توقّفت في الأيام الأخيرة التصريحات والمواقف السياسية التي تتّخذ من الانتخابات الرئاسية والشغور الرئاسي موضوعاً لها.
لم يعد السياسيون والعاملون في الشأن العام من “السياديين” و”الممانعين” يرون في هذا أمراً ملحّاً، وذلك منذ عاد إلى لبنان السفير السعودي في بيروت وليد بُخاري.
قبل ذلك بقليل خفتت الروايات عن صعود أسهم هذا وتراجع أسهم ذاك. حصل هذا منذ بدأ الحديث بكثرة عن “تسويات” دولية، في مقابل ذواء الحديث عن لبنان الجمهورية الحرّة والسيّدة والمستقلّة.
في جولات ولقاءات بُخاري مع المرجعيات الزمنية والروحية أطلق “لاءات ثلاثاً” تدخل في صميم تمتين الاجتماع اللبناني أهلاً ودولةً:
1- لا فيتو على أيّ أحد.
2- لا دعم لأيّ مرشّح على وجه الخصوص.
3- لا للفراغ الرئاسي الذي أتى على لبنان إلى غير أجلٍ.
لبنان حالاً ومقالاً
اللاءات الثلاث التي أطلقها السفير السعودي في بيروت ومن أماكن مختلفة، وعلى معناها السياسي الذي يدفع اللبنانيين إلى التواصل والحوار لم تؤتِ أُكلها. كُلٌّ من القوى على شجرته ولا يريد النزول عنها. حتماً، إنّ وضعاً كهذا لا يعني غير أنّ رجال السياسة وأهل حرفتها ممّن تصدّروا الاجتماع اللبناني لتعليل سعير مبادراتهم وخطاباتهم يفترضون أنّ حنكتهم ودرايتهم تحملانهم على ما يفعلون.
الزخم العربي الذي تمثّله المملكة العربية السعودية في بيروت لم يُحفّز الساسة في لبنان على التحرّك لمعالجة الفراغ الرئاسي دستورياً وسياسياً
واقع كهذا لا يشي بغير هشاشة أهليّة في الحركة السياسية للاجتماع اللبناني. وهو يعني وضوحاً سافراً لمقدار السرعة التي يؤتي بها كلّ تحرّك إقليمي عندنا ضوابطه السياسية. التحرّك الإقليمي المقصود هو زيارة الوزير السابق سليمان فرنجية لفرنسا، ثمّ زيارة وزير الخارجية الإيرانية حسين أمير عبد اللهيان لبيروت، والتي لحقتها زيارة رئيس جمهورية الملالي إبراهيم رئيسي لسوريا.
الزخم العربي الذي تمثّله المملكة العربية السعودية في بيروت لم يُحفّز الساسة في لبنان على التحرّك لمعالجة الفراغ الرئاسي دستورياً وسياسياً وعلى قاعدة احترام المناصفة سياسياً لأنّها لا تزال مضمونة دستورياً.
صار معروفاً أنّ السياسة اللبنانية في ذاتها هشّة القوام ويسهل على الإقليمي، وهو بالتحديد إيراني، وعلى الدولي، وهو بالتعريف الفرنسي راهناً، أن يتناوشاها من الداخل. سهولة هذا التناوش تتأتّى من انخراط الحركة السياسية الداخلية مع العنصرين الإقليمي والدولي لاندماجها معهما في سياق واحد، وبعيداً من المواطنة والوطنية. وكذلك لاختلاط ما هو لبناني بكلّ ما هو إقليمي أوّلاً. والمعنى في هذا السياق استقاء الفعل اللبناني، هويّة وممارسة، من مَعين المحيط الإقليمي، وهذا يعني على وجه التحديد والدقّة محور الممانعة الذي نهل مديداً من سوريا وإيران.
أبنية العشائر والعصبيّات
جولات بُخاري بعد عودته من المملكة خلقت صمتاً مُطبقاً عند القوى السياسية. بدت هذه على مثال قوى الممانعة تريد أن تتورّط السعودية في انقسامات لبنان التي نبذتها مديداً. ومن أجل هذا كانت المملكة على الدوام طالبة تسوية كي لا يذوي الوطن الصغير. وحده رئيس حزب القوات اللبنانية استأنف ما كان بدأه في المواجهة مع المرشّح الرئاسي سليمان فرنجية.
الخفوت المستجدّ لقوى الممانعة خنق أخرى كانت انبعثت عند القوى “السيادية”. هذا الازدواج الحاضر يبعث بدقّة معنى تركيبة البلد الذي صار عصيّاً على أن يصبح دولة: التدخّل الإقليمي – الدولي في مقابل نصرة الأطر الضيّقة للجماعات على حساب الوطن – الدولة.
وبإزاء كثرة الدواعي التي يسوقها هؤلاء، وقربها بعضها من بعضها الآخر، عصبيةً وديناً وإلهاماً سياسياً وتجاذباً عصبيّاً، يبدو أنّ الجمع بين اللبنانيين، تحت لواء سياسة محلية عامّة أمر عصيّ المنال وعصيّ العقل معاً.
اللاءات الثلاث التي أطلقها السفير السعودي في بيروت ومن أماكن مختلفة، وعلى معناها السياسي الذي يدفع اللبنانيين إلى التواصل والحوار لم تؤتِ أُكلها
وإذا كان شعار الدولة محجّة أفكار السياسيين اللبنانيين، سياديين وممانعين، فإنّ الساسة اللبنانيين بنوا في عشائرهم عصبيّات تحبس في الأنفاس قلقاً واضطراباً. فالدولة عندهم فكرة تلازم قوّة الجماعة وأحزابها لا الاجتماع اللبناني العامّ. والدولة أيضاً وأيضاً متوقّفة على العصبية رهطاً وطوائف ولا ترهص بنهايات نخلص معها إلى سلم أهليّ وطيد، ولا إلى دولة على معنى الحداثة وما بعدها هاجسها التطوّر العلمي والاقتصادي والثقافي.
على هذا ينحو السياسيون عندنا مناحي شدّ عصبيّات الجماعات غريزياً وعلى أساس فهم “القوّة”. في حين أنّ السياسة تفترض بناء الدولة وهدم أسوار العصبيّات والجماعات المضطربة أهلاً وغيتوات.
الأسئلة الضروريّة
يسع اللبنانيون أن يسألوا القائمين على تدبير أمورهم أسئلة يبعث إغفالها على العجب والقلق في آن. ومردّ هذين، العجب والقلق، هو البحث عن سرّ “شغف لبناني عامّ” بالركون إلى الخارج. ومن كان منهم ينأى بنفسه عن ذلك، كما هو حال بُخاري وحكومته، يصبح محلّ ملامة وعتب. حيناً نعاتبه على تزخيم الوضع اللبناني وتشديده على الحوار الذي يبني دولةً. وأحياناً نلومه على لاءاته الثلاث، وهي كانت منذ أن تصدّر الشغور الرئاسي يوميّات السياسة اللبنانية.
السؤال الأوّل الذي يمكن طرحه: ماذا ينتظر المتناحرون؟ ولماذا يحجمون عن الحوار ويبلغون ما بلغوه بتكلفتين سياسية واقتصادية جرّاء مناكفات متطاولة أتت على الدولة إلى غير أجلٍ؟
إقرأ أيضاً: ماذا وراء ترك الرئاسة للّبنانيّين؟
يتضمّن السؤال الثاني شطراً من السؤال الأوّل ويتناول جدوى الخطابات المتكرّرة عن سلاح “حزب الله”، ثمّ العودة إلى ما يريده هو من “استراتيجية دفاعية”، وقول أحدهم ذات مرّة “الاستيعاب التدريجي” لسلاح حزب إيراني المنشأ والولاء.
في مواجهة الأسئلة الضرورية، يواصل “حزب الله” ومشايعوه، قوى وأفراداً، الذهاب مذهب خطابة ثورية عالمثالثيّة، ويغفلون في ذلك استحالة الجمع بين قوة الجماعة الأهلية وتصدّع الاجتماع اللبناني العامّ، أي استحالة وجود “جماعة ثورية” و”دولة” في آن.
إذا استمرّ الحال على ما هو عليه، فإنّ ما سيترتّب علينا هو خسائر صافية، لأنّ من يتولّى تدبيج السياسة هو غير من ستترتّب عليه النتائج.
لمتابعة الكاتب على تويتر: jezzini_ayman@