طفل ينظر من وراء الزجاج
كنّا نتحدّث عن لغته، الشاعر الذي لا يجيد الكلام إلا مبعثراً بسبب خجله كما لو أنّ أسنانه قد صُفّت بين كلمات متقاطعة. لم يكن يحبّ تغيير عاداته. فهو يجلس في المكان نفسه ولا يحبّ أن يرى سوى الوجوه اليومية نفسها. تلك وجبته الخيالية اليتيمة التي يذهب بها إلى النوم. حين كتب حسب الشيخ جعفر قصيدته “قارّة سابعة” انزلق بالحداثة الشعرية العربية وكان بدر شاكر السيّاب مثلَها الأعلى إلى جنّة وقائع وأفكار وأشكال وصور وتداعيات ويوميّات جديدة، كانت قد اُستُلّت من النثر، ولذلك كتبها كما لو أنّه يكتب حكاية على الرغم من أنّه حافظ على موسيقى العَروض التقليدي، فكانت القصيدة المدوّرة هي العنوان التقني لتجربته الشعرية. لم يخِفه النثر الذي تسلّل إلى قصيدته، فحكايته مع الشعر مختلفة كما حكايته مع الحياة.
يكفي أنّنا صدّقناه شاعراً كبيراً. لقد غيّر طريقة تفكيرنا في الشعر. كان سيّابيّاً (نسبة إلى بدر شاكر السيّاب) حين كتب ديوانه الأوّل “نخلة الله”، غير أنّه في ديوانه الثاني الذي ضمّ قصيدته “قارّة سابعة” وكان عنوانه “الطائر الخشبي” قلَب كلّ معادلات الحداثة الشعرية رأساً على قلب.
بعد وفاته عام 2022 (ولد عام 1942) قيل إنّ كلّ غراميّاته في موسكو التي رواها في قارّة سابعة هي من صنع أوهامه، وإنّه أحبّ ممثّلة عراقية كان يكتفي بالنظر إليها من وراء زجاج الكافيتريا ولم يقُل لها كلمة حبّ واحدة. من عرف حسب الشيخ جعفر عن قرب لا بدّ أن يصدّق تلك الحكاية. ليس المطلوب أن نصدّق ما يقوله الشاعر لكي يسحرنا شعره. كان هناك الكثير من الإيروتيك في شعره فيما كان حسب الطفل الذي هو الأكثر خجلاً في تاريخ الشعر العربي.
كنّا نتحدّث عن لغته، الشاعر الذي لا يجيد الكلام إلا مبعثراً بسبب خجله كما لو أنّ أسنانه قد صُفّت بين كلمات متقاطعة
ليس له مكان في الحفلة
حين حصل حسب الشيخ جعفر على جائزة سلطان العويس فوجئ الكثير من العرب. ذلك لأنّه كان مجهولاً. فالشاعر الذي نشر كتابه الشعري الأوّل في بيروت اكتفى عبر سني حياته بنشر كتبه في بغداد. كان كسولاً ويكره أن يكون رجل علاقات عامّة. ولأنّ بغداد قد تمّ تحويلها إلى قفص، فقد سُجن فيها مثل عصفور سيكون عليه أن لا يستعمل جناحيه إلا حين يكتب الشعر. محلّيّة حسب الشيخ جعفر هي جزء من عمارة العزلة التي صارت تزيد من ضراوة الشعور العراقي بالتفوّق. أن يكون العراقي متطرّفاً فتلك صفة عاديّة. كان هناك شعور استثنائي بالتفوّق لدى الشخصية العراقية ارتدّ بشكل سلبي بعدما قرّر الحزب الحاكم أنّ جوهر العروبة يجب أن ينتقل من القاهرة إلى بغداد من غير أن يقتنع أنّ من حقّ العراقيين أن ينفتحوا على العرب. كانت النظريّة “بدلاً من أن تسافروا إليهم سنجيء بهم إليكم”. لذلك كان المدعوّون من القاهرة إلى مهرجان المربد يأتون بطائرات هي أشبه بالحافلات.
ولم يكن لشخص مثل حسب مكان في الحفلة. أشكّ في أنّ نزار قباني أو محمود درويش أو أحمد عبد المعطي حجازي كانوا قد تعرّفوا عليه شخصياً. وعلى الرغم من أنّ ضيوف المربد السعري كانوا يقيمون في فندق منصور ميليا المقابل لمبنى الإذاعة العراقية، هناك حيث كان يعمل حسب، غير أنّني على يقين من أنّه لم يعبر الشارع يوماً ما ليلقي التحيّة التي لا معنى لها على الأقلّ. مضت حياته عبثاً، غير أنّه كتب شعراً عظيماً. حين جلس أمام المحقّقة في إحدى سفارات دول اللجوء في عمّان، سألته: “يُقال إنّك شاعر عظيم، فهل أنت كذلك حقّاً؟”، فأجابها: “هم يقولون ذلك، لكنّني أشكّ في ما يقولون”، فرُفض طلب لجوئه وظلّ مقيماً لسنوات في بيت هو أشبه بصفيحة تنك.
قارّة تحوُّل شعريّ لم تُكتشف
يشبه حسب الشيخ جعفر بلاده، فهو مثلها قارّة منسيّة ضائعة. فحين أدخل النثر شكلاً كتابيّاً ونثار يوميّات إلى الشعر فقد قدّم نموذجاً سيكون من الصعب أن يجري تقليده أو التأثّر به إلا من قبل الكبار الذين يعرفون كيف يحتالون عليه كما هو الحال مع سعدي يوسف. لقد استفاد الأخير من تقنيّات حسب الشعرية، لكن لا يمكن وضعها تحت مجهر التقليد أو التأثّر. فعل سعدي ما كان بيكاسو يفعله حين يستعير من الرسّامين الكبار أهمّ ما لديهم من غير أن يرتكب جناية أو يبدو لصّاً.
إقرأ أيضاً: مظفّر النواب: وطن خلف ثقب الباب
كان سعدي من القلائل الذين أدركوا أهمية المنجز الشعري للشيخ جعفر، وهو ما فعله مع سركون بولص على الرغم من أنّ الأخير حظي باهتمام واسع لدى شريحة كبيرة من الشعراء (الشباب) الذين اكتشفوا قارّة لتحوُّل شعري لم يتمكّن النقد الأدبي من رصده. لقد أحاط سعدي سركون بولص بعنايته، وهو ما لم يفعله مع حسب الشيخ جعفر. وهو ما يضيف ظلماً، غير مقصود بالتأكيد، إلى الظلم الذي وقع على صاحب “الطائر الخشبي”. ذلك هو عنوان الكتاب الشعري الذي لو قُرئ عربيّاً لتغيّرت أحوال الشعر العربي الحديث. مات حسب الشيخ جعفر محروماً من رؤية وقع أثره في الشعر العربي المعاصر.
ذلك هو ثمن عراقيّته التي وضعته في قفص المحلّية التي سلّمته إلى العزلة. وهي عزلة تحرّر منها شعراء كبار مثل سعدي يوسف وفاضل العزّاوي وسركون بولص وعلي جعفر العلاق، فيما بقي شعراء كبار مثل سامي مهدي وياسين طه حافظ وعبد الرحمن طهمازي ويوسف الصايغ أسرى قفصها الذي صُنعت قضبانه من لهب الحروب.
*كاتب عراقي