“لبنانان لا لبنان”: معرضان لكتابٍ واحد

مدة القراءة 5 د


وصلت الموسى إلى معرض الكتاب العربي والدولي في العاصمة اللبنانية بيروت. ومعرض الكتاب لبيروت أهمّ من الرقبة للإنسان. المعرض الذي كان يُقام في بيروت منذ نصف قرن وأكثر، صار معرضَين: واحد دولي، وآخر عربي ودولي.
معرض لنقابة اتحاد الناشرين اللبنانيين برعاية وزارة الثقافة اللبنانية، والثاني للنادي الثقافي العربي، الراعي والمنظّم الرسمي للمعرض منذ عقود. ينطلق الأول في 13 تشرين الأول 2023، حتى 22 منه، في “الفوروم دو بيروت”. أمّا الثاني فينطلق في 23 تشرين الثاني وينتهي في 3 كانون الأول 2023، في مركز سيسايد/البيال سابقاً.
كثرة المعارض غنى ثقافي ومعرفي للبنان. وهي دلالة على تعافٍ ونموّ. لكنّها للأسف، ليست كذلك في حالتنا الراهنة، وإن روّج كثر للتعدّدية اللبنانية، وتشدّقوا بالتنوّع اللبناني. فالمعرضان اللذان توحّدا في تسعينيات القرن الماضي، ليشكّلا معرضاً كان قبلةً للّبنانيين والعرب والأجانب، ومتنفّساً ثقافياً وواجهةً لطالما افتخر بها لبنان، لم يعودا كذلك. والأمر لم يعد خافياً على أحد. فصفحات كتابنا نحن اللبنانيين، منشورة فوق السطوح كما الغسيل، على ما يقول المثل السائر.

معرضان رسميّان؟
أعلنت اللجنة المنظِّمة لمعرض لبنان الدولي للكتاب 2023، في بيان لها، أنّه “إيماناً بدور الكلمة والحرف والكتاب في تطوّر الأمم، ولأنّ لبنان يعيش أزمةً، ولأنّ الثقافة هي السلاح الأفضل لعبور التجارب القاسية، جاء قرار وزارة الثقافة إقامة معرض لبنان الدولي للكتاب، وأسندت تنظيمه إلى نقابة اتحاد الناشرين في لبنان الذين يحتفلون بنسخته الثامنة، وسيعتبر المعرض الرسمي للجمهورية اللبنانية، وهو الحدث الثقافي الأبرز”، وذلك من 13 تشرين الأول 2023 حتى 22 منه في “الفوروم دو بيروت” ابتداءً من العاشرة صباحاً حتى الثامنة مساءً، ويومَي السبت والأحد حتى العاشرة مساء.

وصل الخلاف إلى الكتب، ومعارض الكتب. المعادلة صارت واضحةً: يوجد لبنانان لا لبنان، وذلك على عكس ما قاله رئيس الوزراء الراحل صائب سلام. الآن، هناك حلفان وفريقان وسلاحان وقراران واقتصادان وسياستان… ومعرضان للكتاب الواحد

ما سبق يحمل في طيّاته الخبر اليقين، بل الأخبار كلّها في الكلمات المُستعمَلَة: “أزمة”، “سلاح”، “تجارب قاسية”، و”المعرض الرسمي”. الجهة الراعية، أي وزارة الثقافة التي يرأسها الوزير محمد مرتضى، انتماؤها واضح: هي من حصّة الثنائي الشيعي، الحزب وحركة أمل.
أمّا المعرض الثاني، أي المعرض التاريخي الذي يرعاه رئيس مجلس الوزراء شخصياً وحضورياً، معرض بيروت العربي والدولي للكتاب في دورته الخامسة والستين، فأحاطت الجهة التي تنظّمه، أي النادي الثقافي العربي، جميع المعنيين والمهتمّين من دور نشر وكتّاب وهيئات ثقافية، باستمراره في تلقّي طلبات الاشتراك في المعرض الذي يقام في مركز سي سايد للمعارض، بين 23 تشرين الثاني و3 كانون الأول 2023.
ليس هذا الانتقال غير المفاجئ من جهة إلى جهة سوى انعكاس لانقلاب في الحياة اللبنانية عموماً، من سلاح وغلبة، ظهرت تجلّياتهما في مختلف المجالات حتى وصلت إلى حصن لبنان الأخير وسيفه وترسه: الكتاب ومعرضه.

صورة قصمت ظهر المعرض؟
لا سبب حقيقياً للخلاف بين الجهتين، اللهمّ إلا إذا كان الإشكال الذي وقع في دورة المعرض الثالثة والستين في آذار 2022، بسبب صورة الجنرال الإيراني قاسم سليماني التي نُصبت بين الكتب في جناح “دار المودة”، هو السبب. يومها، كاد دم الكتب يمتزج بدم القرّاء وربّما الكتّاب، لولا تدارك الجهة المنظّمة والأجهزة الأمنيّة الأمر.
وصل الخلاف إلى الكتب، ومعارض الكتب. المعادلة صارت واضحةً: يوجد لبنانان لا لبنان، وذلك على عكس ما قاله رئيس الوزراء الراحل صائب سلام. الآن، هناك حلفان وفريقان وسلاحان وقراران واقتصادان وسياستان… ومعرضان للكتاب الواحد.

من الآن وصاعداً لا تقُل لي أيّ كتاب قرأت، بل قل لي من أيّ معرض اشتريت الكتاب الذي قرأته أو ستقرأه! عندها سأقول لك من أيّ القرّاء أنت، وإلى أيّ الفريقين المتنازعين تنتمي.
في معرض النادي الثقافي العربي، أنت من 14 آذار، وصولاً إلى الناتو. أمّا في معرض اتحاد الناشرين، فأنت من 8 آذار، وصولاً إلى البريكس وسور الصين العظيم. في الأول أنت مستغرب، ومطبّع، وعميل. في الثاني أنت شرقي مقاوم وصامد.
تفصل بين المعرضين أمتار قليلة… ودول وأحلاف وسياسات. تفصل بينهما أمتار كانت قبل اتفاق الطائف تفصل بين المتاريس. نعم المتاريس التي صارت شبه جاهزة، في حال قرّر الآخرون أن يجدّدوا حروبهم على أرضنا. سيقف كلّ واحد منّا في معرض، أو خلف كتاب، ونتراشق بالرصاص، ثمّ يسيل منّا حبرٌ كثير. حبرٌ يروي عطش ثقافتَيْنا.

إقرأ أيضاً: أمين معلوف… الشرق يشرق في الغرب

قد يكون مفهوماً أن ننقسم حول كتابة التاريخ، تاريخنا، وأن نختلف حول السياسات الاقتصادية والاجتماعية، والتحالفات الإقليمية والدولية. ومفهوم ضمن منطق الغلبة الذي يدور على الطوائف أن يحتكر فريق ما، وهو الثنائي الشيعي الآن، قرار السلم والحرب. وللمرء أن يتفهّم بل ويحبّذ أن يكتب الطرفان ما يشاءان، وأن يطبعا من الكتب ما لذّ لهما وطاب. وللمرء نفسه أن يتفهّم ألّا يقرأ أيّ منهما في كتاب الآخر. أمّا معرضان للكتاب تفصل بينهما أمتار قليلة، وأيام أقلّ، فهذه والله فرادة لبنانية وتميُّز.
ارحمونا قبل أن نصل إلى يوم لا يبقى فينا من يقرأ ولا من يكتب، ولا حتى من يقيم معرضاً لكتاب.

 

لمتابعة الكاتب على تويتر: jezzini_ayman@

مواضيع ذات صلة

سجون داعش… متحف افتراضيّ لحكايا الجرائم

قبل كلّ هذه الموجة العسكرية الجديدة في سوريا، وعودة “جبهة النصرة” المولودة من رحم تنظيم “داعش”، باسمها الجديد: “هيئة تحرير الشام”، وقبل التطوّرات الأخيرة التي…

مهرجان BAFF يضيء على “روح” لبنان… في لحظة موت

يقدّم مهرجان BAFF هذا العام، الذي انطلق اليوم الإثنين، عدداً من الأفلام التي تحيّي “طرابلس عاصمة الثقافة العربية” و”أسرار مملكة بيبلوس” و”المكتبة الشرقية إن حكت”…

بيروت تتنفّس الصّعداء: سينما… وبوح النّازحين

بدأت الحياة الثقافية تتنفّس الصعداء في لبنان وإن بخجل، بعد شلل قسري تامّ منذ أواخر أيلول الماضي وتوسّع الحرب الإسرائيلية على لبنان وتخطّيها الحدود إلى…

فيلم “أرزة”: بارقة أمل لبنانيّة… من مصر إلى الأوسكار

أينما يحلّ فيلم “أرزة” اللبناني (إخراج ميرا شعيب وتأليف فيصل سام شعيب ولؤي خريش وإنتاج علي العربي) يمنح المشاهد، وخصوصاً اللبنانيين، الكثير من الأمل. فعدا…