تسلّمت أمس الأوّل “جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية” بلاغاً من القضاء اللبناني، بالدعوى المقامة ضدّها من عضو مجلس الأمناء السابق الحاج صالح الحبال، بتهمة تزوير نتائج الانتخابات الأخيرة لمجلس الأمناء، مع انكشاف تصويت عدد من أعضاء الهيئة العامة المتوفين.
************
قبل أربع سنوات، وفي لقاء خاصّ مع أحد الأعضاء الحاليين في مجلس أمناء “المقاصد”، وهو إعلامي معروف، أقرّ مع تحفّظ بأنّ الجمعية بقيادة فيصل سنّو، تعاني من خلل إعلامي. فرئيس الجمعية، وهو عملياً من يحتكر المشهد بشكل غير مسبوق بالمقارنة مع من سبقه إلى هذا الموقع على مدى قرن ونصف، لا ينجح في تسويق قراراته المثيرة للجدل، وذلك من أول يوم وطئت فيه قدماه مكتب الرئيس. فهو لا يهيّء الأجواء مسبقاً، ولا يقوم بمشاورات علنية، ولا يكشف أوراقه للجمهور، بل يعتمد نهج الصدمة والترويع، وهو آمن ومطمئنّ إلى أنّ البيارتة يفورون ثمّ يستكينون ويخضعون في نهاية المطاف لقراراته مهما بدت لهم مجحفة. مع أنّه محاط بعدد من محترفي الإعلام والعلاقات العامّة، ومن المفترض بهم أن ينبّهوه إلى خطأ هذه الممارسات وتكرارها، وأنّه لا يليق به التعامل مع البيارتة بهذه الطريقة. وهم الذين مع “المقاصد” قلباً وقالباً، من المهد إلى اللحد، يلدون في مستشفاها ويُدفنون في مقابرها في الأغلب الأعمّ. وهي أكثر من جمعية، بل الحاضنة الاجتماعية لبيروت، وهي تحقّق بالضرورة مصلحة عامّة لسكّان العاصمة، ولا ينبغي أن تخدم مصالح خاصّة، أو طموحات سياسية ضيّقة.
إنّه هو من يتصدّى بنفسه لسيل الانتقادات، وعلى طريقته الاستعلائية وبأسلوبه النثريّ المميّز، ودائماً من بُرج عالٍ، ولسان حاله يقول: “من أنتم؟”. “نحن نحقّق الإنجازات وأنتم تتلهّون بالشعارات والأسماء”. فيما العبارة اللازمة التي لا يتخلّى عنها، لردّ الصاع صاعين، وكأنّنا في حلبة مصارعة، استشهاده بالآية الكريمة: }يا أيّها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبيّنوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين { (سورة الحجرات، الآية 6). قالها سنّو لكلّ مستفهم أو مستغرب أو مستهجن، سواء أكان من عامّة الناس أو من قادتهم، وحتى لو كان من علماء المسلمين.
لا تسمعوا للأقاويل، بل اسمعوا منه مباشرة، سواء تعلّق الأمر بيوم الجمعة أو تغيير الشعار التاريخي للجمعية أو تبديل أسماء المدارس. كلّ ما يتداوله الناس عن أيّ قرار صادر عن الجمعية، ومن دون أيّ تفصيل، هو فسوق وفجور لأنّه غير صحيح. وكلّ تبرير يتبرّع به المحيطون به، الخبراء فقط في تدوير الزوايا، هو الصحيح الذي لا يرقى إليه أيّ شكّ، حتى لو كان تبريراً متهافتاً بل تافهاً. وذلك إلى أن ثبت بالوجه القانوني أخيراً أنّ كلّ ما يُقال عمّا يجري في “المقاصد” هو صحيح، وأنّ حامل النبأ ليس بفاسق، وأنّ ما يخرج على لسان سنّو هو نوع من “التضليل المنهجي”، حتى لا نقول أكثر، بهدف تمرير الوقت، وإنجاز التغيير المنشود في طبيعة “المقاصد” ووجهتها.
قرارات عشوائيّة
لقد أقرّ فيصل سنّو أخيراً وبعد مكابدة ومشقّة، وفقط بعد إخراج الوثيقة الرسمية من وزارة التربية، بأنّه المسؤول عن تبديل اسم مدرسة خديجة الكبرى إلى “ليسيه المقاصد”. ومن أجل تدارك “تسونامي” الشكوك في مصداقيّته، عقب الصدام العلني مع أمين سرّ الفتوى الشيخ أمين الكردي الذي نصح المانحين بعدم التبرّع لجمعيّة فقدت مصداقيّتها بل طبيعتها، سارع إلى اتّخاذ قرارات متعجّلة تؤكّد الطابع الإسلامي لجمعية المقاصد، من الحرص على حضور مسابقات القرآن، والتشدّد في إلزام طلاب “المقاصد” بأداء صلاة الجمعة أثناء الدوام (مع أنّ هذا ما قيل لنا منذ إلغاء عطلة الجمعة)، وأخيراً، وربّما ليس آخراً، منح حسوم على الأقساط للطالبات اللواتي يحملن أسماء إسلاميّة معيّنة (وتلك مخالفة لأبسط قواعد العدالة باسم التديّن الشكليّ).
لكنّه مع ذلك لا يتخلّى عن قراره الاستراتيجي بتحويل “المقاصد” إلى “شركة ربحيّة”، فهي ليست جمعية خيرية، إلا بمعنى أن تتولّى توزيع صناديق المساعدات الغذائية موسميّاً، وهو ما تقوم به أدنى الجمعيات شأناً ولا فخر، أو أن تساعد الطلاب المتفوّقين في مدارسها، مع أنّه أمر لا تختصّ به “المقاصد” ولا تمتاز به، بل تقوم به كلّ المدارس والجامعات الخاصّة العالية الكُلفة.
لا يدرك فيصل سنّو أساس المشكلة الراهنة، أو أنّ من حوله لا يعرفون أيضاً مثله، وهم عاجزون عن توجيهه التوجيه السليم. فهو لا يفهم لعبة الإعلام، ويضيق صدره بتساؤلات الرأي العامّ
مصداقيّة وشفافيّة
لا يدرك فيصل سنّو أساس المشكلة الراهنة، أو أنّ من حوله لا يعرفون أيضاً مثله، وهم عاجزون عن توجيهه التوجيه السليم. فهو لا يفهم لعبة الإعلام، ويضيق صدره بتساؤلات الرأي العامّ. تتلخّص المشكلة في أمرين: الافتقار إلى المصداقيّة، وانعدام الشفافيّة. وهذان هما الركنان اللذان أُسّست عليهما جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية. أسّسها أعيان بيروت ممّن لهم قدر وافر من الوجاهة والاحترام، وهو ما دفع الناس على اختلاف مراتبهم وقدراتهم من طوائف شتّى إلى التبرّع لجمعيّة طابعها إسلامي. وفوق ذلك، اعتمد الآباء المؤسّسون على الشفافيّة المطلقة، في كشف سنويّ عن أعمال الجمعية، الأهداف والوسائل، الموارد والإنفاقات، المشاريع والإنجازات، المنح المقدّمة إلى الطلاب، ما فعلوه وما لم يفعلوه بعد، وما سيفعلونه في قادم الأيام. فلا يكفي القول إنّ الجمعية تحت قيادة سنّو تحقّق المعجزات.
كيف ندرك ذلك، إن لم تتوافر لنا الأرقام والمعطيات، حتى نقارن ما بين الماضي والحاضر؟ كيف نصدّق من كذب علينا أكثر من مرّة؟ كيف نطمئنّ إلى قيادة وصلت إلى موقعها بانتخابات مشكوك في صحّتها، وثمّة دعوى قضائية بهذا الخصوص، منذ انتخابات العام الماضي، وجمّدها تدخّل سياسي لمصلحة سنّو؟ هل نعلم نحن البيارتة شروط الانضمام إلى الهيئة العامّة للجمعية أم هي هيئة انتخابية محصورة مهمّتها فقط بإيصال مجلس الأمناء ورئيسه؟ ومن هم أعضاء مجلس الأمناء الحاليون؟ وما هي المؤهّلات التي وضعتهم في مكانهم؟ وما هي مهامّهم؟ إن كانت مهمّتهم منحصرة بدعم الجمعية ماليّاً، فلماذا الشكوى الدائمة من العجز، وعليه يبرّرون رفع أقساط المدارس؟ وإن كانوا عاجزين أو غير مقتدرين، فلماذا جيء بهم؟ ما هي أوضاع أملاك الجمعية، سواء تلك التي هي أوقاف تديرها الجمعية أو غير وقفيّة؟ ما هي المشاريع الاستثمارية المخطّط لها، وسنّو من كبار التجّار كما هو مفترض؟ ما هي المناهج التربوية التي تخطّط لها الدائرة المختصّة في “المقاصد” والتي ينبغي أن تُرضي المانحين الأجانب؟ هل إسقاط الشعار الديني التاريخي للجمعية هو على رأس الشروط المطلوبة؟ هل الهدف عَلْمنة الجمعية عبر عَلْمنة الشعار؟ لماذا أضحت “المقاصد” علبة مقفلة بإحكام، بحيث يواجه حالةً من الترهيب الدائم أيُّ موظّف يسرّب أيّ معلومة عن “المقاصد” وما تفعله؟ فما الذي تفعله أو ستفعله أكثر ممّا فعلته؟
قبل 90 عاماً
ثمّة بيان بأعمال الجمعية عمره تسعون سنة ميلادية، للمرحلة ما بين 1 تموز 1932 حتى آخر حزيران 1933. وبالمقارنة بين ما كانت تحقّقه الجمعية في تلك الحقبة التي لا تقارَن بما هو عليه العالم اليوم من تطوّر، وبين “معجزات” سنّو، فسنعثر على الحقائق الصلبة التي يمكن بها تقويم أعمال الجمعية الآن.
البيان حافل بكنز من المعلومات، ولا يكتفي بسرد جافّ ومبتسَر للأعمال المنجزة على مدى عام كامل. فيه تعلم تاريخ التأسيس الأول للجمعية، كما تاريخ إعادة تأسيسها بعد حظرها. وفيه تتعرّف ليس فقط على أسماء أعضاء مجلس إدارة الجمعية موظفين وغير موظفين، بل كذلك على أسماء المؤسّسين الذين ما زالوا أحياء، وعلى كيفية التعامل مع الأزمة الماليّة في ذلك العام، من خلال الإنشاءات التي استثمرتها الجمعية في وسط بيروت، وخفض رواتب الموظفين. تعرف مثلاً تاريخ المدارس الأولى في بيروت: أربع مدارس للبنين (كلية المقاصد الإسلامية/غابة الصنوبر/الحرج، أبو بكر الصديق/القنطاري، عمر الفاروق/الطريق الجديدة، عثمان ذي النورين/رأس النبع)، ومدرستين للبنات (كلّية البنات الإسلامية (البسطا التحتا)، ومدرسة فاطمة الزهراء/رأس النبع)، وعدد الطلاب الإجمالي (1,846 طالباً). وفيه جرد بمن تقدّم منهم للامتحانات الرسمية، وكم نجح منهم وكم رسب، والمناهج التعليمية وأهدافها، والمكتبات ومحتوياتها، والإجراءات الصحّية، وعرض للعقارات المستغلّة وكم تحصّل منها والعقارات التي لم تُستغلّ بعد، واشتراكات الأعضاء إلى جانب التبرّعات. واللافت أنّ البيان المذكور يسرد جانباً من أهداف الجمعية.
إقرأ أيضاً: أمناء المقاصد يخرجون عن عمامة المسلمين
فمدارس البنين أُنشئت قرب المساجد حتى يصلّي الأساتذة والتلاميذ فيها صلاتَيْ الظهر والعصر. أمّا عن المنح التي قدّمتها الجمعية للطلبة في ذلك العام، فيقول البيان إنّ 74 طالباً حصلوا على مساعدات لإكمال تحصيلهم في المدارس الثانوية والعالية (الجامعية)، منهم طالب في جامعة الطب في جنيف بسويسرا، وطالب طبّ آخر في مونبليه بفرنسا، وطالب طبّ آخر في الجامعة الأميركية في بيروت، وفي اليسوعية ببيروت.
هل يستطيع فيصل سنّو تقديم منح تعليمية من صندوق “المقاصد” على هذا القدر وبهذا الحجم؟
أجداد “المقاصد” قبل قرابة قرن كانوا قادرين!
لمتابعة الكاتب على تويتر: HishamAlaywan64@