السفيرة الأميركية في لبنان دوروثي شيا تملأ دنياه وتشغل ناسه. هي محور أحاديث أهله ومحطّ أنظارهم، ساسةً وأمنيّين واقتصاديين ومواطنين عاديين ومثقّفين وفنّانين وكتّاباً وشعراء. وهي محور السياسة والأمن والاقتصاد والفنّ والسياحة فيه.
تملأ شيا الفراغ الذي نحن فيه، بفنّ واحتراف. من صخرة الروشة إلى أعمدة بعلبك، ومن الفجر حتى آخر الليل. جديدها هو فيديو راقص مع الراقصة والفنّانة اللبنانية سماهر، حيث هزّ وسط شرقيّ على أنغام مصريّة. قبلها فتحت شهيّتنا على فطور صباحي قبالة صخرة الروشة، وبينهما أخذتنا إلى ظلال قلعة بعلبك. هي دليل سياحي كامل يغطّي كامل التراب الوطني والجغرافيا والتاريخ… والحاضر.
[VIDEO]
وسّع… وسّع
هذا في السياحة، أمّا في الأمن فملأت الفراغ الذي نحن فيه قبل أيام بحادثة إطلاق النار على مقرّها. كي لا تردّ على الفاعل الحقيقي وافقت على رواية الأجهزة الأمنيّة عندنا عن عامل ديليفري مجرم أو مختلّ. الرواية كانت كلفتها أنّ الأجهزة الأمنية لم تهدأ حتى كشفت “الفاعل” وألقت القبض عليه، كاعتذار وتطييب خاطر، وخاطر السفيرة رفيع وغالٍ.
تدور ألسنة السياسيين في لبنان على المواضيع كافّة، ومن أقصى شرق الأرض إلى أقصى مغربها، لكنّ عقولهم معها، في خاطرها. لا يهدأ بالهم وتنتظم أمورهم حتى يعرفوا ما يدور في بالها.
أمّا في الاقتصاد، فللسفيرة شأن آخر. تبدو سفيرة كتاب “البخلاء” للجاحظ في بلادنا. تروّج للسياحة وتدعم الاقتصاد بصحن فول وبمنقوشة… وأحياناً بكأسَين. تخوض في المواضيع السياسية كلّها، وتبخل علينا بهداوة البال.
تشغل السفيرة الأميركية الأمن عندنا وتبخل بما يحتاج إليه فعليّاً من دعم. حتى القطاع الصحّي لم يغب عن بالها. بلادها تقيم جسراً جوّياً على عجل لإنقاذ ما يمكن إنقاذه في إسرائيل، وأمّا نحن فلنا بضع كمّامات، ذات فيروس. تعِد بالكهرباء، وتشعل الليل عندنا وترقص على أنغام “وسّع… وسّع”. وسّعنا تفضّلي. وسّعنا من البحر حتى أعمدة جوبيتر. ومن الفجر إلى النجر. ومن المهد إلى اللحد. نحن أساساً جماعات “موسّعة”. تفضّلي سعادة السفيرة. تفضّلي إلى مغارة مليتا إذا شئتِ، نحن كلّنا للسياحة، من المقاومة حتى كوع الكحّالة، مروراً بمستديرة الطيّونة، انتهاءً بطلوع الروح.
رقص وسياحة ورسم
طبعاً ليس لكاتب هذه الأسطر قدرة الاعتراض على سلوكيات السفيرة هذه. أكثر من ذلك، أتمنّى لو تأخذ كامل حرّيتها وتتصرّف على راحتها سياحياً. لو الأمر لي، ما اخترت غيرها وزيرةً للسياحة في لبنان، وربّما للبيئة أيضاً. بجولاتها السياحية هذه وحياتها الشخصية الصاخبة، تقول السفيرة للسيّاح تعالوا. وهذا تُشكر عليه.
في الثقافة والفنّ تُشكر كذلك. لكنّها في السياسة لا تقول تعالوا. في الاقتصاد كذلك. خاطبت اللبنانيين ووعدتهم بالكهرباء، لكنّها لم تخاطب الكهرباء. لم تقُل لها تعالَيْ. لم تقُل للنفط والغاز في بحرنا: تعاليا. اخرجا. انبعا. انزلا على الاقتصاد دفئاً وسلاماً. ربّما أومأت بذلك، لكنّنا لم نسمع ولم نرَ.
في سفارتها الأولى تضيّق، وفي الثانية توسّع، ونحن بين السفارتين صمٌّ بكمٌ عميٌ، وبلا رئيس. لا همّ. المهمّ عندنا سفيرة أميركية. وعندنا ليل وآثار وأعمدة. وعندنا فراغ تعكّر هدوءه سفيرة
مُلهمة “الثوّار”
قالت شيا للثوّار انزلوا، وذهبت إلى الذين قبالتهم. إلى السياسيين بمختلف أنواع فسادهم. لم تبادر في هذا الشغور الرئاسي بعد. لم تخطُ خطوةً نحو الأجواء الإيجابية. الفراغ نعمة لها، وربّما لنا. الفراغ نملأه بمياه المتوسط وظلال أعمدة بعلبك. نملأه رقصاً وغناءً. نملأه سياحةً وسفراً… وهجرةً. أمّا هذا الظلام فنعلّق فيه شرطاننا على وعودها وتعمّ الكهرباء، بعدما ملأناه رسماً في الأمس القريب، فحدّدنا الحدود، وعمّ الأمن والهدوء.
سفيرتان في سفيرة
تبدو السفيرة شيا سفيرتين في سفارة واحدة. سفيرة في الجمهورية اللبنانية شبه المنهارة والمعطّلة والمعادية. وسفيرة في لبنان الآخر. لبنان السياحة والثقافة والبحر والجبل. لبنان الحضارات والآثار والثقافات والمسارح والشعراء. سفيرة في لبنان السيد حسن نصر الله، وسفيرة ثانية في لبنان سعيد عقل والرحابنة وفيروز، وإن على أنغام “وسّع وسّع”.
في سفارتها الأولى تضيّق، وفي الثانية توسّع، ونحن بين السفارتين صمٌّ بكمٌ عميٌ، وبلا رئيس. لا همّ. المهمّ عندنا سفيرة أميركية. وعندنا ليل وآثار وأعمدة. وعندنا فراغ تعكّر هدوءه سفيرة.
إقرأ أيضاً: استجابت طهران لواشنطن فأجاز السيّد التفاوض برّاً
يعرف السفراء جيّداً من يمثّلون وأين؟ يتقنون أكل رؤوس الشعوب. نحن نؤتى بالعتابا والميجانا والكبّة والتبّولة. نحن أهل البحر والجبل والأعمدة. أهل السياحة والثقافة والتاريخ. أهل الوعود والقصائد والديباجات. نحن الذين نعيش على مهل، ولا يمرّ الوقت في بلادنا. فلماذا العجلة؟ اليوم سياحة، وغداً أمر. الغد هناك، والعمل والفعل والمشاريع كذلك. هنا بلاد الراحة والاستمتاع والاستجمام. فراغ يبعث على الهدوء والاستجمام… وهزّ الوسط والسحب من النارجيلة.
السحب من أعماق البحار هناك. “وسّع وسّع”.
لمتابعة الكاتب على تويتر: jezzini_ayman@