1971: خطط عبور القناة… في مكتب الموساد

مدة القراءة 10 د

 

قبل شهر من الذكرى الخمسين لحرب تشرين أو حرب يوم الغفران Yom Kippur war بحسب المصطلح الإسرائيلي، نشر الموساد يوم الخميس في 7 أيلول الجاري صورة لجاسوس مصري يحمل الاسم الرمزي “الملاك”. وأهمية هذا الجاسوس أنه الذي حذّر الموساد بأن الحرب على إسرائيل ستبدأ في اليوم التالي، أي في 6 تشرين الأول/أكتوبر عام 1973 على الجبهتين المصرية والسورية في وقت واحد. كما نشر الموساد المحادثة التي جرت في ذلك اليوم بين رئيس الموساد آنذاك تسفي زامير والعميل المصري، الذي تبين لاحقاً أنه أشرف مروان، صهر الرئيس المصري السابق جمال عبد الناصر.
ويؤكد الباحث الإسرائيلي يوري بار جوزف Uri Bar-Joseph، في كتابه: “الملاك، الجاسوس المصري الذي أنقذ إسرائيل The Angele The Egyptin Spy Who “Saved Israel والصادر عام 2016، أن معلومات مروان، مع أنها لم تؤخذ بما يكفي من الجدّية لدى القيادة الإسرائيلية آنذاك، لكنها أنقذت إسرائيل من الهزيمة، فبفضل الاستدعاء الجزئي للاحتياط، تمكن الإسرائيليون من إجهاض الهجوم السوري في الجولان. وفي سيناء، استوعبوا الإسرائيليون الهجوم المصري، وتمكنوا من العبور المضاد إلى الضفة الأخرى من قناة السويس ومحاصرة الجيش الثالث المصري. وخلاصة الكتاب البرهنة على أن صهر الرئيس جمال عبد الناصر لم يكن عميلاً مزدوجاً بل مخلصاً لإسرائيل.
فيما يلي مقتبسات من كتاب “الملاك” الذي ترجمه فادي داؤد، وصدر عن مكتبة تنمية بالتعاون مع الدار العربية للعلوم ناشرون عام 2017.
ردّ الحانب المصري بالإصرار على اعتبار أشرف مروان بطلاً قومياً مصرياً، وأنّه كان عميلاً مزدوجاً خدع الإسرائيليين ومرّر لهم معلومات مغلوطة وساهم في الانتصار وليس العكس. وقد بثّت قناة “العربية” قبل أيام حلقة حوارية كاملة استضافت ممثّلاً عن الجانب الاسرائيلي، والدكتور محمد مجاهد الزيّات، المستشار في “المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية”، الذي مثّل موقف القاهرة، فأكّد أنّ أشرف مروان لم يكن عميلاً. ودليله أنّه منذ خروج هذا النقاش إلى العلن لم يُبرز الإسرائيليون وثيقةً أو مستنداً واحداً يؤكّد مزاعمهم.
لمشاهدة فيديو الحلقة كاملاً في ختام هذا المقال.
في الحلقة الثالثة ننشر كيف كشف “الملاك” لإسرائيل عن أسرار حرب العبور، عبور قناة السويس.

أصبح من الواضح مع تعاظم أهمية مروان، ضرورة تقديمه لعناصر من فروع الاستخبارات الإسرائيلية، وهم أشخاص يمكنهم إضفاء خبراتهم الشخصية على الحوار

هل يشنّ السادات حرب تحريك؟
“حين اتصل مروان بالسفارة الإسرائيلية في لندن للمرة الأولى، في حزيران 1970 كانت حرب الاستنزاف في ذروتها. وفي أواسط كانون الأول العام نفسه، حين التقى أخيراً بمشغّله الإسرائيلي “دوبي” أو “إليكس”، كانت مصر وإسرائيل قد وقّعتا اتفاقية تنص على وقف الأعمال القتالية لمدة تسعين يوماً وتمّ خرقه.
مع أن الاتفاق يقضي بتمديد وقف القتال لتسعين يوماً أخرى، كان من الواضح أنه في حال عدم إحراز تقدّم دبلوماسي ملموس، يتضمّن تعهّد إسرائيل بالانسحاب من قناة السويس، فستكون العودة إلى القتال مسألة وقت لا أكثر.
سرعان ما أصبح “الملاك” مورداً مهماً للإسرائيليين في محاولتهم فهم النيات المصرية بخصوص الحرب. وهذا السؤال الذي كانت الإجابة عنه هي المهمة الاستخباراتية الرئيسية التي أُوكلها الموساد إلى أشرف مروان، والسؤال الأساسي هو التالي: هل سيخوض المصريون الحرب ضدّ إسرائيل؟ ومتى؟
أصبح السؤال بغاية التعقيد طبعاً بوفاة عبد الناصر في أيلول 1970 وخلافة أنور السادات له. وفي سلسلة من اللقاءات اللاحقة بين دوبي ومروان، ارتسمت للزعيم المصري الجديد صورة رجل يواجه معضلة مستحيلة. من ناحية، كلما استعرض السادات الفرص المتاحة لهزيمة إسرائيل بطريقة عسكرية، كلما أدرك مدى قلتها وعدم جدواها. وفي نهاية حرب الاستنزاف، أصرّ بعض القادة المصريين على أنهم يعرفون كيف يسترجعون سيناء، لكن السادات لم يكن مقتنعاً بقدرة جيشه حتى الآن على عبور قناة السويس. وبدلاً من ذلك، كان يبدي اهتماماً أكثر بإطلاق عملية عسكرية محدودة تهدف لإعادة إسرائيل إلى طاولة المفاوضات. لكن حتى ذلك كان يبدو خطيراً، فقد حذّرت اسرائيل علانية أنها لن تقف مكتوفة الأيدي أمام أيّ عمليات حربية تقوم بها مصر. وأقصى ما كان يربك السادات كان التفوق الجوي الإسرائيلي، الذي حوّل الجبهة المصرية الداخلية إلى هدف هشّ.
الطريقة الوحيدة أمام المصريين لإبعاد الإسرائيليين عن استخدام قوتهم الجوية بكامل ثقلها، كانت بإقناع السوفيات إعطاء مصر بعض “أسلحة الردع” المهمة، تحديداً الطائرات الحربية بعيدة المدى التي يمكنها مهاجمة القواعد الجوية الإسرائيلية، وصواريخ باستطاعتها الوصول إلى المراكز السكنية الإسرائيلية. لكن السوفيات، بدافع خوفهم من هزيمة أخرى لمصر، وبهدف الحفاظ على توافق مع الأميركيين، لم يستجيبوا لذلك. وبذلك اقتنع السادات في بدايات عام 1971، أنه لا يملك خياراً عسكرياً.

تعاظم أهمية أشرف مروان
تحدّث مروان في اجتماعه مع دوبي في بداية عام 1971، عن انسداد الأفق الذي يشعر السادات به، مضيفاً أنه حتى لو كان الرئيس الحالي أكثر انفتاحاً من سلفه على الاتفاق السياسي، فإنّ أفضل ما يطمح إليه كان هدنة واسعة النطاق وليس اتفاقية سلام. كما شرح مروان المفهوم المصري الجديد للمعركة الهجومية الذي طوّره وزير الدفاع محمد فوزي والنقاش العقيم مع السوفيات بشأن تزويدهم بـ”أسلحة الردع”. من كل ذلك، أدرك الإسرائيليون مدى عدم واقعية الخبار العسكري بالنسبة إلى المصريين، ما أعطى تأييداً لموقف الحكومة الإسرائيلية، وخاصة غولدا مائيرGolda Meir ، التي كانت تعارض المساعي الدبلوماسية.

كانت التوقّعات، سواء في العالم العربي أو في إسرائيل، أنّ السادات لن يتمكن من الاحتفاظ بالسلطة لفترة طويلة. لكن في غضون الأشهر القليلة التالية رسّخ موقعه مُلحقاً الهزيمة بخصومه وسابحاً إلى برّ النجاة

أصبح من الواضح مع تعاظم أهمية مروان، ضرورة تقديمه لعناصر من فروع الاستخبارات الإسرائيلية، وهم أشخاص يمكنهم إضفاء خبراتهم الشخصية على الحوار. لم يكن ذلك أمراً غير اعتيادي. فبحسب التقسيم الذي كان مُعتمداً في ذلك الوقت للعاملين في الاستخبارات الإسرائيلية، كانت الوكالة المسؤولة عن وضع التقييمات الاستخباراتية الوطنية هي الاستخبارات العسكرية.
في حين كان الموساد في الأصل تحت إمرة رئيس الوزراء ومهمته تنفيذ العمليات في الدول العربية والأماكن الأخرى ذات الصلة. بعد ذلك كانت المعلومات التي يجمعها الموساد تُرسل إلى شعبة الأبحاث في الاستخبارات العسكرية، التي كانت الزبون الرئيسي لمعلومات الموساد،  حيث يجري هناك تحليلها مع المواد التي يجمعها “الشين بيت” جهاز الأمن العام أو الاستخبارات الداخلية، والاستخبارات العسكرية نفسها، لتقوم شعبة الأبحاث في النهاية بوضع أولويات جمع المعلومات، ومن ضمنها الأسئلة التي يريد الجيش إجابات عليها.
الوحدة 11 في الاستخبارات العسكرية كانت مسؤولة عن العلاقات مع الموساد، وتُحضّر الأسئلة وترسلها إلى فرع عمليات “تيزموت” في الموساد، الذي يقوم بدوره بتمريرها إلى المشرفين الذين لهم علاقة بالموضوع. تلك كانت الطريقة التي تمّت وفقها إدارة التعامل مع مروان منذ اللقاء الأول معه، وحتى أوائل ربيع 1971. كان على دوبي أن يطرح على مروان الأسئلة نفسها التي أرسلتها الوحدة 11، ويكتب الأجوبة ثم يعيدها إلى شعبة أبحاث الاستخبارات العسكرية واستخبارات القوات الجوية.

خطط الجيش المصري لـ”عبور القناة”
سرعان ما وضع مروان نفسه في أعلى صفوف العملاء الإسرائيليين في العالم العربي برمته. فقرّرت قيادات الموساد والاستخبارات العسكرية على ضوء أهمية المعارك الجوية في أيّ صراع مع مصر، وقدرة مروان على الوصول إلى مواد حسّاسة في ذلك المضمار، أنه من المفيد لو يقابله محلّل من استخبارات القوى الجوية الإسرائيلية. لكن الرجل الذي يعتقدون أنه أفضل من يستفيد من اللقاء المباشر كان رئيس الفرع 6 (مصر) في شعبة الأبحاث، المقدّم مائير مائير Meir Meir. ومع الخبرة التي راكمها مائير مع “الطارقين” المصريين. كان هناك ما يوحي  بشيء مختلف حيال هذا. العجلة في استعمال الجاسوس الجديد، ومشاركة رئيس الاستخبارات بنفسه في هذا الأمر، ونوعية المعلومات التي قدّمها المصدر، كل ذلك كان يشير إلى شخص في موقع مختلف تماماً.
دام الاجتماع بين مائير ومروان ثلاث ساعات كاملة. ومع انتهائه، أعطى مائير لمروان المهمة المطلوبة منه للاجتماع المقبل. إذ عليه أن يُحضر معه خطط الجيش المصري لعبور قناة السويس، بالإضافة إلى أمر المعركة الموجّه إلى كامل الجيش المصري. تلك كانت الأولوية القصوى لدى الفرع 6، بالإضافة إلى نوعية المواد التي ستبطل كل الشكوك في احتمال كونه عميلاً مزدوجاً.
حصل اللقاء التالي بين مائير مائير وأشرف مروان بعد أربعة أشهر تقريباً. كان السادات قد أعلن أنّ سنة 1971 ستكون سنة اتخاذ القرار بين الطريقين الدبلوماسي والعسكري لاستعادة سيناء. ومع عدم إحراز أيّ تقدّم دبلوماسي، أصبح خيار الحرب على السكّة. لكن الاستعدادات المصرية للحرب لم تتطوّر بشكل كبير. وبناء عليه، كان السادات يعلم أن جيشه غير جاهز للنيل من الجيش الإسرائيلي.
وبالفعل، كان السؤال إن كان القتال “سيتجدّد ومتى؟”، في صلب أسئلة مائير في اجتماعهما التالي. والأجوبة التي أعطاها مروان لم تكن مُرضية تماماً. لكن لم يعد ذلك مهماً بعد أن أخرج مروان الوثائق التي أحضرها معه. مائير يمسك بيديه الآن بالخطط الموضوعة لعبور قناة السويس وأمر المعركة لكامل الجيش المصري، وهو ما كان قد طلبه تماماً. إن كانت هناك أي شكوك لدى مائير في نيات مروان، فقد زالت الآن.

إقرأ أيضاً: أشرف مروان يفاجئ الموساد بعرض خدماته

تحالف وثيق بين مروان والسادات
في الأشهر التي أعقبت اجتماعهما الأخير، شهدت مصر عدداً من التغييرات الداخلية بعد الصحوة من موت عبد الناصر. والآن يشغل معظم المراكز العليا في مصر طاقم جديد من القادة، وأحدهم كان أشرف مروان. خلف السادات عبد الناصر وكان نائبه، وهو أحد الأعضاء الأقل بروزاً في القيادة المصرية التي تولّت زمام الأمور بعد حركة الضباط الأحرار عام 1952.
كانت التوقّعات، سواء في العالم العربي أو في إسرائيل، أنّ السادات لن يتمكن من الاحتفاظ بالسلطة لفترة طويلة. لكن في غضون الأشهر القليلة التالية رسّخ موقعه مُلحقاً الهزيمة بخصومه وسابحاً إلى برّ النجاة. أما المرحلة ما بين وفاة عبد الناصر في أيلول 1970 وذروة حملة التطهير التي شنّها السادات على الناصريين في أيار العام التالي والتي أطلق عليها اسم “الثورة التصحيحية”، فقد أثبتت براعته في الإبحار في عالم السياسة، وأثارت إعجاب المراقبين حول العالم.
بالنسبة إلى أنشطة مروان السياسية خلال الأشهر القليلة نفسها، لم تلفت انتباهاً كثيراً إليها، إلا في أوساط قادة الاستخبارات الإسرائيلية. وعلى غرار السادات، أظهر مروان قدرة منقطعة النظير على استغلال الفرص وتحويل الخصوم ليصبحوا في صفه. وهنا برز تحالف وثيق العروة بين السادات وصهر عبد الناصر الشاب والطموح، وهو تحالف لعب الحظ دوراً كبيراً فيه.
والنتيجة أنه بحلول أيار 1971، بعد أن رسّخ السادات حكمه لمصر، كان مروان قد حقّق قفزة هائلة في سلم الهرمية المصرية. وهكذا أصبحت مصر كتاباً مفتوحاً بالنسبة إلى الاستخبارات الإسرائيلية.

 

في الحلقة الرابعة غداً:

المعلومات التي أوقفت تحرير الجولان في 1973

لمتابعة الكاتب على تويتر: HishamAlaywan64@

 

مواضيع ذات صلة

السّيناريو البديل عن الانتخاب: تطيير الجلسة تحضيراً لرئاسة ترامب!

في حين يترقّب الجميع جلسة التاسع من كانون الثاني، يحتلّ عنوانان أساسيّان المشهد السياسي: من هو الرئيس المقبل؟ وهل يحتاج موظّفو الفئة الأولى، كقائد الجيش…

1701 “بضاعة” منتهية الصّلاحيّة؟

لا شكّ أنّ ما يراه المسؤولون الإسرائيليون “فرصة لا تتكرّر إلّا كلّ مئة عام” في سوريا تتيح، بعد سقوط نظام بشار الأسد، اقتطاع منطقة من…

الثنائي وترشيح عون: سوياً ضده… أو معه

كعادته، وعلى طريقته، خلط وليد جنبلاط الأوراق عبر رمي قنبلة ترشيحه قائد الجيش العماد جوزف عون لرئاسة الجمهورية، ليحرّك مياه الرئاسة الراكدة. قبيل عودته إلى…

الليلة الأخيرة لـ”ديكتاتور الشّام”..

تحملُ ليلة هروب رئيس النّظام السّوريّ المخلوع بشّار حافظ الأسد قصصاً وروايات مُتعدّدة عن تفاصيل السّاعات الأخيرة لـ”ديكتاتور الشّام”، قبل أن يتركَ العاصمة السّوريّة دمشق…