يفصل أقلّ من أسبوعين الولايات المتحدة عن مواجهة مصير شبيه بما حصل في لبنان في ظلّ حكومة حسان دياب، يوم أعلن الأخير تعثّر لبنان عن سداد ديونه. كان المشهد مشابهاً يوم الإثنين الفائت حين أعلنت وزيرة الخزانة جانيت يلين أنّ بلادها “مهدّدة بالتخلّف عن سداد ديونها” خلال الأسابيع المقبلة، وذلك للمرّة الأولى في تاريخها.
لكنّ ثمّة تسوية قد تبصر النور في الأيام المقبلة مع دعوة الرئيس جو بايدن الجمهوريين إلى “محادثات تفصيلية” بخصوص رفع سقف دين الدولة الأميركية البالغ 31.4 تريليون دولار، وسط إصرار من الجمهوريين على تخفيضات كبيرة في الإنفاق.
إذاً التخلّف عن السداد احتمال قائم، وهذا قد يشبه في الشكل ما حصل في لبنان. لكنّ في المضمون الأمور مختلفة طبعاً.
يفصل أقلّ من أسبوعين الولايات المتحدة عن مواجهة مصير شبيه بما حصل في لبنان في ظلّ حكومة حسان دياب، يوم أعلن الأخير تعثّر لبنان عن سداد ديونه
في أميركا المصرف الفدرالي يطبع الدولارات ليموّل الإدارة، بينما في لبنان يطبع المصرف المركزي الليرات اللبنانية ليشتري بها الدولارات.
في أميركا تسابق إدارة بايدن الوقت لتحاشي التخلّف عن السداد، من خلال إقناع الجمهوريين برفع سقف الاستدانة. بينما في لبنان كانت وراء التخلّف الحكومة نفسها التي تخلّفت عمداً عن السداد بسبب عدم توفّر الأموال وليس نتيجة خلافات بين الأحزاب على الاستدانة.
حكومة حسان دياب وبعدها حكومة نجيب ميقاتي فضّلتا صرف احتياطيات المصرف المركزي على الدعم، بدل انتشال الاقتصاد المنهار من كبوته. وهذا أقصى ما يمكن مقارنته بين ما حصل في لبنان قبل سنوات، وما يحصل اليوم في الولايات المتحدة.
ما قصّة “سقف الدين”؟
“سقف الدين” هو أصل الخلاف بين إدارة بايدن وخصومه الجمهوريين. وفيما يطالب بايدن الكونغرس برفع هذا السقف إلى مستوى أعلى، يرفض الجمهوريون السير بالأمر ويطالبون بخفض الإنفاق (لم نسمع أحداً في لبنان نادى بهذا المطلب منذ بداية الأزمة).
يهدّد الجدل في هذا الأمر الولايات المتحدة من خلال تحوّله إلى أزمة خطيرة، لأنّ التخلّف يُنذر بعواقب وخيمة على الاقتصاد الأميركي، ومن المؤكّد سترتدّ تلك العواقب على “سُمعة” الدولار في العالم، وستهدّد بخسارة واشنطن سلاحاً فتّاكاً استطاعت من خلاله أن تطوّع العالم اقتصادياً وجيو- سياسياً، وهو سلاح العقوبات.
سقف الدين هو أقصى حدّ يمكن أن يصل إليه حجم القروض التي تحصل عليها الإدارة الأميركية لتلبية التزاماتها المالية. هذا السقف يحدّده الكونغرس، وقد رفعه في عام 2021 إلى 31 تريليون دولار، وهو ما يعني أنّ إجمالي الدين يجب ألّا يزيد على هذا الرقم.
في حال بلوغ السقف بلا اتفاق، فإنّ الإدارة لن تستطيع الحصول على قروض جديدة، وهو ما يجعلها عاجزة عن سداد الديون السابقة، وذلك للمرّة الأولى في تاريخها.
العواقب على الاقتصاد الأميركيّ
أمّا أبرز ما قد يواجهه الاقتصاد الأميركي في حال تجاوزت الإدارة سقف الدين ولم يقرّ الكونغرس رفعه قبل دخولنا شهر حزيران، فهو:
– خفض التصنيف الائتماني للبلاد كما حدث في 2011.
– خلق صدمة كبيرة في سوق المال الأميركي.
– تراجع عدد الوظائف بالملايين.
– رفع أسعار الفائدة في مقابل زيادة تكلفة الاقتراض.
– ارتفاع الدين القومي للولايات المتحدة الأميركية.
– ركود اقتصادي قد يؤثّر على الاقتصاد العالمي برمّته، خصوصاً لدى الدول التي تربط اقتصادها بالدولار.
يمكن القول إنّ الأزمة كانت، كما هي اليوم، “أداة تفاوض” بين الحزبين، خصوصاً بعد الانتخابات النصفية في الكونغرس، وذلك من أجل الحصول على تنازلات “اللحظة الأخيرة”
– تراجع الدولار كـ”سلاح عقوبات”، لأنّ اعتماد العالم على أنظمة الدفع بالدولار يسمح لواشنطن بفرض عقوبات أحادية الجانب على الدول الأخرى والتسبّب لها بآثار اقتصادية سلبيّة كبيرة، فإذا تمكّنت الدول من التعامل بسهولة بعملات أخرى، فلن تكون واشنطن قادرة بمفردها على معاقبة خصومها بطريقة فعّالة.
مصداقيّة الدولار دوليّاً.. تتقهقر!
الخطر الأكبر سيكون سُمعة الدولار التي ستتقهقر. سيؤدّي ذلك إلى اهتزاز الثقة بالعملة الخضراء بشكل يدفع المستثمرين في العالم أفراداً ودولاً إلى بيع كلّ ما يحملونه من سندات تُقدّر قيمتها بنحو 7.3 تريليونات دولار.
في المقابل سيتسبّب هذا الاحتمال بخفض قيمة الدولار، أي أنّ كلّ ورقة من فئة الـ100 دولار ستتراجع قيمتها، وبالتالي ستضعف قدرتها الشرائية ولن تشتري السلع نفسها التي كانت تشتريها من قبل.
سيؤدّي ضعف الدولار أيضاً إلى إضعاف الاقتصادات التي تعتمد عليه، وسيتسبّب ذلك باضطرابات في العديد من أسواق المال في العالم لأنّ نسبة كبيرة من احتياطيات العملات الأجنبية في المصارف المركزية في العالم هي بالدولار الأميركي (نحو 60%).
المواجهة بين الحزبين الأميركيَّين، اليوم، ستكون أكثر ضرراً من أيّ وقت، وذلك بسبب التوقيت. فالأزمة مستعرة في وقت يتباطأ فيه الاقتصاد، ويسجّل التضخّم أعلى معدّلٍ في أربعة عقود، بينما وصلت أسعار الفائدة إلى أعلى مستوى لها منذ 15 عاماً (بين 4.75% و5%).
تنسى واشنطن أنّ النظام العالمي بات أكثر جرأة من قبل، وأنّ ارتفاع منسوب العقوبات التي تفرضها بشكل أحاديّ دفع بخصومها إلى السعي إلى تجاوز “نظام الدفع الدولي” القائم على الدولار. فالصين مثلاً انتقلت إلى مرحلة تدويل عملتها، ويشمل ذلك إبرام صفقة مع البرازيل وروسيا وحتى السعودية وغيرها من الدول لإجراء التبادل التجاري بينها بعملاتها. ومن شأن ذلك أن يساعد استراتيجية بكين، وسيؤدّي إلى تسريع “نهاية تفوّق الدولار” الذي تسعى إليه كلّ من الصين وروسيا وبقية دول الـ”بريكس”، لأنّ هذا الأمر سيؤدّي، بحسب “فورين أفيرز”، إلى “كارثة مذهلة” تشمل “إضعاف الاقتصاد الأميركي وتقويض المكانة الدولية للولايات المتحدة”.
تنازلات اللحظة الأخيرة؟
في عام 2011، نجت الولايات المتحدة من تخلّف مماثل قبل أيام قليلة من موعد التخلّف، عقب التوصّل إلى اتفاق بشأن زيادة سقف الدين.
يومها، فاز الجمهوريون في تشرين الثاني 2010 وطالبوا الرئيس باراك أوباما بالموافقة على تخفيضات كبيرة في الإنفاق، لكنّ الديمقراطيين رفضوا وتوصّلوا إلى اتفاق قضى برفع السقف.
لكنّ الجدل ترك “بصمة” واضحة في الأسواق المالية، فانخفضت أسواق الأسهم بنسبة 7% بين أيار وتموز من العام نفسه. وتراجع الدولار بنسبة 4% مقابل الين الياباني، و4.5% مقابل الجنيه الاسترليني، و2.5% أمام اليوان الصيني.
إقرأ أيضاً: نظام مصرفي جديد يولَد اليوم: الودائع إلى النسيان
انخفضت أيضاً الحصّة العالمية من احتياطيات الدولار لدى المصارف المركزية، بنسبة 1.4% خلال تلك الفترة، وهو ما يمثّل أكثر من 4 أضعاف متوسّط الانخفاض السنوي منذ بداية الألفية.
أمّا ما يحصل اليوم فلا يختلف عمّا حصل بالأمس، لأنّ الخلاف بين الحزبين ما زال مرتبطاً بـ”المبادىء”. فبينما يميل الديمقراطيون إلى زيادة الإنفاق الحكومي في العديد من المجالات، أبرزها الرعاية الصحّية والضمان الاجتماعي (أقرب إلى اليسار)، فإنّ الجمهوريين يرون أنّه يجب الحدّ من دور الإدارة وتقليص إنفاقها (أقرب إلى اليمين).
بمعنى آخر، يمكن القول إنّ الأزمة كانت، كما هي اليوم، “أداة تفاوض” بين الحزبين، خصوصاً بعد الانتخابات النصفية في الكونغرس، وذلك من أجل الحصول على تنازلات “اللحظة الأخيرة”… فمتى تأتي تلك اللحظة؟
بحسب الخبراء، لن تتأخّر..
لمتابعة الكاتب على تويتر: emadchidiac@