نجاح سلام… بيروت إذ تغنّي للعرب

مدة القراءة 6 د


كلّما ذهبت قامةٌ أدراج التراب، يخرج علينا من يقول إنّ الزمن الجميل مات. من ينعى الزمن، يجرؤ على الحياة، وعلى الله، خالقها. الزمن يمضي، وأمّا الذين يسبّحون باسم خالقه، بأصواتهم التي تطرب لها الدنيا، فعصيّون على الموت، وعصيّات في هذه العجالة. الزمن لا يموت. وحدهم ووحدهنّ الجميلون والجميلات يرحلون عن عالمنا، تاركين جمالهم بيننا، فنسمّيه “الزمن الجميل”، كلّما استحضرناه، أو استحضرنا.

غادرتنا اليوم، الفنّانة اللبنانية البيروتية، نجاح سلام، بعد مسيرة طويلة من الفنّ، ومسار أطول من احترام النفس والذات والفنّ والمجتمع وبيروت. وبيروت مدينة وهويّة وفنّ وانتماء، يحملها أبناؤها وبناتها على أكتافهم وفي أصواتهم وتخفق لها قلوبهم وتصدح بمعانيها أخلاقهم. كانت الراحلة اسماً على مسمّى، إذ اجتمع فيها نجاح وسلام. صوت وأداء. شهرة وتواضع. فنّ وأصول. دين ودنيا. بيروت وشقيقتها القاهرة، وسائر أفراد العائلة من دمشق إلى بغداد فعمّان ودمشق، وصولاً إلى الدار البيضاء والجزائر والمغرب.

غادرتنا اليوم، الفنّانة اللبنانية البيروتية، نجاح سلام، بعد مسيرة طويلة من الفنّ، ومسار أطول من احترام النفس والذات والفنّ والمجتمع وبيروت

نجاح وسلام

في عائلة بيروتية عريقة، وُلدت عام 1931. فآل سلام في بيروت أعلام في الدنيا والفنّ والسياسة والتجارة والتربية والدين والأخلاق… والوطن. ككلّ البيروتيّين لمع “السلاميّون” في سماء المدينة وشقيقاتها المدن العربية من القاهرة إلى مكّة، ثمّ إلى بيروت الأصل والمنبت والمآل. حملوا أخلاق بيروت وصوتها وبحرها وبرّها وتاريخها الضارب في الفنّ والفكر والإبداع. لا أدلّ على ما أقول ولا أفصح من سيرة الراحلة ومسيرتها. جدّها مفتي لبنان الشيخ عبد الرحمن سلام. والدها الفنّان والأديب محيي الدين سلام، الملحّن وعازف العود الشهير في لبنان والوطن العربي. شقيقها الصحافي عبد الرحمن سلام. أمّا زوجها فالفنّان الراحل محمد سلمان. برز صوتها وهي على مقاعد الدراسة في الحفلات المدرسية. وعام 1948، اصطحبها والدها إلى القاهرة، حيث صدحت هناك تغنّي لبيروت و”أمّ الدنيا”، وعبد الناصر. فأصدرت عام 1949، أغنيتَيْها اللتين ما تزال تتناقلهما الإذاعات حتى يومنا هذا: “حوّل يا غنّام” و”يا جارحة قلبي”، وسجّلتهما شركة بيضا فون الشهيرة.

تعرّفت في القاهرة إلى الكبار في عالم الغناء والموسيقى والطرب من أمّ كلثوم وعبد الوهاب والشيخ زكريا أحمد وفريد الأطرش وأسمهان، والكبار في التمثيل من فريد شوقي وكمال الشنّاوي إلى سعاد حسني وشمس البارودي وغيرهم كثر. كانت طوال نصف قرن من الزمن صوت بيروت في القاهرة وصوت القاهرة في بيروت وفي عواصم العالم كلّها. وفي العواصم العربية والعالمية كلّها كانت نجاحاً وسلاماً، وصوتاً صدّاحاً لخفقات القلب كلّ قلب. 

لكنّ صوتها لعلع في أثناء العدوان الثلاثي على مصر، فصدحت يومها بأغنيتها الشهيرة “يا أغلى اسم في الوجود”، ثمّ “أنا النيل مقبرة للغزاة”، وهي قصيدة الشاعر محمود حسن إسماعيل. لم تكن نجاح سلام صوتاً لمصر في حروبها فحسب، بل غنّت لسوريا، “سوريا يا حبيبتي”، خلال حرب تشرين 1973. 

اشتهرت أغانيها في معظم البلاد العربية، فمن فيها لا يعرف “برهوم حاكيني”، و”زنّوبة”، و”الشابّ الأسمر” و”حوّل يا غنّام”، و”ميّل يا غزيّل”؟ 

إلى الأغاني العاطفية والوطنية، صدحت سلام بالابتهالات الدينية، التي من ألحان والدها المبدع محيي الدين سلام، من “يا ملاذ الغريب” و”يا فم الدهر”، إلى “سبحان علّام الغيوب”.

أمّا انطلاقتها في لبنان فكانت من خلال الإذاعة اللبنانية في عام 1950، حين سجّلت “على مسرحك يا دنيا”، ثمّ كرّت السبحة، إلى أن غنّت للبنان يوم أطفأت الحرب محرّكاتها “لبنان درّة الشرق” من كلمات الشاعر صالح الدسوقي وألحان الفنّان أمجد العطافي.

في أيّامنا هذه، أيام الفراغ وأيام لبنان الزائل، يطلّ كلّ يوم لبنان المجد والخلود، ليذكّرنا بما يجب أن نكون وما يجب أن نفعل. فيوم يلمع اسم أمين معلوف في الأكاديمية الفرنسية بين “الخالدين”، ويوم تغادرنا نجاح سلام

في السينما والتمثيل

لأنّ المواهب الفنّية لا يمكن حبسها في قمقم، أو حصرها في مجال، فالأرواح الخلّاقة والمبدعة لا يحدّها حدّ ولا يحجبها حاجب، برزت سلام في عالم السينما والتمثيل منذ فيلمها الأوّل “على كيفك”، مع الفنّانة ليلى فوزي، ثمّ تتالت الأفلام من دون أن تشغلها عن الأغاني العاطفية والوطنية ثمّ الابتهالات الدينية: فكان فيلمها الثاني “ابن ذوات” مع إسماعيل ياسين وعبد السلام النابلسي، ثمّ “الدنيا لمّا تضحك” مع شكري سرحان وإسماعيل ياسين، ثمّ “الكمساريّات الفاتنات” مع كارم محمود، ثمّ “السعد وعد” مع المطرب اللبناني محمد سلمان الذي صار زوجها، على إثر هذا الفيلم. ولم تنتهِ مسيرتها مع “سرّ الهاربة” بجانب الفنّانة سعاد حسني وكمال الشنّاوي، ثمّ فيلم “الشيطان” مع فريد شوقي وشمس البارودي.

أوسمة وتكريمات

في أعمالها كلّها غناءً وتمثيلاً وابتهالات، كانت نجاح سلام كبيرةً بين الكبار، فانتشت بصوتها ألحان فريد الأطرش، ورقص على وقع كلماتها عبد الحليم حافظ، وصارت سعاد حسني بجانبها أبهى وأحلى. في عام 1974، بعيد اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية انتقلت سلام إلى مصر للإقامة، فكرّمتها خير تكريم بمنحها الجنسية المصرية، وأُطلق عليها لقب “عاشقة مصر” لمساهماتها في الفنّ عموماً من غناء وأفلام، وفي الأغنيات الوطنية خصوصاً، ولا سيما خلال فترة حكم الرئيس جمال عبد الناصر. وكرّمها الرئيس الأسبق إلياس الهراوي، بمنحها وسام الاستحقاق برتبة فارس. وحصلت على جائزة الأوسكار من جمعية تكريم عمالقة الفنّ العربي في الولايات المتحدة الأميركية عام 1995.

إقرأ أيضاً: أمين معلوف… الشرق يشرق في الغرب

فنّها رسالة كما موتها

في أيّامنا هذه، أيام الفراغ وأيام لبنان الزائل، يطلّ كلّ يوم لبنان المجد والخلود، ليذكّرنا بما يجب أن نكون وما يجب أن نفعل. فيوم يلمع اسم أمين معلوف في الأكاديمية الفرنسية بين “الخالدين”، ويوم تغادرنا نجاح سلام، وفي آخر مسرحية أو تكريم وغالباً خارج لبنان لفنّان لبناني أو مبدع أو شاعر أو مخرج، ربّما يقولون لنا في إبداعهم ومجدهم وحتى رحيلهم: نحن مجد لبنان، وبوصلة الخلاص، وأمّا أنتم فزائلون، ولا تأخذون الوطن إلا إلى الهاوية وإلى جهنّم.

مواضيع ذات صلة

قمّة الرّياض: القضيّة الفلسطينيّة تخلع ثوبها الإيرانيّ

 تستخدم السعودية قدراً غير مسبوق من أوراق الثقل الدولي لفرض “إقامة الدولة الفلسطينية” عنواناً لا يمكن تجاوزه من قبل الإدارة الأميركية المقبلة، حتى قبل أن…

نهج سليم عياش المُفترض التّخلّص منه!

من جريمة اغتيال رفيق الحريري في 2005 إلى جريمة ربط مصير لبنان بحرب غزّة في 2023، لم يكن سليم عياش سوى رمز من رموز كثيرة…

لبنان بين ولاية الفقيه وولاية النّبيه

فضّل “الحزب” وحدة ساحات “ولاية الفقيه”، على وحدانية الشراكة اللبنانية الوطنية. ذهب إلى غزة عبر إسناد متهوّر، فأعلن الكيان الإسرائيلي ضدّه حرباً كاملة الأوصاف. إنّه…

الأكراد في الشّرق الأوسط: “المايسترو” بهشلي برعاية إردوغان (1/2)

قال “أبو القومية التركية” المفكّر ضياء غوك ألب في عام 1920 إنّ التركي الذي لا يحبّ الأكراد ليس تركيّاً، وإنّ الكردي الذي لا يحبّ الأتراك…