ليس إطلاق النار في اتجاه مدخل السفارة الأميركيّة في عوكر، قبل أيّام قليلة، حدثاً عادياً، وخصوصاً من ناحية توقيته، إذ يأتي في الذكرى السنوية الـ39 للتفجير الثاني للسفارة بعد انتقالها من عين المريسة إلى المنطقة الشرقية.
انتقلت السفارة من عين المريسة بعد تدميرها بواسطة انتحاري استطاع اقتحام مبناها في شاحنة مفخّخة في 18 نيسان 1983. من بين الضحايا الـ63، كان معظم ضبّاط الـ”سي. آي. إي” في المنطقة. كان هؤلاء يعقدون اجتماعاً سرّياً فيها، وكان على رأسهم بوب إيمز أحد أبرز مسؤولي وكالة الاستخبارات الأميركية العاملين في الشرق الأوسط وقتذاك.
ليس إطلاق النار في اتجاه مدخل السفارة الأميركيّة في عوكر، قبل أيّام قليلة، حدثاً عادياً، وخصوصاً من ناحية توقيته، إذ يأتي في الذكرى السنوية الـ39 للتفجير الثاني للسفارة بعد انتقالها من عين المريسة إلى المنطقة الشرقية
كان إطلاق رصاصات عدّة على السفارة في العشرين من الشهر الجاري رسالة إيرانيّة موجّهة إلى واشنطن. فحوى الرسالة أن ليس في استطاعة أيّ جهة في العالم الإتيان برئيس للجمهوريّة في لبنان بمعزل عن “الجمهوريّة الإسلاميّة” الإيرانيّة. الموضوع في غاية البساطة. لا فائدة من الجهود الفرنسية ومن المبعوث الرئاسي الفرنسي جان إيف لودريان، ولا فائدة من اللجنة الخماسية التي تضمّ ممثّلين للولايات المتحدة وفرنسا والمملكة العربيّة السعودية ومصر وقطر. لا فائدة من الدعوة الفرنسيّة للّبنانيين إلى إيجاد “خيار ثالث”، أي البحث عن مرشّح آخر غير سليمان فرنجيّة وجهاد أزعور. كذلك، لا فائدة من تهديد لودريان بأنّ الدول الأعضاء في اللجنة الخماسية “بدأت تتساءل عن جدوى مساعدة لبنان”.
اعتُقل مطلق النار على مدخل السفارة الأميركيّة أم لم يُعتقل. لن يقدّم ذلك ولن يؤخّر. المطلوب فقط الاعتراف بأنّ لبنان تحت السيطرة الإيرانيّة وأن ليس في الإمكان انتخاب رئيس للجمهورية اللبنانيّة من دون “الجمهوريّة الإسلاميّة”، أي من دون تفاهم بين طهران والرياض أو من دون حوار أميركي… أو من دون ضمّ إيران إلى اللجنة الخماسيّة.
إيران… وأميركا
يبدو أكثر من واضح أن لا مجال لأيّ تفاهم داخلي أو إقليمي أو دولي على انتخاب رئيس للجمهوريّة اللبنانيّة من دون مشاركة إيرانية واعتراف بالدور الإيراني في لبنان والاستثمار الكبير لـ”الجمهوريّة الإسلاميّة” في البلد، وهو استثمار عمره 44 عاماً. منذ قيام “الجمهوريّة الإسلاميّة” في 1979، ركّز النظام الإيراني على لبنان وعلى تغيير طبيعة البلد انطلاقاً من تغيير طبيعة المجتمع الشيعي فيه عبر وسائل مختلفة تشمل التعليم والخدمات الاجتماعيّة والتجنيد في الحزب والدورات الكشفية.
يصعب تعداد النجاحات التي حقّقتها إيران في لبنان منذ خطف رئيس الجامعة الأميركية ديفيد دودج من داخل حرم الجامعة في بيروت في 19 تموز 1982… ثمّ إطلاقه من طهران. تلا ذلك اغتيال مالكوم كير خليفة ديفيد دودج.
يتوّج العناوين الكبيرة للاستثمار الإيراني في لبنان طرد الأميركيين والفرنسيين من بيروت في 23 تشرين الأوّل 1983. قتل نحو 250 عسكرياً لدى تفجير مقرّ “المارينز” قرب مطار بيروت، وقُتل 58 عسكرياً فرنسياً في الوقت ذاته بالطريقة نفسها. يظلّ أكبر العناوين للاستثمار الإيراني، بل العنوان الأكبر، اغتيال رفيق الحريري ورفاقه وسلسلة الاغتيالات التي تلت الجريمة الفظيعة التي ذهب ضحيّتها لبنان وبيروت بالذات.
لم يطرأ أيّ تغيير على الطريقة الأميركية في التعاطي مع “الجمهوريّة الإسلاميّة”، خصوصاً في لبنان حيث ردّ ريغان على تفجير مقرّ “المارينز” بالانسحاب منه عسكرياً
لم يقضِ النظام الإيراني على بيروت، عبر الميليشيا اللبنانيّة التابعة له، كي يأتي من يخبره في 2023، خصوصاً بعد نجاحه في فرض ميشال عون وصهره جبران باسيل في قصر بعبدا في عام 2016، أنّ رئاسة الجمهوريّة لا شأن له بها. ما لا مفرّ من تذكّره أنّ ترسيم الحدود البحريّة بين لبنان وإسرائيل لم يكن ممكناً من دون ضوء أخضر من طهران ومن وكيلها اللبناني.
عزل لبنان عن محيطه
تستطيع إيران، التي افتعلت حرب صيف 2006 والتي ألغت الحدود بين سوريا ولبنان بإرسالها الحزب للمشاركة في الحرب على الشعب السوري، أن تعمل ما تشاء في لبنان. تستطيع، حتّى، بمجرّد رفع شعار حماية “المقاومة”، عزل لبنان عن محيطه العربي وتهميش البلد الصغير ودوره في المنطقة على كلّ صعيد. يشمل ذلك إلغاء النظام المصرفي اللبناني ومرفأ بيروت الذي كان في مرحلة معيّنة صاحب دور وموقع يتجاوزان لبنان.
لا يمكن تجاهل الدور الإيراني في لبنان في ظلّ توازن القوى القائم، وهو توازن يجعل “الجمهوريّة الإسلاميّة” أكثر هجوميّة من أيّ وقت في ضوء التطوّرات السوريّة. تسير التطوّرات السوريّة في غير مصلحة إيران ووجودها المباشر وغير المباشر في هذا البلد العربي الواقع تحت خمسة احتلالات.
في ضوء كلّ هذه المعطيات التي تستند إلى وقائع على الأرض اللبنانية وما هو أبعد منها، من المستبعد حدوث تراجع لـ”الجمهوريّة الإسلاميّة” في لبنان في ما يخصّ رئاسة الجمهوريّة. يشجّعها على ذلك طريقة التعامل الأميركيّة معها منذ احتجاز “الطلبة الثوريين” دبلوماسيّي السفارة الأميركيّة في طهران 444 يوماً ابتداء من تشرين الثاني 1979. لم يطلَق الدبلوماسيون إلّا بعد التوصّل إلى صفقة مع المرشّح دونالد ريغان الذي انتصر في الانتخابات على جيمي كارتر الذي لم يستطع الحصول على ولاية ثانية. كانت الصفقة بين الإيرانيين وبيل كايسي الذي مثّل ريغان في اجتماع عُقد في باريس. تقضي الصفقة بعدم إطلاق الدبلوماسيين الأميركيين (نحو 50) قبل موعد الانتخابات الرئاسيّة. ظهر كارتر في مظهر الرئيس الضعيف الذي استسلم أمام إيران ففشل في سعيه إلى ولاية ثانية.
إقرأ أيضاً: من الأمن العامّ إلى السفارة الأميركيّة… هكذا “انتقم” “حمّودي” الغاضب!
لم يطرأ أيّ تغيير على الطريقة الأميركية في التعاطي مع “الجمهوريّة الإسلاميّة”، خصوصاً في لبنان حيث ردّ ريغان على تفجير مقرّ “المارينز” بالانسحاب منه عسكرياً. في أيّامنا هذه، ما تزال أميركا مستعدّة لصفقات مع إيران. الدليل الصفقة الأخيرة التي شملت إطلاق طهران لرهائن أميركية في مقابل الحصول على ستّة مليارات دولار وربّما أكثر. أقصى ما تذهب إليه إدارة جو بايدن هو رفض إعطاء وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان تأشيرة تسمح له بزيارة واشنطن. ما الذي يمنع واشنطن حالياً من التفاوض مع إيران في شأن لبنان وفي شأن مستقبل البلد وما إذا كان يحقّ له برئيس للجمهورية أم لا؟