الادّعاءات الأفغانيّة.
على الرّغم من هذه المسألة التي اعتبرها “مُشكلة عامّة بين الدّول ذات الحدود المُشتركة”، إلّا أنّه شدّدَ على ما سمّاه “مصالح” بلاده في أفغانستان التي تحكمها حركة طالبان: “لا مُشكلة طالما الشّعب الأفغانيّ يريدُ أن تحكمه هذه الهيئة الحاكمة”. ولفَت إلى أنّه “لا إيران ولا الهيئة الحاكمة في أفغانستان لديهما نيّة التّصعيد”، وذلكَ على خلفيّة توجيه إيران الاتّهام بمحاولة التّسلّل إلى أراضيها.
لبنان: لن نضغط على حزب الله
استطرَدَ المسؤول الإيرانيّ في حديثه عن دُول المنطقة، إلّا أنّ حديثه عن لبنان كان مُقتضباً على الرغم من إعلان لقاءيْن مُنفصليْن له مع رئيس مجلس النّوّاب نبيه برّي والأمين العامّ لحزب الله حسن نصرالله. كان هذا الكشفُ يسترُ لقاءات أخرى عقدها في لبنان الذي أقامَ فيه 6 أيّام، لكن لم تُعلَن.
إقرأ أيضاً: الحزب يقطع الطريق اللبنانية بين دمشق والرياض
تشير المعلومات إلى أنّ زيارة جبلّي تتعلّق بـ”تعزيز قنوات الإعلام الخارجيّ” في إطار تبدّل الخارطة السياسيّة في المنطقة. وهذا من ضمن مهامّ المسؤول الذي يُشرف على 150 مؤسّسة إعلاميّة إيرانيّة.
ردّدَ مسؤولون إيرانيّون كثيرون في السّابق أنّ لبنان دخلَ المدار الإيرانيّ، لكنّ جبلّي قال صراحة إنّ بلاده لن تتدخّل في الشأن الرّئاسيّ لأنّه “شأن داخليّ”، ورفضَ التطرّق إلى طبيعة العلاقة بين بلاده وحزب الله، لكنّه استدرَكَ بالقول: “علاقة إيران بحلفائها تختلف عن علاقة بعض الدّول بحلفائها. لا تُرغِم إيران حلفاءها على اتّخاذ قرارٍ مُعيّن.. هذا ينطبقُ على سائر الحلفاء في المنطقة، ولن تُحاول إيران يوماً الضّغط على حلفائها… أعتقد أنّ لحزبِ الله وقوى المُقاومة في لبنان القدرة الكافية لاتّخاذ القرارات، وهي ليسَت بحاجة إلى نصيحة أو ضغطٍ من إيران”.
لمتابعة الكاتب على تويتر: IbrahimRihan2@