أبرزت الأزمة اللبنانية والمبادرات الإقليمية والدولية تجاه لبنان دوراً سعوديّاً جديداً في مجال “التفاوض”. خرجت إلى العلن براعةٌ تفاوضيّة سعوديّة كانت مغمورة. ارتكزت مقوّمات ذاك التفاوض على التالي:
1- قدرة الإحاطة بالملفّ، وربطه بسياقاته الداخلية والخارجية، وفهم حقيقيّ للغاية الفرنسيّة، وقراءة دقيقة للصورة بواقعَيْها الإقليمي والدولي، وكانت هذه إحدى نقاط القوّة.
2- نقطة القوّة الثانية هي تعاطي المفاوض السعوديّ مع الفرنسيين وفق قواعد لعبة الشطرنج التي تفرض قواعدها اختيار “النقلة” والإعداد للنقلة الثانية بعد خطوة الخصم الذي يُفترض أن يكون قد تُوُقّعت نقلته أو خطّته.
كان المستشار في الديوان الملكي السعودي نزار العلولا هو لاعب الشطرنج. وفي مكانٍ نجح في تحويل الطاولة إلى لعبة البيلياردو التي تقتضي إصابة طابة بأخرى لإصابة الهدف
العلولا.. لاعب الشطرنج
كان المستشار في الديوان الملكي السعودي نزار العلولا هو لاعب الشطرنج. وفي مكانٍ نجح في تحويل الطاولة إلى لعبة البيلياردو التي تقتضي إصابة طابة بأخرى لإصابة الهدف. ليس المثال المذكور هنا عبثيّاً، إنّما تثبته الوقائع، ولا سيّما أنّ المفاوض السعودي خاض مفاوضاته بنفَس طويل وهادئ.
إنّها المرّة الثانية التي تسدّد المملكة العربية السعودية ضربة للمسار الفرنسي الملتوي في لبنان. يأتي تسديد الضربة بعد إسداء نصائح كثيرة لم يأخذ بها الفرنسيون فوجدوا أنفسهم مجدّداً أمام خيار الاصطدام بالجدار. في كلتا المرّتين لم تكن المملكة قد اتّخذت موقفاً هجومياً تجاه باريس، بل كانت تتعاطى معها على قاعدة التفاهم والتواصل والتنسيق والتناسق. لكنّ الفرنسيين كانوا يحاولون دوماً المناورة والالتفاف، وتحديداً بعد اللقاء الخماسي الذي عُقد في العاصمة الفرنسية لبحث الملفّ اللبناني، وتمّ الاتّفاق خلاله على تحديد مواصفات رئيس الجمهورية والحكومة في لبنان. لكنّ باريس لم تُصدر الموقف الذي اتُّفق عليه، لا بل تهرّبت منه وانقلبت عليه في تبنّي خيار ترشيح سليمان فرنجية.
منذ ما قبل حكومة حسان دياب كان للسعودية موقف واحد لا تحيد عنه: وضع مواصفات ومعايير تخصّ الشأن اللبناني من شأنها المساهمة في إنقاذ البلاد الغارقة في أزمات سياسية وماليّة واقتصادية.
أما فرنسا فثابرت على طريق المزايدة بالاستناد إلى فكرة رائجة تقول بأنّها “الأمّ الحنون” للبنان واللبنانيين. ثمّ تبيّن بعد كلّ خطوة تخطوها بأنّها “الأمّ التي لا تعرف أبناءها”. فهي ساهمت في دعم حكومة دياب وتوجّهاتها التي أخرجت لبنان من النظام المالي العالمي، وأمعنت في تدمير الاقتصاد والتغريب السياسي.
مبادرة ماكرون 2020:
يعرف الفرنسيون جيّداً كيف يقدّمون أنفسهم حرصاء على لبنان، مرتكزين على قوالب جماليّة للمواقف تبقى في إطارها التجميلي. فيما السعوديّة تُطلق موقفاً واضحاً يكاد يرى البعض أنّه قاسٍ. لكن تبقى ثابتة عليه لما تقرأه من مصلحة لبنان. وهذا ما جرى تحديداً بعد إطلاق المبادرة الفرنسية في عام 2020. حينئذٍ أراد الرئيس الفرنسي أن يظهر ثائراً محرّراً للبنان من خلال لقائه الناس الغاضبة والمكلومة بعد تفجير مرفأ بيروت بأيّام. فقدّم العهود والوعود بمحاسبة المسؤولين السياسيين. لكن آل به المطاف إلى اللقاء مع هؤلاء في قصر الصنوبر، وبحث معهم عن تسوية تُعيد إنتاج حكمهم وفق مصالح ضيّقة.
هنا تكرّست صورة ماكرون إلا باعتباره “المستشرق” الجديد الذي يُتقن فنّ بيع المواقف المتناقضة بين الجموع الغاضبة قرب المرفأ، والسياسيين المحنّكين في القصر، وتبيّن أنّه خبير محلّف بالمجاملات.
منذ ما قبل حكومة حسان دياب كان للسعودية موقف واحد لا تحيد عنه: وضع مواصفات ومعايير تخصّ الشأن اللبناني من شأنها المساهمة في إنقاذ البلاد الغارقة في أزمات سياسية وماليّة واقتصادية
رفضت السعودية حينذاك الانصياع لرغبات فرنسية خالية من المضمون وترتكز على أخذ الصور والدعاية غير الجديّة. وقال السعوديون للفرنسيين إنّ التنازل عن 1 في المئة من المبادرة سيفتح الباب أمام تنازلات كثيرة، وهو ما حصل. فقد سقطت المبادرة على أعتاب حكومة نجيب ميقاتي.
بون يحاول الالتفاف على العلولا
مع دخول لبنان مدار الاستحقاق الرئاسي، تحرّكت فرنسا على خطّ السعي إلى انتخاب رئيس للجمهورية. قدّمت نفسها مبادِرةً إلى إنهاء الشغور، لكنّها لم تنجح في تجاوز حقول الألغام، ووضعت نفسها في حالة عداء مع المسيحيين، وانقلبت على كلّ معاييرها بتبنّي خيار سليمان فرنجية، بذريعة أنّه الخيار الأوحد والأكثر واقعية. فيما الوقائع في مكان آخر ترتبط بحسابات كثيرة لماكرون في لبنان وإفريقيا وحتى داخل فرنسا. حيث أسهم شخص يتقاطع عند المثلّث اللبناني الإفريقي الفرنسي في تمويل حملته الانتخابية بمئات ملايين الدولارات.
أصرّ الفرنسيون على الدفع باتّجاه خيارهم فمارسوا ضغوطاً كثيرة. حاولوا الالتفاف على المفاوض السعودي من خلال ارتكاز كبير مستشاري الرئيس الفرنسي إيمانويل بون على علاقته بأحد المسؤولين السعوديين في الديوان الملكي. حاول بون التواصل معه لقطع الطريق على دور نزار العلولا. لكنّه فشل، ودفع بماكرون نفسه إلى التواصل مع وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان لمطالبته بتغيير الموقف أو تغيير المفاوض. وهو ما لم يحصل أيضاً. فبعد إصرار شديد من الرئيس الفرنسي، أبدى وليّ العهد السعودي ليونة تجاه رغبة باريس، فظنّت الأخيرة أنّها نجحت في تجاوز العقبات والحصول على غطاء سعودي لتسوية انتخاب فرنجية رئيساً للجمهورية، فراحت تسرِّب أنّ وليّ العهد أبلغ ماكرون موافقة الرياض على فرنجية، إلا أنّ ذلك لم يكن واقعيّاً.
هنا حصل تغيّر في اللهجة السعودية، ونشأ دافع لدى المملكة للإشارة إلى أنّها لا تعطّل الاستحقاق. فجال السفير السعودي وليد بخاري على الأفرقاء مبلغاً إيّاهم بعدم وضع فيتو على أحد. دخل اللبنانيون في حالة ارتباك. لم ينجح أيّ من الأفرقاء، بمن فيهم أدهى دهاتهم، الرئيس نبيه برّي، في فكّ طلاسم الموقف السعودي.
كلٌّ فسّر الموقف كما يحلو له أو وفق ما تدفع إليه رغباته. ظنّ الفرنسيون أنّهم نجحوا في تحقيق ما يريدون، وظنّت قوى 8 آذار أنّها نجحت في فرض رؤيتها، وانتظرت إشارات أخرى وما تزال تنتظر المراكمة على تطوّرات إقليمية ودولية، بما فيها عودة سوريا إلى الجامعة العربية، معتقدةً أنّ ذلك سيصبّ سريعاً في صالح مرشّحها، لكنّ ذلك لم يحصل.
احتاج المفاوض السعودي إلى الرقص على رؤوس الأفاعي. أظهر نفسه غيرَ معطّلٍ للاستحقاق وداعماً لما يتوافق عليه اللبنانيون. تعمّد إحراج حلفائه وحشرهم طالما أنّهم لا يتّفقون على مرشّح منذ أشهر طويلة. فكانت الخطوة دافعاً إلى إجبارهم بطريقة غير مباشرة على الاتفاق، وهو ما حصل بالتوافق على جهاد أزعور، ربطاً بحراك مسيحي واسع يتعارض مع المسعى الفرنسي، ويضع علاقته التاريخية مع باريس على حدّ السيف… وصولاً إلى زيارة البطريرك بشارة الراعي فرنسا بعد الفاتيكان، حيث أبلغ الفرنسيين بأنّ ما يقومون به غير مقبول. كلّ هذه الوقائع دفعت الفرنسيين إلى تغيير آليّة عملهم وصولاً إلى استدعاء السفيرة الفرنسية في بيروت قبل أيام لإبلاغها بالمستجدّ المتغيّر.
لا تعني كلّ الوقائع والتطوّرات المتسارعة أنّه سيتمّ إنجاز الاستحقاق سريعاً، لكن من المرجَّح أن يطول الفراغ على وقع الانقسام العمودي القائم
أزعور… مرشّح “عربي”؟
توافقت المعارضة على جهاد أزعور، وهو ما لم يعد لباريس قدرة على تجاوزه، لا بل اندفعت باريس إلى التواصل مع الرجل، وإبلاغ الجميع بأنّها لا تعارضه. وليس ترشيح أزعور للمناورة، على حدّ ما تقول مصادر دبلوماسية متابعة، وإنّما هو طرح جدّي لا بدّ من التوافق عليه والوصول إلى تفاهمات. وعليه كان ترشيح أزعور عبارة عن رصاصة أصابت أكثر من هدف، وأوصلت رسائل إلى قوى متعدّدة.
– أوّلاً، إنّها المرّة الأولى منذ عام 2005 التي ينشأ خلاف عميق مسيحي – شيعي. فقد بعدما استطاع الحزب بموجب اتفاقه وتحالفه مع التيار الوطني الحرّ في شباط 2006، “تفاهم مار مخايل)، أن يجعل المواجهة سنّية – شيعية. أي منذ اغتيال رفيق الحريري أخذ الحزب المشكلة إلى مكان آخر. فيما انقسم المسيحيون بين التوجّهين. وكان الحزب يسعى منذ زمن إلى إخفاء أيّ مقوّمات لصراع بين الشيعة والمسيحيين، وهو كان يريد تعزيز علاقته بهم في إطار الصراع الإيراني السعودي.
– ثانياً، وجّهت القوى المسيحية المارونية رسالة أساسية إلى فرنسا مفادها أنّ مصالح فرنسا مرتبطة بإيران، وبالتالي لا يمكن استثناء القوى المسيحية الموجودة في لبنان لصالح سعي فرنسا إلى البحث عن مشاريعها وطموحاتها الإقليمية والاقتصادية مع إيران. وهذا ما قام به البطريرك الماروني، بالإضافة إلى الدور الذي لعبه الفاتيكان.
– ثالثاً، أسهم ترشيح أزعور في تكوين صورة واضحة لدى الكثير من النواب الجدد الذين دخلوا الندوة البرلمانية بأنّه لا يمكنهم الانقسام على جنس الملائكة، وأنّ الصراع في البلد ليس تقنيّاً، بل هو صراع سياسي، وأنّ الاختلاف في البلد هو على التوجّهات السياسية، وأنّ عليهم أن يختاروا. موقعهم بين مشروعين.
إقرأ أيضاً: فرنسا تراجع “رئاسياتها” بعد الاجماع المسيحي
– رابعاً، تكريس الشرخ بين الحزب وجبران باسيل الذي أراد إيصال رسالة مباشرة إلى حزب الله بأنّه لا يمكن تجاهل خياراته في مثل هذه الاستحقاقات ولا يمكن استثناؤه، وأنّه كان يجب الاتفاق معه أوّلاً لا تخطّيه في إعلان ترشيح فرنجية.
– خامساً، نجحت السعودية في تقوية عضد حلفائها، والإثبات لهم أنّها لا تتخلّى عنهم عندما يحسنون الاختيار والتنسيق، ولا سيّما أنّ الموقف السعودي طوال فترة المفاوضات كان واضحاً في عدم التخلّي عن الحلفاء أو إشعارهم بأيّ لحظة استضعاف.
– سادساً، أجهض الترشيح المبادرة الفرنسية، وهو ما سيجبر باريس على إعادة تقويم أدائها ودورها في الملف اللبناني، وفي ملفّات أخرى أيضاً.
لا تعني كلّ الوقائع والتطوّرات المتسارعة أنّه سيتمّ إنجاز الاستحقاق سريعاً، لكن من المرجَّح أن يطول الفراغ على وقع الانقسام العمودي القائم، والأهمّ هو الصورة التي تكوّنت حول الرؤية السعودية للبنان التي تتكامل في سياق سياسات إقليمية ودولية ترتكز على التكامل وليس على تجزئة الملفّات. ولا بدّ من انتظار آليّة العمل الفرنسية التي بتغيّرها سيفقد الحزب غطاء أساسياً كان يرتكز عليه في ترشيحه لسليمان فرنجية، وهو ما سيدفعه إلى المزيد من المكابرة بانتظار تطوّرات إقليمية ودولية تفرض وقائع جديدة.