مظفّر النواب: وطن خلف ثقب الباب

مدة القراءة 5 د

صورة شمسيّة

قبل تمثال “شهريار وشهرزاد” الذي صمّمه محمد غني حكمت، كان العشّاق قد اهتدوا إلى شارع “أبي نؤاس” مسرحاً لخيال تخترقه القبل السريعة في ظلال الأشجار. كان العشب يغنّي. في مقهى “السلام”، ضحك عبد الوهّاب البيّاتي والتفت إلى نهر دجلة. سألته عمّا يُضحكه فنظر إلى صلاح فائق باستفهام ولم يتكلّم. بعد سنوات سألته وكنّا جالسين في مقهى الفينيق بعمّان عن نظرته تلك وعمّا أضحكه، فقال ساخراً: “كنت أرغب في سؤاله عن مستقبل قصيدة النثر”. تذكّرت يومها أنّ الرئيس صدّام حسين قد فاجأنا بوقوفه إلى جانبنا، وكان قد دعا الشعراء إلى مأدبة سحور في رمضان في مجلس النواب. فيصل جاسم وساجدة الموسوي وأنا. كان يعرف الموسوي لأنّها صديقة زوجته كما كان يُقال يومها. طلب منّا أن نمشي معه. فمشينا مرتبكين. فجأة خرج من الجمع سلمان السعدي وهو يصرخ: “سيّدي قصيدة النثر”، التفت صدّام إلى وزير ثقافته لطيف نصيف وسأله: “ما بها قصيدة النثر؟”، فتلعثم الوزير. تدارك الرئيس الموقف ملتفتاً إلى سلمان السعدي: “ما الذي تحتاج إليه؟”. وقد كان السعدي معدماً، غير أنّه لم يطلب شيئاً سوى الاهتمام بمستقبل قصيدة النثر.
كوميديا خيالية وقعت أمامي جرّدتنا فيما بعد من إنسانيّتنا. مشت السوريالية حافية القدمين على شظايا زجاج الحزب. كان مستقبلنا قد بعثر أزرار معطفه وصرنا نجمعها ونحن نركض وراءه لا لشيء إلا من أجل أن نلتقط معه صورة شمسيّة.   
كنّا نقيم في التجريد فيما كان الواقع يضبط أوقاته على ساعة لم نكن نرى عقاربها. كنّا هناك، غير أنّنا لم نكن هناك حقّاً. لم نكن إرهابيّي لغة. في الوقت نفسه لم نكن خدمها. كنّا نخون اللغة وتخوننا في الوقت نفسه. كنّا عدوّين في قفص واحد. يوم نشر يوسف الصايغ كتابه الشعري “سيّدة التفّاحات الأربع” تعرّفنا على ألغام اللغة. شيوعيّ غاضب على الشيوعية كان في الوقت نفسه يجرّ الشعر إلى النثر بحنين إلى حكايات مبتلّة سطورها بالدموع.

كوميديا خيالية وقعت أمامي جرّدتنا فيما بعد من إنسانيّتنا. مشت السوريالية حافية القدمين على شظايا زجاج الحزب

قبل سنوات كان الصايغ قد استعار مرثيّة مالك بن الريب في كتابه “اعترافات مالك بن الريب”. لم يكن الصايغ هامشيّاً مثل جان دمو، لكنّه وقد انتهى في عصيانه فرداً غير منتمٍ إلى قبيلة في بلد تحكمه القبائل صار يبحث في هامش اللغة عن معانيه الحزينة. “لا أنظر من ثقب الباب إلى وطني/ لكنّي أنظر من قلب مثقوب”. يا لسكينتنا الوطنية. وطن يبحث عن وطنه وشاعر يبحث عن لغته.    

في حضرة صديق هتلر
حين جلس إلى جانبي في مقهى البرلمان لم يلتفت إليّ. عدت إلى قراءة رواية هيرمان هيسه “لعبة الكريات الزجاجية” فيما كنت أراقبه. لم أرَ منه سوى بدلته الرمادية القديمة وجزء من ربطة عنقه الزرقاء. ولأنّه لاحظ اهتمامي به مدّ يده إليّ مبتسماً: “أنا يونس بحري”. قلت له “أنت إذاً هو”، “تماماً” أجابني. وجهاً لوجه وابتسامة بلهاء تملأ شفاهنا. كانت بغداد يومها تعجّ بالمجانين. ولقد اشتُقّ الفعل “شمعَ” من الشماعية، وهو مستشفى المجانين الذي يقع في ضواحي بغداد. توهّمت أنّ الرجل الجالس إلى جانبي إمّا أن يكون هارباً من الشماعية أو أنّه قد “شمع” ولم يعد في كامل عقله. كان الرجل لطيفاً فلم أخيّب ظنّه. حين توثّقت علاقتنا بجلسات عديدة صامتة، همس في أذني: “أنا صديق هتلر”. ابتسمت له بطريقة مهزومة. غير أنّ نادل المقهى حين جلب الشاي له قال بلهجة صارمة: “هنا برلين. حيّ العرب”. حينئذ ضحكت من سذاجتي.
كنت صديقاً للرجل الذي عبر المانش هارباً من وطنه ليشيد أسطورته على جبل من الحكايات بدءاً من نسائه المئة المنتشرات في أنحاء الأرض، من إندونيسيا إلى ألمانيا وانتهاء بصداقته للملك غازي ثمّ هتلر. وكلّما غادرت المقهى بعد لقائه كان المستقبل يُخرج لي لسانه ساخراً ويقول: “أرأيت؟ أنت مستقبل ذلك الرجل الذي لو أنّه حلم ذات مرّة بأنّه سيلتقيك في مستقبله لكان انتحر في الحفلة الأخيرة التي أقامها صديقه”.   

إقرأ أيضاً: عراق “الإطار التنسيقيّ”

ذلك الدخّان الجنائزيّ
كان المستقبل العراقي يمارس هوايته في التزلّج فيما كان شيوعيّو الكفاح المسلّح بقيادة عزيز الحاج يمارسون في الأهوار هوايتهم في صيد الجنود العراقيين والخنازير وطيور الدرّاج المشهورة بغفلتها. لم تكن المغامرة يومها تستحقّ الكثير من التنظير. كان لصوص المطبخ العائلي قد عبثوا بكرم الضيافة. كان مظفّر النواب واحداً منهم.
الشاعر الذي شتم الحكّام العرب صار فيما بعد ضيفاً مكرّماً لديهم بدءاً من حافظ الأسد وانتهاء بسلطان بن محمد القاسمي. ترك هجائيّاته التي هي أسوأ من النثر العاديّ في القلب المثقوب وصار ينظر من ثقب الباب. وحين أصبح صديقه جلال الطالباني رئيساً لجمهورية العراق عاد إلى بغداد في زيارة تفقّدية أدرك أنّها لا تليق بنهايته.
أدرك يومها أنّ عراقيّته القديمة لم يعد لها موقع من الإعراب الذي وضع قواعده الحاكم المدني الأميركي بول بريمير فعاد إلى قطاره الليلي الذي لن يشكّ أحد في أنّ صفيره سيظلّ يخترق مستقبل العراق بدخّانه الجنائزي.

 

*كاتب عراقي

مواضيع ذات صلة

رفيق الحريري: هل تتحقّق العدالة بتصفية الأداة؟

“المخيف في الأعمال الشرّيرة هو أنّها تُرتكب على أيدي بشر عاديّين” حنة أرندت   ليس المقصود بتفاهة الشرّ بأنّ فعل الشرّ بحدّ ذاته مسألة تافهة….

لبنان والسّيادة… ووقاحة “الشّعب والجيش والمقاومة”

جاء المبعوث الأميركي آموس هوكستين أخيراً. لا يزال يعمل من أجل وقف للنّار في لبنان. ليس ما يشير إلى أنّ طرفَي الحرب، أي إيران وإسرائيل،…

أرانب نتنياهو المتعدّدة لنسف التّسوية

إسرائيل تنتظر وصول المبعوث الرئاسي الأميركي آموس هوكستين، بعدما بات ليلته في بيروت لتذليل بعض العقد من طريق الاتّفاق مع لبنان والحزب، على وقع الانقسام…

كيف ستواجه تركيا “فريق ترامب الصّليبيّ”؟

عانت العلاقات التركية الأميركية خلال ولاية دونالد ترامب الأولى تحدّيات كبيرة، لكنّها تميّزت بحالة من البراغماتية والعملانيّة في التعامل مع الكثير من القضايا. هذا إلى…